إن مساءلتنا لمسألة حدود الكونية والخصوصية لمشروع الحداثة الغربية، يتأتّى من مُسؤّغ جملة التحوّلات الكبرى التي حايثت تجربة هذه الحداثة، ونقلتها من كونها بديهية أو حقيقة يقينية إلى مشكلة وعائق ومآل عدمي ومأساوي، أو بعبارتنا : من معرفة الحداثة إلى مشكلة الحداثة. إن حقبة معرفة الحداثة تختصّ بانجذاب نحو مبادئ وأسس ومعايير ومُثُلا رسمتها خُطاطة التّنوير وانفعالات العصر الحديث، هذا الانجذاب سببه النّجاحات التي انبجست مع تحوُّلات العصر الحديث، أي نجاح العقلانية والرّصد التّجريبي للعالم، ومصفوفة المنافع التي حصل عليها الإنسان الغربي من خلال غزوه العقلي للطّبيعة. وحقيق بنا القول؛ أنّه نجاح لا يقارن إلا بالحقبة التي سبقت حقبة العصور الحديثة، إنُّه نجاح يُقارن ويفاضل بين أسلوبين من أساليب الحياة، أسلوب العصور الوسطى الزّاهد في خيرات هذا العالم والمحتقر لقيمتها الحسية، والباحث عن القيمة الكبرى في العوالم الأُخروية، وبين هذا الأمل والأفق الجديد التي استعاد للأرض قيمتها وللعالم المادي مجده الضاّئع، وللعقل فضاءه الحقيقي الذي يشتغل فيه، ونظرا لهذا المسعى الامتلاكي أضحت الحداثة بمبادئها : الإنسان والعقل والدّنيا ، تمارس إغواء لا نظير له في أفق العالم، وتبدّلت تبعا لهذا معاني الأشياء وقيمتها أيضا، تبدّلت قيمة ودلالة العالم ودلالة الإنسان ودلالة كافة العالم الثقافي بما يحتويه من رؤية إلى العالم وفنون وأخلاق ونظم اجتماعية وسياسية، أي أن الملمح الجوهري هو التَّأويل المادي المتحالف مع العقلاني للعالم.

إلا أن هذا التوهّج لم يحافظ على بريقه، وأناشيد الأمل الواثقة في المستقبل استحالت بكائيات حزينة، وهذا ما أسّس لحقبة أخرى هي حقبة : مشكلة الحداثة بدلا من حقبة معرفة الحداثة، إنها حقبة لا تمجّد الحداثة الغربية وأسسها، بقدر ما تنقض هذه الأسس وتُبصر فيها منابع المآلات العدمية والطّرق المُضلّلة التي سار عليها إنسان الحداثة معتقدا في كبريائه ومترنّحا بخيلائه الذي ظهر في حقيقته، وذلك من جهة كونه وعيا زائفا، وكبرياء مُصطنعا، وعقلا بائسا تعب من الحياة وفقد بوصلته بعد أن كان مرتكزا على الرؤية الدّينية. إنها أعراض العدمية وثقافة النّفي التي عبّرت عن نفسها في فلسفات التّشاؤم والمأساوية، من هنا استفاق العقل على كوارثه الإيكولوجية والبيولوجية واستفاق أيضا على إضاعته لكنوز القداسة ومنابع المعنى والقيم، وللأوامر الأخلاقية ذات الجذر الرّوحي الدّيني، وضمن هذا الإطار تشكّل جهاز اصطلاحي مليء بدلالات الأفول والاكتئاب كالانحطاط والأزمة والكارثة والانهيار والترَّاجع والدّروب المظلمة والقوى اللاّواعية و دوار العقل وغيرها،  وبسبب هذا لم تعد الحداثة الغربية نموذجا يحتذى في العلم والعمل، وبدت أعراض التصدُّع، حيث أزمة الذّات مع فرويد، وأزمة أسس العلم الحديث وظهور الفلسفات اللاّعقلانية والعبثية والوجودية، واستعادة فلسفة الدّين لنشاطها مرّة أخرى.

وبسبب هذه الأزمات والإشكالات فقدت الحداثة مرتكزاتها وتراجعت مقولاتها النَّظرية وممُكناتها التأويلية، إلا أن مساءلتنا إلى هذا المستوى تسائل مسارات الأسس الابستمولوجية الكبرى  للحداثة، وأن على مشاريع الحداثة المختلفة والتي تسعى إلى النّهوض والحركة، أن تتجنّب هذه الأسس وتبني لنفسها أسسا أخرى تنتفع بها الإنسانية في عاجلها وآجلها، بخلاف مسلكنا التَّساؤلي المتجه بشكل مقصود إلى نقد فكرة الكونية التي تبشّر بها الحداثة نفسهاـ ويبشّر بهذا الزّعم المتبني لمقولاتها في الخطاب العربي المعاصر، أي أن متغيّانا هو الكشف عن خصوصية الكونية الغربية وعن تجذّرها في انتماءاتها الثقافية، وفي المقابل نصيب الكونية في الحداثة وما المشترك الحداثي الذي ليس مخصوصا غربيا خالصا، بقدر ما هو الوشيجة التي متى كانت في أمة وعملوا بها، قاموا إلى الحركة والعطاء والتجدُّد.

أولا مبرّرات الموضوع :

  ثمة مبرّرات جمة دفعت بنا إلى التَّشاغل على هذا الموضوع بحثا واستشكالا ومن أقوى هذه المبرّرات :

1- ضبابية مفهوم الكونية والخصوصية على حدّ سواء، حيث جرى الاعتقاد بفعل هيمنة النّموذج الحداثة الغربي، أن الكونية هي النّموذج الحداثي الواقعي، الذي من الأقوم للثقافات الأخرى أن تسلك مسالكه في التّحديث والقيام الحضاري، في حين أخذ مفهوم الخصزصية دلالة ليست محمودة، بوصفها ترادف الإنغلاق والرّفض لأيّة ضيغة تثقافية أو تواصلية مع الخصوصيات الأخرى.

2- تكاثر الاعتقاد بأن الكونية تضاد الخصوصية، وإقامة تقابلات ضدّية بينهما، حيث أن الكونية تقتضي الكلية والعالمية، في حين أن الخصوصية تقتضي الانكفاء والانغلاق وعدم إقامة صلات تعارفية أو تعاونية بين أنماط الثقافات المختلفة.

3- هيمنة أشكال من الممارسة الثقافية تحت يافطة الحداثة، تقتضي التّفكيك والتصدّي لها، هذه الممارسات هي ممارسات انفصالية، أي منفصلة عن التّوجيه القيمي نحو المقاصد المتعالية والمشبعة بالإيمان، هذه الهيمنة تتمظهر لنا في : الاستتباع الثقافي والتّخريب الثقافي والتّنميط الثقافي، وجميع هذه  المظاهر .

4- معرفة المنظومة الحداثية على حقيققتها، بالكشف عن جوانب الكونية أو المشترك الإنساني فيها  وجوانب الخصوصية، لأنّ ما يتبدّى لنا مُجديا في مشروع الحداثة، هو وصفين أساسين : الإنبثاق من الذّات، والتّراكمية، فالوصف الأول يعني أنها كانت حداثة داخلية، لم تستلف معياريتها من ثقافة أخرى، إنّما استخرجتها من ذاتها، أما التراكمية فتعني الانتقال ومبارحة الوضع الحضاري نحو وضع حضاري آخر يعلوه تقدُّمُ. وهذا هو ما تتأسّى به إرادة المجتمعات التي تريد القيام والأخذ بقوة ذاتها نحو الحضارة والارتقاء.

ثانيا الكونية في الحداثة :

دلالة العبارة الحقيقة، التاريخ : ثمة مدخل منهاجي ضروري من ثقابة الرأي وجودته الإشارة إليه، هو مفهوم الكونية في دلالتها الثَّقافية الروّحية قبل أن يلتحم هذا المفهوم بتجربة الحداثة الغربية لكي تمسك به وتعبّر عن نفسها من خلاله، وسنسلك في تعريفنا للكونية دلالاتها الإجرائية التي تنسجم مع مسارات التّحليل في هذه المقالة، لا في معانيها المتشعّبة في المعاجم اللّغوية والاصطلاحية، ذلك أم معنى الكوني يستتبع معه  معنيين اثنين هما تواليا : الكلية [1]والعالمية، “والمراد بالكلي ما يصدق على جميع أفراد الإنسان من حيث هي كائنات عاقلة، وضدّه الجزئي؛… والمراد بالعالمي ما يصدق على جميع أقطار الأرض من حيث هي دول قائمة، وضدّه المحلّي “[2].

وإذا ماثلنا هذه المحدّدات مع تجربة الحداثة، فإنّنا نقول : أن الحداثة كلية تصدق على جميع أفراد الإنسان من جهة ما هي كائنات عاقلة، وواضح هنا أن مركز هذه الوحدة هنا هو العقل بما هو وصف مخصوص بالإنسان، يماثل توحدهم في الطّبيعة البشرية. أما القول بالعالمية فمقصوده الإشعاع من الغرب نحو بقيّة الأقطار الأخرى،  لأنّه لما كانت الضّمانة في العقل كأساس في وحدة الطبيعة الإنسانية، فإنّه لا فرق بين منشئها في الغرب وتلقّيها عند بقيّة الأقطار الأخرى، وهذا على وجه التّحديد ما قصده ” جون بودريار ” في مقالته إلى الموسوعة الفلسفية من أجل تفهيمه للنّاس معنى الحداثة من حيث هي ” نمط حضاري خاص يتعارض مع النّمط التقليدي، أي مع كل الثقافات السابقة عليه أو التّقليدية،  فمقابل هذا التنوّع الجغرافي والرّمزي لهذه الأخيرة، تفرض الحداثة نفسها باعتبارها شيئا واحدا متجانسا، يشع عالميا من الغرب”[3].

واضح من هذه الدّلالة للكونية، كيف ترى تأسيسها – أي هذه الكونية- على وحدة العقل والأصل الغربي لهذه الحداثة، حيث تسلك الثقافات الأخرى هذه المسالك الغربية في مشاريعها التّحديثية، وتكون مقاصدها الكبرى التّماهي مع هذا النّمط الحضاري الذي لا يعتدُّ كثيرا بقيم الماضي التي تكون من معوّقات هذا الإنجاز، بخاصة وأن تجربة الغرب مع ماضيه الثقافي هي تجربة ” مخيال الألم “، لأنّه لم يجد في هذه القيم مُنْهِضاتَ نحو الارتقاء في سلّم الكمال الإنساني بدلالتيه المعرفية والسّلوكية.

هذا من جهة التَّرابط بين الكونية والعقلية والحداثة، بالمعنى الذي جرى تلازمه مع أفق التَّجربة الغربية في الحداثة، لأن هذه الحداثة قد أمسكت بالكوني وعبّرت عن نفسها من خلاله، في حين أن النّزوع نحو الكونية ظاهرة منتشرة في التاريخ الثقافي للإنسان، بل إنّها ملازمة له ولأفقه الوجودي، فأيّة تجربة إنسانية بإمكانها أن تطوّر مفهومها للكوني الذي يصاحب تجربتها في العالم، أي خصوصيتها الرّوحية، بما يجعلها أفقا وجوديا مخصوصا تنجذب نحوه الأنماط الثقافية المتعاصرة له، أو تتعايش معه على نحو مختلف ومتوادد ومتآلف ” من أجل ذلك، علينا هنا أن نتابع أفكار غودمان Goodman عن أن ” العالم يكون على أوجه عدّة”، ومن ثمة أن نقبل ب ” تعدد العوالم”. فالبشر لا يصفون ما يحيط بهم على نحو مختلف إلاّ لأنّهم يرون العالم بشكل مختلف، صورة العالم هي أمر يتغيّر ويتعدّد. وإن تعدد العوالم هو الأفق الأنطولوجي المناسب لمعنى الكوني … ولذلك لا تحتمل أية ثقافة من معنى الكوني إلا بقدر ما تحتمل من معنى التعدّد”[4].

من هنا، فالكونية ليست فرض نموذج حداثي كلي وعالمي، تنفعل به الخُصوصيات الثقافية الأخرى، إن الكوني جملة من الخصوصيات الثقافية التي تتجدّد بالتلاقي وتموت بالتّنافر والتّباغض والتحاسد، وأن الملمح الجوهري للكونية هو المقدرة على الكون ضمن الأفق الكوني، هذا الكون ليس له محدّد واحد، أو معايير واحدة، لأن النجاح المادي والاقتصادي الذي لازم تجربة الحداثة الغربية، قد أوهم أن المعيار للكون في مستوى الكونية هو حفز الهمم من أجل تأويل العالم اقتصاديا، وليس هذا على التحقيق إلا النّموذج الحداثي الغربي الذي ربط بين الأفق الكوني والازدهار الاقتصادي، والحقيقة تطالعنا بالدّروب الرُّوحية المسدودة التي أنتجها، هذا التّأويل  المادي للعالم.

هكذا، إذن يمكن الولوج مفهوميا إلى دلالة الكونية بمعناها المُنفصل، أي منفصلة عن تجربة الغرب التي أمسكت بالكونية كأفق إنساني معاش، ورتّبت بيتها التأويلي تبعا لرؤيتها هي . إن الكونية لا تعني الواحدية الثّقافية، وإنما صيغة من صيغ الوجود في العالم، تشبه الفُسيفساء الفنّية الجمالية، التي تختلف لكي تقدّم نموذجا جماليا يبعث على الرّوعة والإعجاب، إنّها تشترك أيضا في رصيد القيم المعنوي، فهي تبعا لهذا، كونية القيم المعنوية الإيمانية.

أي ثمّة صلة بين الكوني والمشترك، عبّر عنه فلاسفة الرّاهن بتعبيرات مختلفة، تدل بصورة جوهرية عن إخفاق النُّموذج الكوني الحداثي الغربي الذي كان يشاهد الصّورة من الدّاخل، من هذه التعبيرات “الكوسموبوليطيقية والضيافة الكونية”،  كانط و”الكينونة معا في العالم” و” العيش معا” و” المسؤولية إزاء الغير” (ليفيناس) و” مبدأ حسن الظّن” principe de charité، و”إيتيقا النّقاش” و”الجماعة اللغوية المتكونة من متحاورين جيّدين”.

ثالثا : مظاهر خُصوصية الكونية الحداثية

1 – الكونية الحداثية باعتبارها إرادة قوة : إن التّجربة الحداثية الغربية على الرّغم من نُزوعها نحو أفق الكونية وإيهام المجتمع العالمي بذلك، إلا أنّها كانت تستبطن إرادة القوة والهيمنة، والسّعي نحو إخضاع الأنماط الثقافية الأخرى لنماذجها في تمثّل الآخر، حيث انشطرت العلاقة بينها وبين المختلف الثقافي عنها انشطارا تفاضليا، أضحى الغرب بموجب هذا الوصف هو الذّات، والآخر المختلف هو الموضوع، والغرب بهذا يمارس نوعا من القوامة الثقافية والعلمية والأخلاقية، منبعها الأساسي هو الشعور بهذا النّفسية  المتعالية الاصطفائية صاحبة الرّسالة إلى العالم ” الصّامت”.

إن كونية الحداثة، هي كونية الإنسان الذي يبصر في ذاته أنّه الأرقى والأفضل، وهي كونية تصوير الذّات باعتبارها تملك الحضارة الأفضل، وإنّها لا تتوقف عند هذا المستوى، بقدر ما تفرض الأجواء النّفسية التي تجعل الخاضع لقوتها، يدرك ذاته، من خلال مقولاتها عنه، ومن خلال تمثّلها له، وبهذا يجري ترتيب الصّلة بينها وبينه، بوصفها صلة تعايش واختلاف في الأصل، تعايش بين قوة مهيمنة، تمتلك الإمكانات التقنية وأدوات التحطيم، في مقابل قوى خائرة، مُنهكة، شاعرة بضعفها وكأنّه طبيعة أصلية فيها، ومؤدا هذا، أن الكونية التي أتت بها الحداثة إلى العالم، هي كونية بالخط المائل، أو بالرُّؤية من جانب واحد، وبهذا الإجراء أضاعت هذه الكونية ما تمتلكه الثقافات الأخرى من رصيد القيم المعنوي، ومن رُؤى للعالم متوازنة وأنظمة قيم توحّد بين الطَّبيعة والفضيلة، ومن مقاصد تجمع بين مصالح الإنسان كلّها.

من هنا، جرت المطابقة بين النّسق الثقافي الغربي وبين الكوني، تسليما بتفوُّقية الحضارة الغربية، وبدُونية الأنساق الحضارية الأخرى، من هنا، فإن ثمّة لفتة منهجية من الأقوم لنا منهجيا الإشارة لها، هي التّفريق بين مفهوم الحداثة بالمعنى الذي يتحدّد في المعاجم و الموسوعات، وبين الحداثة كما هي متحقّقة في التاريخ والواقع، فالمفهوم المعجمي مفهوم بارد، يختزل المتنوّع والمتعدّد استجابة للبناء المفهومي، وقد كان نيتشه على حق، عندما قال بأن المفاهيم تجمّد نهر الصّيرورة وتفرغ الموجود من دم الحياة، لأنها اختزالية بطابعها، إنّها تظهر الموجودات باهتة، ثابتة، شبيهة بضحية العنكبوت المفرغة من دم الحياة، تتجلّى وكأنها حيّة، في حين أن الموت قد زحف إليها ولم يُبقي منها شيئا، ونحن لازلنا أساري لمفاهيم الحداثة المُعجمية، وننافح عن مبادئها، وكأنّها واضحة بذاتها، نعتقد بأن جثّة المفهوم حيّة، في حين أنّها مليئة بالدّماء والصّراع ، إنّها “حداثة الإخضاع”، و التّراتب الثقافي والإقصاء لعوالم الاختلاف.وليست حداثة العقلانية والحرية والإنسان، التي ليست قيما إلا من الداخل، ولا تضيء إلا في حدود الأطر الثقافية والجغرافية الغربية، أما المناطق الأخرى : المُظْلمة، فهي عديمة القيمة، عديمة المعنى، لكن ما هو مؤكّد أنّها موصوفة بهذه المواصفات؛ من خلال منظور، يريد شيئا، تحرّكه إرادة قوة، ترغب في أن تسيطر وتهيمن، ترغب في أن تختلف، ترغب أيضا في الاستمتاع باختلافها، وتنفي ما يختلف، إنها تقيم لنظام تراتب ومسافة بينها وبين من يقع خارج دائرتها.

2- كونية الحداثة باعتبارها كونية الانفصال عن القيمة : إن المقاصد المحمودة التي كانت تتجه نحوها جهود التّنويريين الأوائل، كالقول بالاستقلالية عن السّلطة السّياسية للدّين، وتشغيل العقل من أجل استكناه حقائق الأشياء، لم تكن تدري أن الأجيال التّالية للتّنوير الأوَّل، ستكون أكثر حّدة وتجاوزا، ستتجه بمقولات التّنويريين الأوائل إلى أبعد مستوى وأكثر انسياقا خلف مُثُلِ العقل المتنكّرة لدور الدّين في المعرفة أو القيم، إنها لوحة تبدو على سيماتها ملامح ّ” الإلحاد واللاّروحانية ونقد كل الأديان المنزّلة وغير المنزّلة، ونقد القيم الأخلاقية والسياسية المرتبطة بالقيم الدّينية والميتافيزيقية، الذي يتضمّن بالأساس نظرية في الخداع السياسي للدّين، وإقرارا بالوحدة ” المادية ّ” للطّبيعة، بما في ذلك الماهية الطّبيعية للإنسان، وما ينتج عن ذلك مما كان يسمّى آنذاك “الجبرية”، أي التّفسير الضّروري الذي يحيط بكل ذلك المجال الوحيد الذي هو الطّبيعة[5]، هذه اللّوحة التّدميرية لكل روائح الميتافيزيقا والدين، جلبت معها قيما مقلوبة للقيم التي كانت سائدة في الزّمنية السّابقة، من أجلى هذه القيم : الانجذاب نحو مملكة النّاس بدلا من مملكة الرّب، والثقة المفرطة في ثقتها في العقل وقدرة الإنسان على المعرفة ” اليقينية والصّحيحة”، والنّظرة التقدّمية المفتوحة على الزّمان، والتوّسل بادئا بالمنهج الرّياضي وثانيا بمنهج الرّصد التّجريبي كقنوات أساسية ووحيدة في كيفية فهم العالم واكتشافه.

إن حركة التّنوير بمبادئها قد دفعت بالفكر إلى مزيد السّير خلف نظام التفكير والقيم المادي، وتشكيل مفارقة بدت أعراضها واضحة، أي ” الطريقة العجيبة التي من خلالها نجح تقدّمها عبر القرون التي أعقبت الثورة العلمية والنّهضة في تمكين الانسان الحديث من امتلاك قدر غير مسبوق من الحرية، النّفوذ، التوسع، سعة المعرفة، بعد النّظر، النّجاح الملموس، ولكنّه أسهم في الوقت نفسه- بمكر في البداية ونقديا بعد ذلك- في تقويض وضع المخلوق البشري الوجودي على جل الأصعدة : الميتافيزيقية والكوزمولوجية .المعرفية، النّفسية، وحتى البيولوجية أخير. ثمة توازن لا يعرف معنى الرحمة “[6].

من هنا، جلبت كونية الحداثة، الانفصال عن القيمة، وإسكان الممارسات السلوكية في الرؤية الطبيعية وتوابعها في اللّذة والمنفعة والقوة، ومن أقوى المظاهر الأساسية التي يمكن رصدها كمظاهر لانفصال الحداثة عن القيمة تاليا:

أ. وحدانية السّوق أو ثقافة الاستهلاك : يعني هذا المظهر من مظاهر أفول القيم، هيمنة الحياة المادية على سلوكات الإنسان، وانتقال قيم السوق التجارية إلى دائرة الحياة الإنسانية، فالسوق لم تكن صلته بدوائر الأخلاق ممكنة، كان للتجارة مكانها وللحياة مكانها أيضا، لكن الملمح الجوهري للحياة المعاصرة هو تحول جميع القيم الإنسانية إلى قيم تجارية، بما فيها قيم الفكر والفنون و الضّمائر، ” ومن الممكن لنا، قي الوقت الحاضر، أن نتّبع مسار نموذج النمو الغربي بدءا من الخطإ القاتل لتوجيه عصر النّهضة المزعومة، أي ولادة الكم، والمحاكمة الذّرائعية، المحاكمة الدّيكارتية، دين الوسائل وقد بتر منه المعيار الأول للمحاكمة: هو التّفكير في الغايات النّهائية للحياة ومعناها”[7].

إنه هذا الدّفع للتعلٌّق الشديد بالحياة الدّنيا، ونسيان أو الغفلة عن البعد الغائي للحياة الإنسانية، أورث نتائج كبرى منها : المخدّرات والتسلُّح والفساد، فالمخدّرات أضحت هي بخور معبد ّ وحدانية السُّوق، والتسلُّح أيضا كما يتجلّى أيضا في إقدام الولايات المتحدة الأمريكية على اعتبار صناعة التسلُّح من أكثر الصّناعات إقبالا، ويجري تسويقها من أجل الرّبح والمصلحة كغايات نهائية، وهذا ما أنشأ كما يقول هربرت ماركيوز ” الإنسان ذو البعد الواحد”، وهو إنسان تتركّز أحلامه وفكره حول السّلع وكيفية الحصول عليها، وأن ذاته يحقّقها بقدر ما  يحصل على السّلع ويشبع رغباته. إن وحدانية السوق أضحت شبيهة بالفعل الإلهي الذي يتحكّم في أذواق النّاس ويوجّهها إلى مقاصد القيمة المادية والمصلحة الاستهلاكية، ضمن هذا الإطار ” يظنّ الإنسان أنه يمارس حرّيته وفرديته، فمجال الاختيار في عالم السّلع واسع لأقصى حد. ولكن هذا يخبّئ الحقيقة الأساسية وهي أن مجال الاختيار في الأمور المهمة (المصيرية والإنسانية والأخلاقية) قد تقلّص تماما واختفى، وأن هذا الإنسان فقد مقدرته على التجاوز وعلى نقد المجتمع”[8].

إن وحدانية السوق هذه، واتساع تأثيرها همّشت من دائرة القداسة ورسّخت المعنى المادي للحياة وأفرغت الوجود من غاياته ومقاصده الإيمانية، لقد عظّمت الوسائل ورفعتها إلى مرتبة الغايات.

ب. ضمور الأخلاق في  الأسرة  والثّورة الجذرية  : ثمة تحوُّل نوعي وخطير في مستوى أنماط الأسرة في الغرب، وهي تحول يعكس في حقيقته انطلاق الإنسان المعاصر من الضّوابط والمقاصد الأخلاقية للزّواج، ففيما مضى قدّست التعاليم المسيحية الزّواج المكون من الأب والزّوجة والأولاد، واعتبرت الرّابطة مقدّسة، وحرّمت الكنيسة الكاثوليكية الطلاق من أجل الحفاظ على هذا الكيان الاجتماعي العام، لكن هذا الشكل من الأسرة أضحى غير مرحّب به في أنماط حياة الإنسان المعاصرة، ودخول زمن ” مابعد الحداثة”، الذي بات يؤمن بأشكال غير معهودة من الأسرة كالزواج المثلي، ولقد أدّى هذا التحول في القيم الأسرة إلى تآكل الأخلاق الأسرة، هذا فضلا عن أحادية الأسرة التي يكون فيها أحد الطّرفين غائبا، حيث يعيش فاقدا لمصادر الإمداد بالقيم التي لن يتلقّاها إلا من الوالدين.

هذا ومن العوامل المساعدة أيضا على تفكك الأسرة، الولع بالتّصنيع والتحضُّر بدلالته المادية ” ولقد أدّت عملية التّصنيع، مقترنة بحركة التحضُّر السّريعة، والهجرة إلى المدن الكبرى وتزايد السكّان، إلى جانب عوامل عديدة أخرى في الغرب بصورة تدريجية في القرن الثالث الهجري/ التاسع عشر ميلادي وبدايات القرن الرابع عشر الهجري/ العشرين الميلادي، إلى انهيار كثير من الروابط الاجتماعية التقليدية في المدن الكبرى وبدرجة أقل في المناطق الرّيفية مما أدّى إلى تمزّق الأسرة وضعفها بصورة تدريجية”[9].

بالإضافة إلى مبدأ الفردية وطغيان الذّات، وهو مبدأ حداثي اعتبره هيجل  ركزة قوية من ركائز العصر الحديث، حيث أنّ الذّات لا تقبل إلا ما يحقّق ذاتها ويمجّد قيمها، فلا يمكن لإنسان يسعه باحثا عن اللّذات الفردية أن يصبر على بكاء طفل، إلا إذا كان يؤمن بنزعة إنسانية تتجاوز القيمة المادية وتؤمن بالأمومة والأبوة.

ج. هيمنة وسائل الإعلام وتكريس ثقافة الصّيرورة : إن وسائل الإعلام بخاصة المرئية منها، أضحت تمارس دورا مركزيا في خلق وتوجيه رغبات النّاس، نحو طاحونة الاستهلاك وقيم الموضة والانشداد نحو الصّورة، هذا ما أسهم وبحجم كبير في تقليص ثقافة الالتزام بالضوابط الأخلاقية، ومعها عنصر القداسة باعتبارها منبع القيم الكبرى وأساس التّوجيه نحو القيم الأخلاقية، ويعد نجاح الهيمنة الإعلامية في الولايات المتحدة الأمريكية، أسطع دليل على تحويل العالم إلى مادة استعمالية وقيمة اقتصادية وتهميش الأبعاد الإيمانية في الإنسان، ” فالإعلام في و-م-أ، له سطوة، خاصة وأنه فنيا ناجح جدا ومسل، فأتفه الأشياء يجعلونها مسلية وجميلة، الإعلام الأمريكي نجح في ترسيخ الرؤية الاستهلاكية، فقد قام الإعلام بتفريغ الإعلام الأمريكي من الداخل وإفقاده الملكة النّقدية وأوهمه بحرية الاختيار التي تدور في فلك حتمية الاختيار الاستهلاكي والهدف المادي المنفصل عن نظام القيم التوجيهي “[10].

وهذا تحديدا ما قصده ” جون بودريار” في كتابه ” المصطنع والاصطناع”، أثناء تحليليه لقيمة المعنى في دوائر هيمنة وسائل الإعلام ” نحن نعيش في عالم تزداد فيه المعلومات أكثر فأكثر، بينما يصبح المعنى فيه أقل فأقل”[11]

وانحسار المعنى مؤدّاه أيضا فقدان القيم قيمتها، وتحول وسائل الإعلام نفسها إلى واهبة للمعنى وخالقة للقيم، لكنّها قيم الاستهلاك وتنمية البعد الجسماني على حساب البعد الرّوحاني، أين يفقد الإحساس بالبعد الجوهري باعتباره مرتكز الكيان البشري مكانه، وتملأ حجب الغفلة عن القداسة قلب الانسان وروحه وتمنعه من الاتصال بالدّين الذي من مقاصده بناء الإنسان التّزكوي، الحامل لقيم الإيمان والارتقاء الروحي، والسّالك مسالك العبادة بالمعنى الحضاري، أي العبادة التي تجمع بين الإيمان الروحي والإيمان العمراني.

هذه هي إذن، مظاهر ” ضياع القيم”، في الممارسات السلوكية للإنسان الغربي المعاصر، وهي مظاهر تعد علامات أو أعراض على ترسّخ نظام القيم الاستهلاكي وتوسيع مساحات اللّذة وتقوية المحسوسات، بما يؤول إلى حجب نظام القيم الأخلاقي الإيماني، وتدمير المعنى والعيش في رشادة القفص الحديدي الذي يمسك بدوائر الحياة برمتها نحو مقاصد اللّذة و الجمع ” جمع المال” ونسيان الوظيفة الاستخلافية، التي لا يقدر على إنجازها إلا إنسان التزكية وإنسان الإيمان وإنسان القداسة والمعنى.

ثالثا كونية الحداثة باعتبارها تدميرا للخصوصيات الثقافية :

ثمة ظاهرة متلازمة مع الاستعمار التقليدي، عندما يصل إلى الشعوب التي يرغب في الهيمنة عليها، هي فضلا عن نهب ممتلكاتها وإمكانياتها الحضارية، التعدّي إلى الخصوصيات الثقافية ورصيد القيم المعنوي المشترك، من أجل إذابته وتعطيل مفاعيله، وتكوين أجيال أخرى لا تربطها صلة بين موروثها الثقافي المعنوي ورموزها التاريخية، من خلال تحويل أماكن  الرُّموز الثقافية كالمساجد، لآداء أدوار أخرى وتعطيل وظيفتها الأصلية، مثلما حصل في الجزائر أثناء الاستعمار الفرنسي، الذي حوَّل المساجد إلى اصطبلات وكنائس، وسلك سياسة ثقافية رام من خلالها إقامة الفصل بين ثقافة الإنسان الجزائري بكافة مركباتها الدّينية وبين الاستمداد من هذه الثقافة، وتشير القراءات التّحليلية التاريخية إلى حجم الحضور المكثّف لهذه الأساليب الاستعمارية  التي سعت نحو إلغاء الخصوصيات الثقافية الأخرى ، وتجربة الجزائر تقدّم النّموذج الساطع، لأن السياسية الاستعمارية بعد أن امتلكت المصادر الاقتصادية للجزائر ، اتجهت إلى مصادر القوة أو العمق الاستراتيجي للمجتمع لإضعافه من جهة، ولبلورة كيان ثقافي جديد مبتور الصلة بالكيان الثقافي الأصلي، وهذه ليست إلا صورة من صور كونية الحداثة التي سعت إلى تدمير الخصوصيات الثقافية الأخرى، ومن الأساليب التي ركّزت عليها الدوائر الاستعمارية تواليا : إنهاء الوظيفة الاجتماعية والثقافية لمؤسسة الأوقاف في الجزائر، تدهور أماكن العبادة والمعالم الإسلامية، تدهور منظومة التكافل الاجتماعي، تهميش دور مؤسسة القضاء الإسلامي، إيقاف الوظيفة الإيجابية للزوايا، محاصرة الدين الإسلامي وتجهيل الجزائريين به، القضاء على المرجعية الدّينية، التدخُّل القسري في الحياة الدّينية، إضعاف اللغة العربية، إشاعة التلويث الأخلاقي في المجتمع العام، تغريب المحيط بفرض الطابع المسيحي”[12]

هذا على صعيد الاستعمار التقليدي اللاّغي للخُصوصيات الثقافية الأخرى، أما في عالم اليوم، فقد تغيّرت آليات ومقاصد إلغاء الخصوصيات الثقافية، لكن ليس بمنطق القوة المباشرة، وإنما بمنطق السعي نحو ترسيخ فكرة الإنسانية الواحدة التي تعرف أقوى تجلّياتها في زمن العولمة، ” ففكر العولمة هو في جوهره العودة إلى هذا الإنسان الطّبيعي، الذي لا يعرف الحدود أو الهوية و ليس عنده أيُّ اكتراث بالقيم الأخلاقية والمعنوية مثل الكرامة والارتباط بالأرض والوطن والتّضحية، وحيث إن الإنسان الطبيعي هو ذاته الإنسان الاقتصادي، لذا فكل مطالبه وتطلّعاته تظل داخل السقف المادي[13] . وهذا التَّقرير يتقابل ضِديا مع فكرة الإنسان الإنساني بالمعنى المتجاوز لسقف المطالب المادية والدَّوافع الحيوية، أي إنسان “الخصوصية المفارقة “، الذي يتوفر على بعد آخر يمنحه الحرية القصوى في ترتيب بيته الحياتي مع العالم، والخُصوصية المفارقة هي الهوية الحقيقية، وفي الرؤية الإسلامية للإنسان تأكيد على هذا التلازم بين الخصوصية المفارقة وبين الحرية، وتأكيد أيضا على تركيبة الإنسان لا على أحاديته بالمعنى الجسماني الذي يرغب دعاته في أن تكون له الكلمة العليا، ذلك أن ” للإنسان علما بأسماء الأشياء ومعرفة الله سبحانه وتعالى ، وان له أجهزة روحية وعقلية للمعرفة والإدراك مثل القلب والعقل، وأن له ملكات للشهود والتجربة في أبعادها المادية والذّهنية والروحية، وهو ذو نفس لها الاستعداد لتلقي الهداية والحكمة، كما أنه ذو قدرة على تحقيق العدل مع ذاته. ولكنّنا نقول كذلك إنه كثير النسيان والظّلم والجهل، ففيه على حد سواء الصفات الإيجابية والصفات السلبية التي تتصارع من أجل السيطرة والسيادة، ولكن فيه كذلك قد طبعت وسائل الخلاص من خلال الدين الحق والاستسلام الصادق “[14].

لكن السؤال الأكثر إلحاحا هو لماذا لجأت ماضيا، وتلجأ حاضرا كونية الحداثة إلى تدمير الخصوصيات بدلالتيها : الخصوصية الثقافية والخصوصية المفارقة؟ هل من أجل أن تعيد صياغتها وفق رؤيتها الثقافية أو إدماجها كيما تكون من جنسها ؟ هل هذه هي المقاصد الحقيقية ؟

برأينا أن نزوع الكونية الحداثية الغربية نحو إرادة تدمير العالم الثقافي بخاصة على مستوى العالم الإسلامي، أن الشعوب المقهورة المُخضعة، لن تجد إلا رموزها الثقافية من أجل الاحتجاج والمقاومة، ومن أجل التصدّي لإرادة الهيمنة الظّافرة، ويعد الدين في طليعة الرموز الثقافية التي تبدأ الدوائر الاستعمارية بخلخلة الاعتقادات حول تعاليمه، تمهيدا لإفراغه من المضامين التحررية و الإمدادية، ذلك أن الدّين ليس عنصرا من عناصر الثقافة فقط، إنّما هو النقطة المركزية التي تصنع العناصر الثقافية برمتها، إذ لا يمكن اختزاله في إمداده بالرؤية الإدراكية للعالم، بقدر ما هو منظومة من الطّقوس الاجتماعية التي توطّد شبكة العلاقات الاجتماعية وتمنح للوجود معنى، وللعلاقات الاجتماعية وظيفة أو دورا حضاريا، وعندما تذهب إرادة الاستعمار إلى هنا، فإن مُبتغاها طمس هذه الوظيفة التحرُّربة  للدّين وإفراغه من أيّة طاقة تمنح الإنسان المُستعْمَر همة المناهضة والتصدّي.

نلخّص فنقول، إن إرادة محو الخصوصيات الثقافية  التي أتقنتها كونية الحداثة الغربية تجد مبرّرها الجوهري في توقيف  وتجفيف منابع المعنى والقوة، وتجفيف إمكانية الوجود الآخر المختلف ثقافيا، الذي يمتلك الرّصيد المعنوي من القيم التي يتمثّلُها ويملأ بها العالم بالمعنى والأرض بالخير.

هذا فيما هو موصول، بالمرحلة التقليدية من الاستعمار، أما في واقع العولمة الكوني، فإن السّعي نحو إلغاء عنصر الخصوصية بمضامينه المرُكّبة : العقلية والمقدّسة،  في مستوى فهم الإنسان وبيان طبيعته الأصلية، فالمراد منه تحوير المفاهيم وقلب التصورات من أجل واقع آخر اسمه وحدانية السوق والإنسان ذو البعد الواحد، وأيضا في :

 إطلاق تسمية حرّية على اقتصاد سوق بدون حدود كمنظّم وحيد للعلاقات الإنسانية.

وإطلاق تسمية تقدُّم على التزايد المستمر في القوى التقنية والعلمية للسّيطرة على الطّبيعة والبشر.

وإطلاق تسمية نمو على الزيادة الهوجاء للإنتاج والاستهلاك“[15] .

هذه هي إذن، مبرّرات القول بتدمير الخُصوصيات المحلّية، الشعار المستبطن والمتجلّي في مشروع كونية الحداثة، الذي لا يأبه بالخُصُوصيات الثقافية ولا يَجعلها في مقام نموذجه التّأويلي للعالم، إنها حرّية العبيد، وتقدّم التقهقر، ونمو الجسد على حساب الإيمانية والمفارقة. إن النمو الحقيقي لا يوجد إلا في الإنسان، الإنسان المتعدد المركّب، الذي تنمو كافة قواه الخلاّقة، وتتوازن في هذه التنمية، إنسان الكونية نمى من حيث قوته الجسمية، ولم ينمو من حيث قواه الروحية والعقلية. ما دفع بالاجتهادات الفكرية المعاصرة الإحساس بالحاجة إلى تأسيس الأسس من جديد، ووضع المعايير من جديد أيضا،   هذه الحاجة مركبة بين المقاومة والثورة في هذه الأسس، لأن كنور العالم القديم الدّينية قد زحف الموت نحوها، ويوشك أن يصل إليها، وأسس العالم الجديد تصدّعت جدرانها التأويلية ولم تعد قادرة على القيام والنّهوض بسبب فقدانها للمسوّغات، إنها غير قادرة حتى على مراجعة ذاتها، تشبه السير الجارف الذي انطلق ولم يعد يقوى على التوقف لحظة واحدة من أجل التفكير، إنّها تخشى حتى التفكير في مصيرها، و”إدغار مورانEdgar Morin ، في مساءلته عن وجهة سير العالم، طوّر فكرة الأسس التي تعني  :

·   تأسيس بؤر المقاومة بكل ثقافة ستكون في الوقت نفسه بؤر انطلاقة ثقافة جديدة .

·   تأسيس نسيج جنيني من العلاقات الاجتماعية الجديدة ومن علاقات حياة مغايرة.

·  تأسيس تجمعات البحث، حيث يتم بذل مجهود كبير قد بلورة مبادئ فكر غير مبتور/ وغير باتر من أجل فهم عالمنا، وزماننا وذواتنا“[16].

لنقل إذن، ومن دون مواربة أن الأفق الممكن هو إمكانية تجديد الثوابت القيمية للحضارات الأخرى، لأن الحضارة المهيمنة تستمدُّ شرعيتها من تفوقها المادي، وليس من قداسة قيمها، والثاني أن تردّي الأوضاع الاقتصادية للحضارات الأخرى ليس عاملا من عوامل فقدانها لدخول التاريخ، لأن قانون تداول الحضارات يمدها بسعة الأفق، ويؤكّد أن المشروعية هي لشرعة القيم الروحية، أو للقيم العليا النّاظمة لدوائر الحياة، وليس لمعيار الوفرة الاقتصادية المنفصلة عن تسديد القيم الإيمانية التوجيهية، فضلا عن أن الخروج من نفق التخلُّف المُظلم موقوف  حصوله من جديد، على  نسغ الحياة أي منظومة القيم الروحية بشكل  متوازن ومتكامل.

رابعا :  من الكونية العنيفة الواحدة إلى كونية الخصوصيات المتعارفة

تجلّى لنا، استحضارا لتحاليلنا السابقة، المتعلّقة برصد واقع الكونية العنيف، أن هذا الواقع الكوني الحداثي لا يعطي القيمة الفعلية للخصوصيات الثقافية الأخرى و قد احتقر شرائعها القيمية، ونُظُمُها الاجتماعية ، ناهما بإرادة الإبصار في ثقافة واقع الغرب الكوني، نموذجا أوحد وأسْلَمَ وأقْوم،  وليس باعتباره نموذجا أو وجه من وُجُهات تأويل العالم وشكل من أشكال ترتيب البيت العلائقي مع الذين يقعون ضمن دائرة الآخر المختلف.

من أجل هذا، وجب التفكير في تجديد الكونية مفهوما ونسقا علائقيا، وفسيفساء حضارية، وقيمة من قيم العيش في وفاق مع كافة النّاس على الأرض، والكونية التي نروم في هذا المقام التَّحليلي عرضها وبيان مُرتكزاتها ونتائجها، لا تتعارض مع الخصوصية التي ننتمي إليها، بقدر ما تتعارض مع واقع الكونية الذي نحن نسكن في فضائه، وبسببه نعاني الاغتراب عن منابع حياتنا، ونظام قيمنا ومفاهيمنا عن العالم حولنا.

خاتمة آفاق الإشكال أو الكونية ومُمْكنات التلاقي والتعارف :

إذا كان واقع الكونية كما جرى تشقيقه في التحاليل السابقة، أي : كونية إرادة القوة والانفصال عن القيمة وتدمير الخُصوصيات الثقافية، فإن الملمح الجوهري هو شق الدروب المختلفة، وعدم الركون إلى نداءات ” وحدة التّاريخ البشري” و “عالمية الحضارة “و”الإنسانية الواحدة “،  لأن من مُواصفات ” مبدإ الكونية”: تلاقي الخُصوصيات  وتواشُجها في فسيفساء حضارية، تقدّم صورة جمالية جليلة، ويجد هذا المقصد الاختلافي أصله في حقيقة العلاقة بين الثقافات، فهي بما تختص به، من عوائد وفنون ونظم اجتماعية مختلفة، وسُلوكات وأشكال تعبيرية مختلفة أيضا، يجعلها مضمومة إلى بعضها، وليست  منحلّة في غيرها، أما إذا عثرنا على نمط ثقافي واحدا يراد أن يدان له بالتبعية والاحتواء، فإن هذه ليست من الكونية في شيء، إذ الكونية تعبّر عن القيمة العليا التي تسدّد أمم الأرض نحو الاتفاق فيما بينها، وما جاء آنفا، هو وجود خصوصية أمة بعينها عُمّمت على الأمم الأخرى.

من هنا، ثمة معيار كوني نستخرجه من التحليل المعرفي للظواهر والذّهنيات والسلوكات، هذا المعيار يقضي بأن ” الخصوصية سمة حضارية لها مدلولات فلسفية وسياسية عميقة… والخصوصية تدعو إلى ضرورة الانفتاح على كل الحضارات الإنسانية والعالمية، لا على الحضارة الغربية وحدها، وأن ننهل من معين كل الحضارات، هذا على عكس ما يرى دعاة القانون العام والعولمة، الذين يُنكرون الخصوصية، فهم يدورون في محيط الحضارة الغربية وحدها، والانفتاح الحق على العالم لا يعني فقدان الخصوصية، بل إنه يدعّمها، لأنّنا حينما نُدرك تنوّع النّماذج الحضارية اللاّمتناهية، سنكتشف مدى خضوعنا للنُّموذج الغربي، وسنكتشف إمكانية أن تكون لنا لغتنا الحضارية الخاصة “[17].

جلي إذن، أنه من الأقوم لنا الارتكاز على مبدأ الاختلاف مع واقع الكونية، ومبدأ تشغيل الخصوصية كسمة حضارية وأداة نراهن عليها من أجل الاتصال مع مبدأ الكونية، فما وجدت الاختلافات الحضارية والثقافية واللّغوية؛ إلا بقصد التعارف والتكامل.


[1] يأخذ الكلي دلالاته، من المفهوم المنطقي، باعتباره يصل بين الكلي وبين المنطقي في العلوم،  فالكلي ” ترجمة العرب القدامى لمعنى ” كاثولو” To katholou اليوناني، كما ترد في نصوص أرسطو، وهو لفظ يستعمل ظرفا ويعني  بالحرف ّ “بالنّظر إلى الكل”، أو “ما هو مأخوذ في كليته” أو “على الجملة” أو “بعامة “.  أوردها : فتحي المسكيني، الهوية والحرية ، نحو أنوار جديدة، بيروت : دار جداول 211

[2] طه عبد الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، المغرب بيروت : المركز الثقافي العربي، 2002

[3] جون بودريار، الحداثة ، ترجمة محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي، الدار البيضاء : أفريقيا الشرق، 2001

[4] فتحي المسكيني، الهوية والحرية، نحو أنوار جديدة، مرجع سابق

[5] أنظر، صالح مصباح، التنوير موجودا ومنشودا ” تجرّأ على استعمال عقلك”، بيروت : جداول، 2011

 [6] ريتشارد تارناس، آلام العقل الغربي (فهم الأفكار التي قامت بصياغة تظرتنا إلى العالم)، ترجمة فاضل جكتر، إ. ع. المتحدة، المملكة السعودية : دار كلمة، العبيكان، 2010

 [7] روجيه غارودي، الولايات المتحدة الأمريكية طليعة الانحطاط، (كيف نجابه القرن العشرين)، ترجمة صيّاح الجهيم وميشيل خوري، الجزائر: منشورات المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، 2003

[8] عبد الوهاب المسيري، العلمانية والحداثة والعلمنة، سوريا : دار الفكر، 2009

[9] سيّد حسين نصر، دليل الشاب المسلم في العالم الحديث، ترجمة فارق جرّاد وصادق عودة، مصر : الشروق الدولية، 2004

[10] عبد الوهاب المسيري، مرجع سابق، ص 316

[11] جون بودريار، المصطنع والاصطناع، ترجمة جوزيف عبد الله، بيروت : المنظمة العربية للترجمة، 2008

[12] أنظر، الطاهر سعود، الحركات الإسلامية في الجزائر (الجذور التاريخية والفكرية) الإمارات العربية المتحدة : مركز المسبار 2012، ص من  223، 237

[13] عبد الوهاب المسيري، الهوية والحركية الإسلامية، سوريا : دار الفكر، 2009 

[14] سيّد نقيب العطاس، مداخلات فلسفية في الإسلام والعلمانية، ترجمة محمد طاهر ميساوي، المعهد العالي العالمي للفكر والحضارة الإسلامية، دار  ماليزيا، الأردن : دار الفجر، دار النفائس

[15] روجي غارودي، الولايات المتحدة الأمريكية طليعة الانحطاط، مرجع سابق، ص 120. (التشديد من المؤل)

[16] إدغار موران، إلى أين يسير العالم، ترجمة أحمد العلمي، بيروت : الدار العربية للعلوم، 2009 

[17] عبد الوهاب المسيري، الهوية والحركية الاسلامية، مرجع سابق