من بين التحديات الكثيرة التي تواجه عالَم الإسلام في وقتنا الراهن، تأتي التحديات الثقافية كأحد أبرز هذه التحديات وأهمها؛ إذ الفكر هو مقدمة العمل، والثقافة الإسلامية هي أساس العمران، وهي التي تصنع تفرُّدَ حضارةٍ ما وتميزها وخصوصيتها عن بقية الحضارات.

وقبل أن نتطرق بشيء من الإيجاز إلى أبرز تلك التحديات، أحب أن نقف مع مفهوم الثقافة الإسلامية ؛ لأنه قد يبدو غائمًا عند البعض، أو ليس بدرجة الوضوح المطلوبة. ولاشك أن من خلال ضبط المفهوم ستتضح لنا المجالات التي يتناولها بالبحث والدراسة.

المفهوم والمجالات

ثمة تعريفات كثيرة حاولت الاقتراب من مفهوم “الثقافة الإسلامية“، ضبطًا وتفصيلاً وتوضيحًا؛ لكن أفضلها برأيي ما ذهب إلى أنها: “العلم بمنهاج الإسلام الشمولي في القيم، والنظم، والفكر؛ ونقد التراث الإنساني فيها”([1]).

فبحسب هذا التعريف تتميز الثقافة الإسلامية بأنها “علم” يقوم على الإدراك المبني على أدلةٍ يرتفع بها عن المعرفة الظنية. وبأنها ذات “منهج شمولي” كلي مترابط، وبذلك فهي تتمايز عن العلوم التي يُعنَي كل منها بجانب من الإسلام وما يندرج تحته من جزئيات؛ كعلمَيْ العقيدة والفقه([2]).

وتتمثل مجالات “الثقافة الإسلامية”- طبقًا للتعريف الذي اخترناه- في مجالات ثلاثة:

– القيم؛ وهي: القواعد التي تقوم عليها الحياة الإنسانية، وتختلف بها عن الحياة الحيوانية، كما تختلف الحضارات بحسب تصورها لها. مثل: الحق، الإحسان، الحرية.

– النظم؛ وهي: مجموعة التشريعات التي تحدد للإنسان منهج حياته. مثل: نظام العبادة، والأخلاق.

أما المجال الثالث فهو الفكر؛ أي: عمل العقل ونتاجه، والذي يشمل التفكير في مقوماته ومصادره ومناهجه، إضافة إلى قضايا الفكر والمذهبيات الفكرية([3]).

وأما “نقد التراث الإنساني فيها”، فالمقصود به فحص ما تخلفه البشرية من ثقافة وحضارة وعلوم، وتقويمه إيجابًا وسلبًا، في مجالات القيم والنظم والفكر، ومواجهة ما يخالف الإسلام فيها([4]).

فيهمنا من هذا التعريف أن “الثقافة الإسلامية” ذات منهج شمولي، أي رؤية عامة كلية، وذلك في مجالات: القيم، والنظم، والفكر.

وفيما يتصل بأبرز التحديات التي تواجه “الثقافة الإسلامية”، فيمكن تقسيمها إلى نوعين: تحديات في المنهج، وتحديات في المجالات والموضوعات.

وأقصد بتحديات المنهج تلك التي تتصل بطريقة النظر إلى “الثقافة الإسلامية”، كمفهوم وعلم. والتي تتصل بطريقة عرضها على المخاطَبين، كدعوة وهداية.

أما تحديات المجالات والموضوعات فأهمها يتمثل بوجهة نظري في “تحدٍّ إنساني”، وهو تبيان موقف الإسلام من الحرية بمستوياتها المتعددة. و”تحد مجتمعي”، وهو موقف الإسلام من المرأة ومشاركتها في بناء المجتمع. وهما معًا- أي التحدي الإنساني والمجتمعي- يمثلان تحديًا على مستوى “الذات”. أما التحدي الثالث فهو تحد على مستوى “العلاقة مع الآخر”، أي تبيان موقف الإسلام في العلاقات الدولية.

تحديات المنهج

سبقت الإشارة إلى أنني أقصد بتحديات المنهج، تلك التحديات التي تتصل بطريقة النظر إلى “الثقافة الإسلامية”، كمفهوم وعلم. والتي تتصل بطريقة عرضها على المخاطَبين بها، كدعوة وهداية. ويمكن أن نتناول ذلك في ثلاثة محاور:

1 – الرؤية الكلية المقاصدية: في تعريف “الثقافة الإسلامية” أوضحنا أنها ذات منهج شمولي، ورؤية كلية مترابطة؛ ولذا ينبغي عند عرض هذه الثقافة على عموم الناس أن نهتم بهذا الجانب، وأن نوفيه حقه من الشرح والتوضيح.

لا يجوز أن نُشغل الجماهير بقضايا جزئية- هي فعلاً ذات أهمية، وإنْ كانت محدودة- عن رؤية إطار الإسلام الشامل ونظرته الكلية، وأهدافه المقاصدية؛ التي ترسم معالمه وخطوطه العريضة وثوابته التي لا تتبدل. فاشغال المخاطَبين بالثقافة الإسلامية بالجزئيات، إشغالاً فوق ما تستحقه، يباعد بينهم وبين فهم الإسلام فهمًا صحيحًا يبعث على العمل والتآلف والتآزر؛ ذلك أننا كلما اقتربنا من الرؤية الكلية والأهداف المقاصدية ضاقت شقة الخلاف، واتسعت مساحة الاتفاق.

وليس الأمر مقصورًا على جمهور المدعوين، بل هو يشمل أيضًا طلبة العلم والمختصين، فقد ذكر الإمام الشوكاني أن مما ينبغي على طالب العلم معرفته والإلمام به: العلم بالكليات الشرعية العامة؛ إذ هي تعينه على ربط الجزئيات بعضها ببعض، وعلى استحضار الأدلة على تلك الجزئيات؛ فقال رحمه الله:

“ومما يستعين به طالب الحق ومريد الإنصاف– على ما يريده من ربط المسائل بالدلائل، والخروج من آراء الرجال المتلاعبة بأهلها من يمين إلى شمال- أن يتدبر الدلائل العامة [الكليات الشرعية]، ويتفكر فيما يندرج تحتها من المسائل بوجه من وجوه الدلالة المعتبرة؛ فإنه إذا تمرن في ذلك وتدرب صار مستحضرًا لدليل كل ما يسأل عنه من الأحكام الشرعية”([5]).

2 – الخروج من الخلافيات: في قضية نشر “الثقافة الإسلامية” من المهم أن نخرج من أسْر الخلافيات إلى رحاب المتفق عليه، على أن نُبقي المجال واسعًا لفحص الآراء وتمحيصها وغربلتها في ساحة الدرس المتخصص فقط؛ أما في المجال العام والفضاء المفتوح للدعوة ولنشر الثقافة فإن تقديم المجمَع عليه هو الأوْلى، وهو الأجدر بأن يعطي صورة صحيحة عن الإسلام، سواء في الداخل أو الخارج.

إن من سعة الإسلام أن أتاح مكانًا رحبًا في الفروع أمام الاجتهاد والاختلاف، فنشأت المذاهب الفقهية وتعددت المدارس والمشارب. لكن عرض ذلك على عموم الناس دون ضوابط، قد يحدث بلبلة، ولا يوصل إليهم الصورة الصحيحة عن الإسلام.

نحن في “الثقافة الإسلامية” أمام معالم كبرى، وكليات عامة، وأصول متفق عليها، هي أساس الإسلام؛ سواء في عقائده أم قيمه أم نظمه أم توجيهاته؛ وتلك المعالم والكليات والأصول هي ما يجب أن ننشغل به إذا أردنا تكوين ثقافة إسلامية صحيحة، تعبر عن الإسلام خير تعبير، وتغرسه في النفس والعقل على نحو فاعل نابض.

ولنا أن نعجب أن الرجل من الأعراب حينما كان يفد على النبي يسأله عن الإسلام، لم يكن يزيد في تعريفه بالإسلام على جُمل معدودات، بحيث لا يشوش على الرجل عقله، ولا يثقل عليه؛ ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن أَعْرَابِيًّا أَتَى النبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الجَنَّةَ. قَالَ: “تَعْبُدُ اللهَ لا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ المَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ”. قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا أَزِيدُ عَلَى هَذَا. فَلَمَّا وَلَّى قَالَ النبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا”([6]).

3 – التيسير في الأسلوب: للأسف، فإن الملاحظ أن الوسائل المتعددة التي تهتم بنشر “الثقافة الإسلامية” تبدو كأنها تخاطب النخبة فقط، ولا تتوجه لعموم الناس. وفضلاً عن هذا، فإن شرائح عمرية ذات طبيعة خاصة، تبدو مهملة من هذا الخطاب الثقافي الإسلامي، مثل الفئة بين العاشرة والعشرين عامًا! حتى إنني أقف حائرًا أمام شاب يسألني أن أدله على كتاب في الإسلام يناسب عمره وثقافته!

والحال هذه، فإن تلك الفئة العمرية- على أهميتها وخطورتها- تبقى نَهْبًا للثقافات الأخرى التي تعرف كيف تخاطب غرائزها، وكيف تعبث بعقولها متسللةً إليها بأسلوب ماتع جذاب!

والأمر يزداد تعقيدًا إذا رغب أحد من غير المسلمين في أن يطلع على كتاب مترجم عن الإسلام، بما يناسب العقلية الغربية، ويعرف مداخلها وخصائصها.


([1]) “الثقافة الإسلامية: تخصصًا ومادة وقسمًا علميًّا”، دراسة تنظيرية وتعريفية موجزة للثقافة الإسلامية، أعدها أعضاء هيئة التدريس بقسم الثقافة الإسلامية بكلية الشريعة بالرياض، ص: 13، ط1، 1417هـ.

([2]) المصدر نفسه، ص: 13، 14، باختصار وتصرف يسير.

([3]) المصدر نفسه، ص: 14، 15.

([4]) المصدر نفسه، ص: 16.

([5]) “أدب الطلب ومُنتهَى الأَرَب”، الشوكاني، ص: 165، طبعة مكتبة الإسكندرية، تقديم د.سعيد إسماعيل علي، ط1، 2014م.

([6]) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة. ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان الذي يُدْخَلُ به الجنة وأن من تمسك بما أمر به دخل الجنة.