الحالة المتأزمة التي تعيشها الأمة اليوم من التخلف الثقافي، وضعف الوازع الديني، واللهث وراء كل مادية دون محاسبة العواقب، أو دراسة المجريات، أو على الأقل تخطيط إنهاء هذه الأزمة، والتفاؤل لمستقبل شريف تدع الحليم حيرانا أحيانا، وتودي بالبعض أحيانا إلى زعزعة العقيدة، والتشكيك في الثوابت، نسمع ونقرأ عبر الفضاء الواقع والافتراضي تساؤلات عديدة، إذا كنا – معاشر المسلمين – فعلا على الحق كما تعلمنا ونعلم أبناءنا، فلماذا فشلنا في ميادين الحياة المختلفة؟ إن بلاد المسلمين تتساقط واحدة تلو الأخرى، وقرارات الأمم القوية تلاحقنا حتى إلى ديار الحرمين! فلماذا لم ينصرنا الله؟ باتت ديار الغرب خير ملاجئ دافئة للتدين المعتدل وآمن من الملاحقات الاستخبارتية، وديار المسلمين على عكس ذلك، أين إذًا مكمن الحق الذي نتزعمه؟!..

لا يستغرب أحدنا أن تقع لنا هذه التساؤلات إذا وردت في فترة الأزمات والابتلاءات، فإن المولى سبحانه وصف لنا حالات مماثلة لخيرة البشر، رسل الله حين قال عنهم: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) /يوسف: 110/ لكن الغريب حين نواجه هذه التساؤلات بخطابات مهلهلة لا اعتماد لها، خطاب الدعوة إلى الاستسلام للقدر، وإلى الرضوخ والتواكل، وربما يجد أحدنا منفسا رحيبا من أحاديث الفتن والملاحم، فيبرر بها موقفه السلبي من الابتلاءات والمصائب! يحتج بهذا النوع من النصوص دون استنطاقها، ودراسة ملابساتها وتحقيق مناطاتها في الواقع. ونرى بعض الخطباء يصور أحداث النهاية منهاجا لقبول الهزيمة كأنها قدر محتوم على هذه الأمة المرحومة!

فقه أحاديث الفتن وفهمها في إطار ملابساتها يرد شأنه إلى شراح الأحاديث

يحضرني في هذا المقام ما كان تصرف الصحابة رضوان الله عليهم حين سمعوا حديث الدجال كما رواه مسلم في صحيحه، فقد صور لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مخرج الدجال، فتظاهر لهم أنه قريب بجانب النخل، في المدينة، قال النواس بن سمعان – راوي الحديث – فلما رحنا إليه عرف الرسول ذلك، فسألهم ما الشأن؟ فقالوا: يا رسول الله ذكرت الدجال غداة، فخفضت فيه ورفعت[1]، حتى ظنناه في طائفة النخل، فقال: “غير الدجال أخوفني عليكم، إن يخرج وأنا فيكم، فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم، فامرؤ حجيج نفسه والله خليفتي على كل مسلم”.

يكفينا من هذا الحديث النبوي أنه خفف من روع المسلمين من مغبات فتنة الدجال، ودعاهم إلى الاستعاذة من فتنته، والاعتصام بصحيح الاعتقاد، فقد ثبتت أحاديث من قرأ فواتح الكهف أو خواتمه عصم من الدجال.. أو نحوه، المقصود أن المنهاج النبوي في أحداث الفتن استنهاض طاقات الأمة الإيمانية، والإرادة الوجدانية لمواجهة كل ما يأتي، وليس القصد منها التهويل وسلب الإرادة، وبعث أحاسيس متشائمة للمستقبل المغيب.

مثل هذا ينطبق على أحاديث كثيرة التي تصنف ضمن أحداث آخر الزمان، نقرؤها بتمحيص وفقه من أجل أخذ الأهبة المناسبة، واستقبالها بإيمان واثق، فهي لم تأت لإثارة مشاعر متضاربة ، وإقناع الأمة بمعركة مستقبل خاسرة، وبأن أمر المسلمين إلى الانهيار مع امتداد الزمن.

تبني بعض الحركات الإسلامية اليوم قضيتها الأولى والكبرى على حديث “بدأ الإسلام غريبا، وسيعود كما بدأ غريبا، فطوبى للغرباء”/أخرجه مسلم/، فتوظفه في صحة منهجها، وسلوكها، وأن الغرابة هنا قلة أهل الإسلام الذين على المنهاج الصحيح، وانكماش الأمة إلى درجة الأفول! ترى من خلال نافذتها الضيقة خروج عدد غفير من الإسلام الغريب، ولسان حالهم أن القلة دائما على الخير فلا حاجه لتكثيرها، والكثرة دائما مذمومة في القرآن الكريم!

ولا أدري هل نسي هؤلاء أن الكثرة من المنن الإلهية على هذه الأمة أفرادا وجماعات، اقرأ أن شئت سورة النصر، في قوله تعالى – وهو في صدد المن على رسوله صلى الله عليه وسلم – (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا) فكانت الكثرة من إحدى أمارات رحمة الله على هذه الأمة، كونها بدأت قليلة ثم كثرت ونمت، ولماذا التكلف في الإقلال منها على حساب جماعات معينة! فالكثرة في الأصل حكمة الله تعالى، ونعمته في الخلق، يترغب العبد إلى ربه بطلب الكثرة في العلم والرزق، لكن أن يتشاءم من الكثرة دون دراسة معمقة للنصوص تتوقع في ضبابية الفهم والتحكم في النصوص بغير طائل، وليس هنا البسط في هذا الموضوع.

والغاية من هذا المقال أن النصوص الغيبية التي تتحدث عن أحداث آخر الساعة وأماراتها يجب أن تفهم في سياقاتها، ولا يجوز أن تستخدم لإفشاء اليأس والقنوط في نفوس البشر، وترجيحها على كفة الخير، ومن أجل التعامل مع هذه النصوص بفقه راسخ لا بد أن نحدد منهاجا يلتزمه المسلم، فيما يأتي:

الكثرة في الأصل حكمة الله تعالى، ونعمته في الخلق، يترغب العبد إلى ربه بطلب الكثرة في العلم والرزق، لكن أن يتشاءم من الكثرة دون دراسة معمقة للنصوص توقع في ضبابية الفهم والتحكم في النصوص بغير طائل

1- خطر إساءة فهم أحاديث الفتن، إن فقه أحاديث الفتن وفهمها في إطار ملابساتها يرد شأنها إلى شراح الأحاديث، وإن النقل المجرد لها دون النظر إلى فقهها يسبب إشكاليات في عقيدة الناس، قد يوصل هذا الفهم إلى التصرف الخاطئ، من الانعزال والتشاؤم أو إلى الفوضى والهرج[2].

2- قبول أصول هذه الأحاديث دون تشكيك، يلزمنا أن نعرف أن أهل الحديث كانوا خير نقلة، رووا أحاديثهم بأمانة وإتقان، فهم قد بلغوا السنة على وجهها، يعترف لهم بذلك كل من له دربة بعلوم السنة رواية ودراية! وأحاديث الفتن وإن ظهر منها ما ينذر ببعض الشر فإن ذلك لا يدفعنا إلى إنكارها، وإنما يتعين أن نفهمها أنها من الدين، ولها مقاصدها، وأن المشكلة في هذه الأحاديث ليست من جهة الرواية، ولكن في فقهها، وفي كيفية تنزيلها على الواقع، فكان يلزمنا قراءات علمية جديدة لهذه الأخبار[3].

3- نشر أحاديث البشارات بين الناس، لا يكفي التركيز على الترهيب والتهويل بأحوال الفتن، فإن المحدثين الذين نقلوا أحاديث الفتن والملاحم هم أنفسهم الذين رووا أحاديث البشارة، فلا بد أن نراعي هذه المبشرات كذلك لاسيما في حالة الأمة اليوم التي تأزمت بمشاكل اللجوء والتطرف والمخاوف، وأبناء الأمة أحوج ما يكونون إلى نشر المبشرات من النصوص، وإيناسهم بها، فإن ذلك يجدد فيهم روح الفاعلية والتقدم واستشراف المستقبل بحيوية.

4- أحاديث الفتن في آخر الزمان خاصة، وهي داخلة في عموم الابتلاء الذي يصيب الإنسان، قال الله تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) /العنكبوت: 2-3/، فكانت الغاية من الابتلاء والفتن تمحيص أهل الصدق، والآية نزلت في قوم من المؤمنين كانوا بمكة، وكان الكفار من قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإسلام.. وهذا النوع من التعذيب كان مرحليا ثم انتهى، وهو ضرب من ضروب الفتن، ولكل أمة أو مرحلة زمانية فتنتها خيرها وشرها، فلا يجوز تعميم نصوص الفتن في آخر الزمان من أجل تسويغ المخالفات الشرعية، وترويج دعاوات إلى العنف أو اعتزال المجتمع الإنساني اعتمادا على هذه الأحاديث، يقول ابن عطية في مناسبة هذه الآية: هذه الآية وإن كانت نزلت بهذا السبب وفي هذه الجماعة فهي بمعناها باقية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، موجود حكمها بقية الدهر، وذلك أن الفتنة من الله تعالى والاختبار باق في ثغور المسلمين بالأسر ونكاية العدو وغير ذلك، وإذا اعتبر أيضا كل موضع ففيه ذلك بالأمراض وأنواع المحن”. /تفسير ابن عطية/

وخلاصة القول إن أحاديث الفتن أخبار لا يجوز اجترارها والاحتجاج بها دون علم ودراية، ودون مراجعة الملابسات التي وردت فيها، كما لا يجوز تعميم دلالاتها دون تحكيم أصول الشريعة فيها، فإن تفسير هذه الأخبار والعمل بها مجردة عن الأوصاف المذكورة توقع في الفتن أحيانا تكون أكبر من مدلول الأحاديث ذاتها، وتدعو الناس إلى الاستسلام للأقدار المغيبة، وتعطيل قدرات الأمة العلمية والصناعية، وينتهي بالناس إلى غايات الضلالة.


[1]  “خفض فيه ورفع” إشارة إلى طول الكلام عنه، وعظم فتنته، وفضيحة عاقبة أمره. انظر إكمال المعلم (8/428).

[2]  استشراف المستقبل في الحديث النبوي (168)

[3]  المصدر السابق