إن التعامل مع جوانب الوجود كلها على نحو مفصل أمر لا يستطيعه الفرد الواحد، لكن الإنسان من حيث هو نوع، أي النوع الإنساني بأسره يستطيع أن يتعامل مع الوجود على نحو مفصل حيث يقوم كل فرد في هذه الحياة بالتعامل مع جانب أو جزء من الوجود، ويكون هذا الجزء في أغلب الأحيان صغيراً ومحدداً جداً بالنظر إلى الوجود أو إلى قسم منه مثل الكون الطبيعي.    ويتصل بهذا الأمر أمر آخر، وهو أن المعرفة العملية بكيفية التعامل مع جميع جوانب الوجود كلها على نحو مفصل أمر غير ممكن أن يحصله فرد واحد من الناس، وإنما الذي يمكن أن يحدث فعلاً، هو أن يلمّ المرء بالمعرفة العملية المتصلة بالتعامل مع كل أجزاء الوجود الرئيسة– التي قسمنا الوجود إليها فيما تقدم آنفاً- على نحو مجمل عام يشمل المبادئ والقواعد الكلية والضوابط والمنطلقات دون الدخول في التفاصيل إلا على سبيل المثال، فهذا من جهة أمر ممكن، ومن جهة أخرى فإن ما نراه فعلاً في الواقع هو أن الإنسان يركز على المعرفة العملية المتعلقة بالتعامل مع جزء محدد من الوجود ويحاول أن يعرفه على نحو مفصل، ويكون هذا التعامل في أغلب الأحوال عبارة عن المهنة التي يمارسها الإنسان في حياته.

هذا التوضيح يقودنا إلى وضع مصطلحين فرعيين في الثقافة هما: الثقافة العامة والثقافة الخاصة.

  فالثقافة العامة: هي معرفة عملية مكتسبة، تنطوي على جانب معياري وتتجلى في سلوك الإنسان الواعي في تعامله في الحياة الاجتماعية مع الوجود، وعلى نحو مجمل يشمل المنطلقات والأسس والمبادئ العامة والقواعد الكلية والضوابط. فتعريف الثقافة العامة هو تعريف الثقافة بعد أن أضيفت إليه عبارة مخصصة ليشير إلى هذا المستوى العام من الثقافة.

أما الثقافة الخاصة فهي: معرفة عملية مكتسبة، تنطوي على جانب معياري وتتجلى في سلوك الإنسان الواعي في تعامله في الحياة الاجتماعية مع جزء محدد من الوجود.

فتعريف الثقافة الخاصة هنا هو أيضاً تعريف الثقافة مضافاً إليه عبارة مخصصة لتشير إلى هذا المستوى الخاص في الثقافة.

  بعد أن انتهينا من تعريف الثقافة بإطلاق، أصبح من الممكن أن نقدم تعريفاً للثقافة الإسلامية مستنداً إليه وذلك بإضافة عبارة مخصصة تبين نسبة الثقافة إلى الإسلام، وفيما يلي تعريفنا هذا للثقافة الإسلامية:

الثقافة الإسلامية هي معرفة عملية مكتسبة، تنطوي على جانب معياري مستمد من شريعة الإسلام ومؤسس على عقيدته، وتتجلى في السلوك الواعي للإنسان (فرداً وجماعة) في تعامله في الحياة الاجتماعية مع الوجود (أي مع الخالق والمخلوقات).

   واضح مما تقدم أن الاختلاف بين تعريف الثقافة بإطلاق و تعريف الثقافة الإسلامية هو زيادة العبارة المخصصة في الأخير، وهي: مستمد من شريعة الإسلام ومؤسس على عقيدته، حيث بينت هذه العبارة المصدر الأساسي للجانب المعياري في الثقافة الإسلامية، وهو الشريعة الإسلامية (ونقصد بها الجانب العملي من الدين)، كما بيَّنت الأساس الذي تستند عليه هذه الثقافة وهو العقيدة الإسلامية.

  من هنا يبدو جلياً الصلة الوثيقة بين الثقافة الإسلامية والدين الإسلامي (عقيدة وشريعة)، فهذه الصلة تصل إلى حد التلازم والتلاحم، لأنها إلى الإسلام انتسبت تأسيساً على عقيدته واستمداداً من شريعته.

  ولعل قائلاً يقول: إن الثقافة الإسلامية ستكون– في ضوء هذا التوضيح– لفظاً مرادفاً للإسلام، فنقول في الجواب عن ذلك: حقاً إن الصلة وثيقة جداً بين الثقافة الإسلامية والإسلام، لكن ذلك لا يعني أنها هو، أو أنه هي على وجه التطابق الكامل، فالثقافة الإسلامية “معرفة عملية…” لذا فهي تهتم بالعمل التطبيقي والسلوك وتركز عليه، ولذا كانت هي والشريعة الإسلامية من الأمور المتلازمة والمتشابهة والمتقاربة، إذ غاية الشريعة عملية أيضاً، لكنهما ليستا متطابقتين أو مترادفتين في الدلالة، ذلك أن هناك اختلافاً يمنعنا من الناحية المنهجية، أن نقول إنهما أمر واحد، وهو أن الشريعة الإسلامية هي التي تزودنا بالأحكام العملية الشرعية لأنواع السلوك المختلفة التي نقوم بها، مع أنها أحيانا تبين لنا كيفية العمل، أما الثقافة الإسلامية فهي التي تزودنا بالكيفية أو الصورة العملية للسلوك المنسجم مع أحكام الشريعة، دون أن تكون مهمة الثقافة الإسلامية تقديم الأحكام الشرعية.

  ثم إن قولنا بأن الثقافة الإسلامية مؤسسة على العقيدة الإسلامية لا يعني بطبيعة الحال أن الثقافة الإسلامية هي والعقيدة شيء واحد، فأساس الشيء ليس هو الشيء نفسه، وصلة الثقافة الإسلامية بالعقيدة الإسلامية شبيهة إلى حد كبير بصلة الشريعة الإسلامية بالعقيدة الإسلامية.

فإذا كانت الثقافة الإسلامية ليست لفظاً مرادفاً للشريعة الإسلامية وليست لفظاً مرادفاً للعقيدة الإسلامية، فإننا نستطيع القول بأن الثقافة الإسلامية ليست لفظاً مرادفاً للإسلام  أو مطابقة له تمام المطابقة، برغم ما تقدم توضيحه من وجود صلة وثيقة متلاحمة بينهما.

وكما أن في الثقافة بعامة مستويين: مستوى الثقافة العامة ومستوى الثقافة الخاصة، فكذلك الأمر في الثقافة الإسلامية؛

  فهناك ثقافة إسلامية عامة، يمكن تحديدها بأنها: معرفة عملية مكتسبة تنطوي على جانب معياري مستمد من شريعة الإسلام ومؤسس على عقيدته، وتتجلى في السلوك الواعي للإنسان (فرداً وجماعة) في تعامله في الحياة الاجتماعية مع الوجود بأجزائه المختلفة في صورة مجملة عامة تشتمل على المنطلقات والأسس والمبادئ العامة والقواعد الكلية والضوابط.

  وهناك ثقافة إسلامية خاصة، ويمكن تحديدها بأنها: معرفة عملية مكتسبة تنطوي على جانب معياري مستمد من شريعة الإسلام ومؤسس على عقيدته، وتتجلى في السلوك الواعي للإنسان (فرداً وجماعة) في تعامله في الحياة الاجتماعية مع جزء محدد من الوجود.

  وفي هذا المقام، سنكتفي بالإشارة إلى ما أطلقنا عليه مصطلح مجالات الثقافة الإسلامية، وهي نفسها المجالات التي قسمنا الوجود إليها، وعليه تكون لدينا في الثقافة الإسلامية مجالات يمكن الحديث عن ثقافة إسلامية فيها حديثاً مجملاً وحديثاً مفصلاً، فيكون لدينا:

– ثقافة إسلامية في التعامل مع الخالق سبحانه وتعالى.

– ثقافة إسلامية في التعامل مع الذات.

– ثقافة إسلامية في التعامل مع الآخر.

– ثقافة إسلامية في التعامل مع الكون الطبيعي.

– ثقافة إسلامية في التعامل مع الأفكار.

– ثقافة إسلامية في التعامل مع الأدوات والوسائل.

– ثقافة إسلامية في التعامل مع الزمن.

– ثقافة إسلامية في التعامل مع الغيب.

  ولعله من الواضح أن الحديث عن الثقافة في كل مجال من هذه المجالات إن كان يتعلق بالمبادئ والقواعد والأسس والضوابط في التعامل فذاك داخل في الثقافة العامة، وإن كان الحديث متعلقاً بكيفية التعامل مع جزء محدد من أي من هذه المجالات فذاك هو الثقافة الخاصة في التعامل مع هذا الجزء المحدود.

  بعد أن أوضحنا حقيقة الثقافة الإسلامية، وأنها في جوهرها تبين كيفية تعامل الإنسان مع كل جوانب الوجود وفقاً لمعايير وضوابط مستمدة من الشريعة الإسلامية، نريد أن نبين صلة هذه الثقافة الإسلامية بمقاصد الدين ومنهج الوسطية، فنقول:

إن التعامل مع جوانب الوجود- التي ذكرنا فيما تقدم- (أي الثقافة الإسلامية) هي التعبير العملي عن المهمة التي جعل الله الإنسان مكلفاً بها، وذلك في قوله تعالى:]وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً[[البقرة: 30]، والخلافة في الأرض هي المهمة الكبرى للإنسان التي بقيامه بها وفق شروط المستخلِف، وهو الله سبحانه وتعالى، تتحقق الغاية التي خلق الإنسان من أجلها، وهي عبادة الله، فإذا كانت عبادة الإنسان لله خالق كل شيء مقصدها هو الإنسان وخيرها راجع إليه، لأن الله هو الغني الحميد، وكانت الخلافة هي التي بها تتحقق العبادة، وكان تحقيق الخلافة في الأرض يتم بتجسيد مقصد الثقافة الإسلامية (بكل مجالاتها) في سلوكنا، فإن مقصد الثقافة الإسلامية سيلتقي مع مقصد الدين العام، وهو الإنسان، فكما أن الدين ينظر إلى الإنسان على أنه غاية في ذاته، فكذلك الثقافة الإسلامية (أي تعامل الإنسان مع جوانب الوجود المختلفة) تنظر إلى الإنسان على أنه غاية في ذاته، ولا ينبغي أن يكون في الثقافة الإسلامية تعامل ليس هذا شأنه.

  وإذا كان مقصود الثقافة الإسلامية العام أو الرئيس متطابقاً مع مقصود الدين الرئيس (الإنسان)، فإن المقاصد الأقل في عمومها، الكلية والجزئية، ستكون متطابقة بالضرورة في الدين وفي الثقافة الإسلامية.

  لقد تقدم التأكيد على أن الثقافة الإسلامية ليست هي الدين لكنها مرتبطة به ارتباطاً عضوياً، إذ هي منتسبة إليه، ولو كانت هي الدين لما احتجنا لإثبات أن مقاصدها هي مقاصد الدين؛ كما تقدم البيان بأن الثقافة الإسلامية العامة التي تشمل المبادئ والأسس والضوابط والقيم (أي المرجعية المعيارية للثقافة الإسلامية) مستمدة من الدين، وحيث إن ما ورد في الدين من مبادئ الهداية الإلهية وأسسها وضوابطها هي الوسط، أي خير الأمور وأفضلها، فإننا نستطيع القول إن الثقافة الإسلامية العامة هي الثقافة العامة الوسط، أي أفضل الثقافات العامة( )، وأنه– تبعاً لذلك- يتكون الثقافات العامة الأخرى أدنى في الفضل وأقل في درجات الكمال من الثقافة الإسلامية العامة.

  أما في الثقافة الإسلامية الخاصة، التي قلنا إنها ثقافات لا حصر لها، إذ هي تعامل مع جزء محدد من الوجود، وهذه الأجزاء لا تنحصر فإن الوسط فيها، أي الأفضل والأمثل يكون بأمرين:

الأول: المعرفة العملية الأفضل بكيفية التعامل مع هذا الجزء المحدد أو ذاك، وعلى المسلم اكتساب هذه المعرفة وممارستها، فمثلاً في التعامل مع موضوع الزراعة، ولنقل زراعة القمح على سبيل المثال، إن على المسلم أن يعرف أفضل الطرق التي وصل إليها الناس في أمته أو عند الأمم الأخرى ويمارس هذه الكيفية، إلا أن تكون هناك عوائق لا يمكن التغلب عليها، فعندها عليه بذل وسعه في ممارسة الكيفية المتاحة الأفضل، فإذا كان لدى أمة أخرى معرفة عملية في التعامل مع القمح أفضل مما لدى أمتنا أو مجتمعنا، فعلينا أن نسعى لاكتسابها وتطبيقها في حياتنا.

  لكن الأمر أكثر تعقيداً من هذا الوصف الصحيح في عمومه، ذلك أن أي ثقافة خاصة نأخذها من ثقافة أخرى، ستنعكس فيها المرجعية الثقافية لهذه الثقافة، أي ستنعكس فيها ثقافتها العامة، فإذا نقلنا هذه الكيفية إلى ثقافتنا، فلا بد من القيام ببعض الإجراءات التي تهدف من جهة إلى تجريد هذه الثقافة الخاصة التي سنأخذها من تأثير مرجعيتها الثقافية، وتهدف– من جهة أخرى- إلى القيام بعملية صياغة جديدة لهذه الثقافة الخاصة، تجعلها منضبطة ومنسجمة مع الثقافة الإسلامية حين نطبقها في حياتنا. وهكذا فإن الثقافة الإسلامية الخاصة هي التي يمارس فيها المسلم أفضل الكيفيات في التعامل.

  هذه النتيجة تقودنا للأمر الثاني المكمل لهذا الأمر (أي أمر الكيفية)، وهو انضباط هذه الكيفية في التعامل بالمرجعية الثقافية الإسلامية، أي بالثقافة الإسلامية العامة، فإن أي كيفية في التعامل مع أي جانب محدد من جوانب الوجود لا تكون موجهة بمبادئ الثقافة الإسلامية ومنضبطة بمعاييرها ومنسجمة مع مقاصدها، فإنها لن تكون هي الثقافة الفضلى، وبالتالي لن تكون هي الوسط.

  وعليه، فإنه في ضوء هذا التحليل تكون الثقافة الخاصة هي الوسط والأفضل إذا تحقق فيها شرطان رئيسان: أحدهما أن تكون كيفية التعامل هي الفضلى، والآخر أن تكون كيفية التعامل موجهة بالثقافة الإسلامية العامة ومنضبطة بضوابطها. ونستطيع القول أيضاً: إن أي ثقافة خاصة يتحقق فيها هذان الشرطان فإنها ستكون ثقافة إسلامية.

إن منهج الوسطية هو تطبيق أفضل الآراء وأفضل الأحكام وأفضل كيفيات التعامل، وهو منهج يجعل من الإنسان في كل الأحوال غاية في ذاته، وذلك هو مقصد الدين، وهو كذلك مقصد الثقافة الإسلامية، إنه منهج يسعى لتحقيق خير الإنسان وسعادته وكماله اللائق به في حياته في هذه الدنيا وفي الأخرى. وكل ذلك ما كان ليكون إلا لأنه من عند الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء.


المصدر : كتاب الثقافة الإسلامية مفهومها مصادرها خصائصها مجالاتها ، أ.د. عزمي طه السيد وآخرون