وجه النبي ﷺ سؤاله للصحابة مثيرا بذلك عصفا ذهنيا، لرصد الأجوبة، ثم إعادة وصل المفاهيم بآثارها الأخروية لا الدنيوية فحسب. فما من شك أن الصحابة يدرون مَن المفلس باعتبار الثقافة السائدة، والبعد الاقتصادي الذي تنطوي عليه المفردة كأثر ناجم عن عجز الموازنة بين الموارد والحاجات، أو نتيجة قرارات خاطئة وثقة زائدة بالوضع القائم. غير أن مراد النبي ﷺ هو توسيع أفق المسلم، حتى لا تصبح الدنيا محط اهتمامه، وحصيلة منجزه وأدائه.
عبّر الصحابة عن واقع الحال من حيث ربط الإفلاس بتجرد المرء من الدرهم والمتاع، ليشرع الدرس النبوي في إعادة تأسيس المفهوم وفق رؤية أخروية، تُبرز الإفلاس كمحصلة لألوان الظلم التي يلحقها المرء بالغير :
” إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا..”
إنها نقلة هائلة من سراب المادية الخادع إلى ثروة القيم والأخلاق التي تعدل نجاة المرء يوم القيامة. وهي أيضا تحذير من صور الظلم المتعددة التي تفتك بالحسنات، وتحيل الجهد التعبدي إلى رصيد وهمي بعد أن وُزعت مدخراته على المظلومين. ويعرض الحديث لهذا الانقلاب في مشهد بليغ ومؤلم، يستحث كل عاقل على مراجعة كشوف حساباته:
” فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار.” (صحيح مسلم:2581)
يشكو واقعنا المعاصر من تجليات فصل خطير بين تدين المسلم وأدائه للشعائر من جهة، ومنبع السلوك الذي يحدد علاقته بالغير من جهة أخرى. فبين الدخول إلى المسجد والخروج منه تتولد حالة انفصام متكررة، بين ما يتلوه المسلم ويستمع إليه من أخلاق القرآن وتوجيهاته، وما يتبناه في معاملته للآخرين من أنانية وظلم، واستباحة للأموال والأعراض والدماء. وتتردد على المسامع عبارات من قبيل: زمان السوء، وفساد أخلاق الناس، والمسلم “الشاطر” من يبحث عن خلاصه الفردي، وإن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب؛ إلى غير ذلك من التبريرات الواهية التي تهدم مقاصد الدين، وتغذي أسباب الفرقة والخصام.
يعلن النبي ﷺ في مستهل الحديث أن هذا المفلس من أمته، وفي ذلك إشارة إلى أن الخيرية التي نص عليها القرآن الكريم ليست مقرونة بالحسب وشرف الانتماء، وإنما بالتخلق الجاد والصادق، واستحضار التوجيه الرباني في معاملة الغير. فليس للإنسان إلا سعيه، ولا يوجد مقرب من الله أو مبعد عنه إلا بالعمل. لذا ما كان للمفلس أن ينتفع بعبادات لم تتشرب النفس أثرها ودفقتها الإيمانية الموجهة للسلوك.
ثم يعرض لصور الظلم التي تحرم المرء من ثواب العبادة، وتوزع مدخرات الأجر على ضحاياه يوم الحساب العادل. وهنا تأكيد على عاقبة الظلم التي اشتد القرآن الكريم في النهي عنها، وعدّها سببا لهلاك الفرد والجماعة.
وحين يقرن النبي ﷺ بين الإفلاس كوضع مالي وعاقبة الظلم يوم القيامة، فإن وقع الترهيب يكون أشد، حتى تتحرر النفس من سلطان الهوى والشهوات، وتندفع للعمل في معترك الحياة لأجل خيرها وخير الناس.
ليست الولاية، يقول بعض أهل التصوف، أن يمشي الإنسان على الماء أو يطير في الهواء، ولكنها أن يعمل الإنسان في الأرض، فيزرع أو يتجر أو ينعم بالعيش، وهو لا يغفل عن الله طرفة عين. بمعنى أن العبادة الحقة في الإسلام هي جهاد النفس، سواء لتحقيق العمران أو بلوغ مراتب الإحسان. وكلما انحلت عرى الإيمان التي تضبط السلوك إلا وتكاثرت على المجتمع صور الإفلاس التي نتابع تجلياتها عن كثب، بدءا بالإفلاس القيمي ووصولا إلى الإفلاس الحضاري الذي يُمهد لتكالب الأمم على قصعة المغلوب!
وتبلغ مصيبة المفلس ذروتها حين تفنى حسناته قبل انتهاء أطوار محاكمته، فيقتضي العدل الإلهي الذي لا يظلم الناس مثقال ذرة أن يُؤخذ من خطايا مظلوميه ما يستوفي شروط المحاكمة العادلة، ثم تنضاف إلى ما اكتسبته يداه من شرور وآثام ويُطرح في النار.
وإذا كان ظلم الغير سبب الإفلاس، فإن النجاة منه تقتضي ترك التدبير الدنيوي لله تعالى ثقة به وتوكلا. يقول ابنالقيم رحمه الله في (الفوائد):” من ترك الاختيار والتدبير في طلب زيادة دنيا أو جاه، أو في خوف نقصان، أو في التخلص من عدو توكلا على الله وثقة بتدبيره وحسن اختياره له، فألقى كنفه بين يديه، وسلّم الأمر إليه، ورضي بما يقضيه له؛ استراح من الهموم والغموم والأحزان.
ومن أبى إلا تدبيره لنفسه؛ وقع في النكد والنصب وسوء الحال والتعب؛ فلا عيش يصفو، ولا قلب يفرح، ولا عمل يزكو، ولا أمل يقوم، ولا راحة تدوم.