أوضحنا فيالمقال السابق أن التحديات الثقافية هي أحد أبرز التحديات التي تواجه عالَم الإسلام في وقتنا الراهن؛ إذ الفكر هو مقدمة العمل، والثقافة هي أساس العمران، وهي التي تصنع تفرُّدَ حضارةٍ ما وتميزها وخصوصيتها عن بقية الحضارات.

وتطرقنا إلى مفهوم “الثقافة الإسلامية” ومجالاتها، وبيَّنا أهم التحديات التي تواجه هذه الثقافة على مستوى المنهج؛ أي تلك التي تتصل بطريقة النظر إلى “الثقافة الإسلامية”، كمفهوم وعلم. والتي تتصل بطريقة عرضها على المخاطَبين، كدعوة وهداية.. وتناولنا ذلك في ثلاثة محاور: الرؤية الكلية المقاصدية.. الخروج من الخلافيات.. التيسير في الأسلوب.

وفي هذا المقال نتناول التحديات التي تواجه “الثقافة الإسلامية” على مستوى المجالات والموضوعات؛ والتي يتمثل أهمها برأيي في تبيان موقف الإسلام من الحرية، ومن المرأة، ومن العلاقات الدولية.

1- الإسلام والحرية: إن أحد المبادئ الكبرى المقرَّرة في الإسلام، أنه: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256)، وأنه لا سلطان على العقول والضمائر إلا لرب الناس وخالقهم: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ} (الشورى: 48). وأننا مأمورون بالتفكر والتدبر في كتاب الكون المنظور، وفي الكتاب المنزَّل المقروء، على السواء: {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ} (يونس: 101)، {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد: 24).

وإحدى الإشكاليات المطروحة على “الثقافة الإسلامية” في الواقع المعاصر تتمثل في “سؤال الحرية” على كل المستويات: الدينية، والفكرية، والسياسية، والاجتماعية. فلا يمكن أن نقبل بأن يكون الإسلام- الذي قرر هذه المبادئ- متهَّمًا بأنه يشرّع لفرض القيود، وتكبيل الإرادات، وطمس الشخصية، والحجر على العقول.

مع ملاحظة، أن هذه الحرية المقررة، لا تتنافى مع وضع الضوابط التي من شأنها أن تحفظ للمجتمع أمنه وقيمه؛ فذلك أمر معروف حتى في أعتى النظم التي تطلق للفردية عنانها إلى أقصى درجة.

2- الإسلام والمرأة: إذا كانت المرأة هي نصف المجتمع، وتربي نصفه الآخر، وهي بالتعبير النبوي: “النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ”([1])؛ فإن وضعها في مجتمعاتنا قد أصابه بعض العطب، بما أبعدها عن توجيهات الإسلام، وبما عطلها عن القيام بدور فاعل رشيد.

وأعتقد أنه- في إطار مراجعة ضرورية وملحّة، على ضوء القيم الإسلامية- فإننا يجب أن نعيد النظر في كثير من مفاهيمنا عن دور المرأة ومكانتها ووظيفتها؛ خاصة أن تاريخنا في مراحله الأولى قد شهد لها دورًا دعويًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا، حتى من قبل أن يعترف الغرب بأن للمرأة روحًا مثل الرجل!

من الصعب أن تتقدم مجتمعاتنا برئة واحدة، أي بدور الرجل وحده. ومن المخجل أن تُتهم ثقافتنا الإسلامية بأنها ضد المرأة وتحط من قدرها.

3- الإسلام والعلاقات الدولية: لم يأت الإسلام ليخاطب فئة بعينها، ولا جنسًا بذاته، ولا ليكون دين العرب وحدهم، بل قطع القرآن الكريم الطريق على دعاوى العنصرية حين خاطب النبي صلى الله عليه وسلم مُحدِّدًا له مجال دعوته فقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} (الشورى: 7)، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107).

ولا يمكن أن يكون الإسلام- وهو دين الحجة، والإقناع، والتفكر، والتدبر- قائمًا في علاقاته بالآخر على السيف والإكراه، بل كما يقول الأستاذ العقاد: “لم يعمد المسلمون قط إلى القوة، إلا لمحاربة القوة التي تصدهم عن الإقناع؛ فإذا رصدت لهم الدولة القوية جنودها، حاربوا؛ لأن القوة لا تحارب بالحجة والبينة. وإذا كفوا عنهم، لم يتعرضوا لها بسوء”([2]).

وقد بيّن الشيخ محمد رشيد رضا عند حديثه عن “قواعد الحرب والسلام في الإسلام” أن حالة السلم هي الأصل التي يجب أن يكون عليها الناس؛ ولهذا أمرنا الله بإيثارها على الحرب إذا جنح العدو لها، ورضي بها، فقال سبحانه {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (الأنفال: 61)… كما جعل سبحانه الأمر بقتال المعتدين، لكفِّ عدوانهم؛ وقَرَنَه بالنهي عن البغي والظلم، فقال: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة: 190). فتعليل النهي عن قتال الأعداء بأن الله تعالى لا يحب المعتدين مطلقًا، دليل على أن هذا النهي مُحكَم غير قابل للنسخ؛ ولذلك كانت حروب النبي صلي الله عليه وسلم للكفار دفاعًا ليس فيها شيء من العدوان”([3]).

أَمَا وأن يتهم الإسلام بالإرهاب، نتيجة اجتزاء بعض النصوص وبترها عن سياقها، سواء أكان هذا الاجتزاء ممن ينتسبون إليه، أو من كارهيه؛ فإن جهدًا ثقافيًّا كبيرًا مطلوب أن يُبذل لتصحيح هذه الصورة المغلوطة، ولإشاعة المفاهيم الصحيحة عن الإسلام.

هذه تحديات كبرى أمام “الثقافة الإسلامية”؛ ولا شك أن هذه الثقافة تمتلك من المقومات الذاتية ومن عوامل التميز ما يجعلها قادرة على تجاوز أية تحديات بيسر وسهولة؛ شريطة الحركة الواعية المخلصة من القائمين على أمرها، أفرادًا ومؤسسات.


([1]) أخرج أحمد وأبو داود والترمذي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ”.

([2]) “حقائق الإسلام وأباطيل خصومه”، عباس محمود العقاد، ص: 166، طبعة مكتبة الأسرة، 1999م.

([3]) “الوحي المحمدي”، رشيد رضا، ص: 321، 322، 325، طبعة مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر، ط3، 1406هـ، لبنان. بتصرف واختصار. وراجع المزيد في: “الإسلام عقيدة وشريعة”، الشيخ محمود شلتوت، ص: 453، دار الشروق، ط10، 1980م. “العلاقات الدولية في الإسلام”، الشيخ محمد أبو زهرة، ص: 51، دار الفكر العربي، 1995م.