أوّلا بناء الإشكال : سؤال القيم بين السياق الغربي و السياق العربي

أضحت مسألة القيم في الواقع الكوني مجالا تداوليا للنّقاش ضمن التحولات الحداثية والمابعدحداثية؛ واشتركت في هذا النّقاش المعرفة بفروعها (الفلسفة، العلوم الإنسانية، الاجتماعية…) بخاصة من داخل المؤسسات التي أدركت منزلة وجود التوجيه القِيمي داخل هياكلها كيْما تستقيم وكيْما تكون مقاصدها مشروعة، وفضلا عن هذا، فإن التحوُّلات الكونية في مستوى الصّلات بين الثقافات والحضارات، قد دخلت إلى معجمها التقييمي روح المفاضلة بين الثقافات والحضارات، إما شعورا بتفوق نظام القيم الذي تتبناه، وإما إبصارا منها دونية في منظومة قيم مختلفة عنها، لكن هذه الرؤية لم تكن تؤدي إلى مسالك الأمان، إذ اندفع العنف وبصورة لا سابق لها، بسبب هذه التّصنيفات القِيمية التي تتحرّك من وحي عوائد نفسية وأيدلوجية وجَهالة معرفية. لقد استوجب من جهة أخرى؛ استدعاء سؤال القيم مُجدّدا، لكن ليس من أجل المفاضلة والتّصنيف التراتبي للقيم، وإنّما من أجل التنقيب عن المُشْترك  بين الثقافات المتنوعة، من أجل أن يكون أفقا وجسرا للتواصل، ومُسوغا قويا من مُسوغات القول بوحدة الطّبيعة الإنسانية في نزوعها نحو قيم مخصوصة نجدها مبثوثة في ذاتها أو في فطرتها، وإما لانتماء البشرية إلى روح دينية أصلية ألهمتها هذه القيم وتمظهرت بعدها في الأديان وتجلّياتها.

هذا الحضور المُكثَّف والجلي، لسؤال القيم، انجلى أيضا في الفكر العربي المعاصر، وذلك من خلال مايُصنّف من كتب تسعى لأن تفكر في القيم انطلاقا من زاويتها ومنظورها، ومنظورها معناه: حقيقة النظام الأخلاقي الذي يدبّر ذاتها، من حيث الأصول والمبادئ التي ينبني عليها، أي هل الأصل الأول هو الدين أو العقل في خصوصيته الإسلامية أو المورُوثات الثَّقافية الأُخرى كاليونانية والفارسية أو الثقافة العربية في خصوصيتها وقيمها؟.

أي أن سؤال القيم في هذا المقام، يجمع في نقاشه القلق التاريخي والتحدّ الراَّهني، بدلالتيه؛ تحدّ داخلي متعلّق بالقيام بواجب النّهضة وموضعه القيم ضمن هذا الواجب، وحجم إعادة تنشيط مبحث القيم وتشغيله ضمن الإصلاح، وتحد خارجي ، ملمحه الجوهري هو إفادة البشرية بمبادئ قِيمية من أجل إدارة علاقاتها علاقة تعارفية؛ ومن أجل الانتقال من حقبة صراع الحضارات إلى حقبة اشتراكها في رصيد القيم المعنوي؛ بخاصة وأن الثقافة الإسلامية تمتلك هذا الرّصيد من القيم في مصادر ذاتها الثقافية، وتحتاج إلى تعريف الإنسانية به، الإنسانية المعاصرة لنا، التي أخْلَتْ شرائعها الأخلاقية من روح الأخلاق و من روح الدّين، ووثقت في العقل العملي كمصدر من مصادر التّشريع الأخلاقي، ولأن العلمنة أو الدّنيوة كاسحة وزحفت إلى قلب المقدّس من أجل علمنته وتحويله إلى ثقافة أثرية، فإن هذا العقل العملي لا يقوى على الصمود طويلا، وتاريخيا تحقق عدم الصمود هذا؛ فهو يشبه السَّفينة التي تريد أن تجد مراسي لتستقر عندها، لكنها لا تقوى على الرُّسو اعتمادا على ذاتها فقط، بل تحتاج إلى أساس آخر من أجل أن تستقر عنده، كذلك هو العقل العملي، لا يقدر على التشريع من ذاته ومن أجل ذاته، يحتاج إلى الأساس الإيماني كيْما يقدر على النُّفوذ و التصدّي لإرادة العلمنة، ووحدها الثقافة الدّينية الإسلامية، تمتلك هذه الطاقة والقوة التي بفضلها تقدر على الإسهام في  تزويد الإنسانية بقيم خلقية كونية، تكون أرضية للتّواصل بين الثقافات وأرضية للتآنس بينها، إذ الأنس يأتي من شراكة بين الذّات وبين من تتآنس معه، شراكة في شيء ما، وما هذا الشيء؛ إلا هذه القيم المعنوية.

إن هذا الانهمام بسؤال القيم الأخلاقية في الفكر العربي المعاصر، نجده موزعا ومصنّفا؛ أي لكل مشروع دائرته البحثية فيما يتعلّق بدراسة الأخلاق؛  نجد هذا في مشكلات الحضارة عند مالك بن نبي ؛ الذي راهن  على أولوية تفعيل الطَّاقة الأخلاقية من أجل الدُّخول إلى دورة حضارية جديدة، أو لدى محمد أركون في مساءلته للإسلام من جهة نظام الأخلاق والسياسية، أو طه عبد الرحمن الذي تعد  القيم الخلقية الروح النّاظمة لمؤلّفاته كلّها، أو النَّسيج الذي يجمع لحمة تجديد العقل أو روح الحداثة أو إدارة الإختلاف الثقافي، أو محمد عابد الجابري في جهوده  الذي في تحليليته للعقل الأخلاقي العربي واستخراجه لأنظمة القيم الموجودة في الثقافة العربية، بأن تكون محل نقد ومراجعة .  ولأجل فك معاقد هذا الإشكال فإننا نستفهم حول الموضوع تواليا :

كيف نفسر هذا الاهتمام بسؤال القيم الخلقية في الفكر العربي المعاصر؟ هل هو في حقيقته رجوع إلى الماضي وإشكالاته واختلافاته من أجل التفكير ضمن هذا الإطار والإدلاء بالرأي في جدل الأخلاق في التراث القِيمي العربي الإسلامي؟ هل هذا الاهتمام هو تحدّ راهني بما يلوح في الواقع والأفق من مظاهر انحسار الأخلاق كقانون وضابط ومعيار، يقتضي تطوير نظم قيمية خلقية تمكن من الأخذ بنا إلى دروب النّجاة من إرادة اللاّروحانية والانشداد إلى الأرض؟ هل  يجوز لنا قراءة هذا الإهتمام بوصفه عرضا أو علامة على فشل التحاليل المعرفية والرهانات الفكرية من أجل الدّخول إلى دورة حضارية جديدة؟ ومن ثمة الاتجاه صوب منظومة القيم الخلقية من أجل إعادة بناء الهوية أو من أجل تفعيل القيم الإيمانية  أو من أجل نهضة ملمحها الجوهري الحاسة الخلقية بما هي ضابط وموجه نحو صناعة الإنسان وصناعة التاريخ ؟ ما موقع سؤال القيم العالمية وأخلقة الثقافات ضمن جدول أعمال المفكّرين العرب المعاصرين في الأخلاق.

ثانيا فرضيات تفسيرية

-يجد الاهتمام بسؤال الأخلاق في الفكر العربي المعاصر مُبرّرهُ في السَّعي نحو إيجاد تفسير لغياب أو وفرة الإنتاج الخُلقي في التراث الحضاري الإسلامي، وحقيقة الصّلة بينه وبين الموروث اليوناني أو الرُّؤية الإسلامية التَّوحيدية.

-الدخول في أفق تجربة مختلفة عن تجارب الإصلاح السَّابقة، ومشاريع التّحديث في العالم العربي، أي تجارب النَّهضة الاقتصادية وتحديث المجتمع، أو المشاريع المعرفية التي تُراهن على تغيير الفكر من أجل تغيير المجتمع، والرّبط بين النهضة والأخلاق أو أن مقتضى التغيير وأداته الجوهرية هي النّهضة الأخلاقية.

-الارتداد إلى التّاريخ، من أجل بيان الأنساق الأخلاقية من جهة مصادرها، ومن جهة حقيقتها، بمعنى  هل منظومات أخلاقية محضة، تقصد التطهّر والإصلاح الروحي، أم أنّها امتداد لتناحر المذاهب السياسية.

-من منحى آخر، ليس القصد بسؤال الأخلاق، فلسفة الأخلاق أو الأخلاق النّظرية؛ لأنها أمر موكول إلى تحاليل الفلاسفة، إنما القصد هو البحث في كيفية تطوير آليات تمكن من الانتقال إلى تفعيل القيم الخلقية، من أجل صناعة الحضارة، لأن مسارات الحضارة تبدأ متى كانت هناك روح أخلاقية تحرّك النّسيج الاجتماعي، تؤلّف بين قلوب أفراد، فتحولهم إلى أُناس جدد ذووا مبدأ ورسالة.

– من مقاصد الاهتمام بالموروث الأخلاقي الإسلامي، اختباره واختبار مدى مشروعيته اليوم، وذلك بتنزيل منهجيات العلوم الإنسانية عليه، بقصد تنشيط التفكير الأخلاقي الذي هُجر في المجال الإسلامي وجرى التخلّي عنه، أي استعادة النّزعة الإنسانية في التاريخ الأخلاقي العربي.

ثالثا مدخل إلى مناهج مقاربة الأخلاق في الفكر العربي المعاصر: الصيغة الأركونية مِثالا

إن سؤال المنهج في مقاربة الأخلاق في الفكر العربي المعاصر، يمكن تحديده وبيسر معرفي شديد، وذلك بمَوضَعة الرُّؤية الأخلاقية التي يتبنَّاها شخص أو مدرسة معرفية، ضمن الأفق المعرفي والعدة المنهجية التي تخترق نصوصه، ويعد محمد أركون من بين من افتتح سؤال المنهج الذي يكون فاعلا في مقاربة الرؤى الأخلاقية المبثوثة في التُّراث الأخلاقي الإسلامي، وذلك بالسؤال : هل نكتفي بالتّحليل البارد والحيادي للظواهر والوصايا أم أنّنا ننتهج التحليل التاريخي والبحث في نشأتها؟ ما مكانة العوامل الاجتماعية والتاريخية وحجم الدّور الذي لعبته في تشكيل هذه الأفكار؟.

يصرّح محمد أركون في مفتح نقاشه، أن منهجية التّحليل البارد لا تخدم الموضوع ولا التحديات الراهنة التي تواجه الإنسان المسلم اليوم، لأنها تَأْبى استثمار كافة القطيعات الاجتماعية والنّفسية والاجتماعية، ولا تأبه لكافة أنواع النّسيان والتَّمويه والتَّحريف التي تحكم مسارات التاريخ الإنساني، من هنا، فإن منهج المقاربة الذي يتبنّاه أركون يمكن اختزاله إلى المحدّد المنهجي  والهدف الذي يروم إنجازه :

أولا. في الإجراء المنهجي: المنهجية التقدّمية التّراجعية … التي تتطلّب منا الرجوع إلى الزمن الماضي، في الوقت الذي نأخذ فيه بعين الاعتبار كل التَّلاعبات التي يتعرّض لها هذا الماضي في الحاضر، وفي كل منعطف تاريخي جديد. كما أنّها تتطلّب منا النزول في الزمن إلى الحاضر، أي إلى وقتنا الراهن لكي نحددّ المكتسبات الإيجابية التي أهملت ونُسيت وحجبت ظلما وعدوانا. إن هذه المكتسبات الإيجابية الخاصة بالماضي والتراث تستحق أن تستعاد من جديد، وتحظى بالاهتمام داخل سياقنا التاريخي الحديث، ونحن، إذ نفعل ذلك نكون قد أنجزنا في الحركة الواحدة واللّحظة الواحدة، عملا كليا للمعرفة العلمية وللفكر المتعلّق بهذه المعرفة”[1]. وهي منهجية إجرائية ارتدادية إلى الماضي، من أجل الإبانة عن أوجه التَّداخل بين نُظم القيم وبين إرادات القوى التي تتبنىَّ تلك الأخلاق أو تستبعد أخرى، من أجل إسكان جهد التَّحليل في المناطق اللاّمفكر فيها أو المطموسة، لاستخراجها مُجددا ويقصد أركون هنا النّزعة الإنسانية التي برأيه أسبق زمنيا وحضاريا من النزعة الإنسانية التي تشكّلت في أوربا.

ثانيا . في الهدف : يحدُّد أركون هدفه بصورة جلية ومن دون مواربة، إذ ليس القصد إعادة تفعيل منظومة القيم القرآنية في الواقع، لأن ذلك من اختصاص الوعَّاظ والخطباء،  ” نحن نريد أن نموضع هذه القيم المحورية بالقياس إلى القيم المحورية الخاصة بالعقل المستقل الذي يعتبر معطى الوحي بمثابة مادة للمعرفة النّقدية، وليس فقط مصدرا للتّربية والتأسيس  تهذيب الأخلاق… ونحن نهدف من وراء ذلك إلى تغيير اللغة النّظرية التقليدية، إنه مستقل ومسئول بذاته ولذاته. ونحن نهدف من وراء كل ذلك إلى تغيير اللغة النّظرية التقليدية، والتوصُّل إلى لغة جديدة متوافقة مع العصر، من أجل عرض الرُّؤيا الأخلاقية والسّياسية للإسلام كما هي وبشكل تاريخي”[2]

وهنا يقابل أركون بين نظرية القيم القرآنية، وبين العقل الذي يصفه بالاستقلالية، ويتحيّزُ إلى هذا العقل مقابل، ما يسمّيه بنظرية القيم القرآنية.


  [1] محمد أركون، الإسلام الأخلاق والسياسية، ترجمة هاشم صالح، دار النهضة العربية، مركز الإنماء القومي، 2007،

[2] المرجع نفسه