خلال أعمال الشغب التي شهدتها لوس أنجليس الأمريكية سنة 1993، انبرى خمسة مواطنين لحماية سائق شاحنة، بعد أن رأوا على شاشة التلفاز نقلا مباشرا لمحاولة الاعتداء عليه من لدن مجموعة من الغوغاء القساة. وردا على سؤال من المدعي العام حول دفاعهم عن رجل لم يقابلوه قط مسبقا قال أحدهم: شعرت وكأنهم يضربونني أنا !

إن عبارة “شعرت وكأنهم يضربونني أنا” تلخص جوهر العلاقة الإنسانية التي تسمو على لحمة الدم والعرق والنسب. لذا فبلوغ مرتبة الإنسان يتطلب تمرينا شاقا وطويلا، تتحرر فيه النفس من قبضة أنانيتها حتى تبصر الآخر بمنظور مختلف، وتدرك أن قوام العيش المشترك يكمن في حسن الجوار، ونكران الذات أمام حقوق الغير.

من هذا المنطلق أرسى الإسلام منظومة متفردة من الحقوق والآداب المتعلقة بالجوار، وشدد أمين الوحي على مكانة الجار حتى ظن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيُوَرثه. كما تضافرت النصوص العديدة لتجعل من الجار نافذتك على العالم، فالذي يحسن معاملة أربعين جارا من كل جانب لا شك أن هالة وده ومحبته ستمتد لتشمل العالم بأسره، لذا كان من فقه بعض المفسرين أن اعتبروا الجار هو كل ما يليك من نفس بشرية !

ورث المسلمون عن جاهليتهم رعاية الجوار ولو ببذل النفس والمال والولد، فقدمت المكتبة الإسلامية نماذج قيمة لمدى احترام الإنسان العربي للجار، ولزومه مقتضيات العرف و العادة، حتى في خضم الصراع والأزمات. وكل قارئ للسيرة النبوية تستوقفه تلبية المطعم بن عدي، وهو مشرك، لطلب النبي صلى الله عليه وسلم الدخول في جواره، وكيف أنه دعا بنيه وقومه قائلا: البسوا السلاح، وكونوا عند أركان البيت؛ فإني أجرت محمدا. ثم توجه إلى ساحة البيت الحرام وقام على راحلته فنادى: ” يا معشر قريش، إني أجرت محمدا فلا يَهِجْه أحد منكم.”

ومن طريف مأثورهم عن الجوار أن مدلج بن سويد الطائي كان يرى في الجراد إذا نزل حول خبائه، جارا تلزم رعايته، فاشتهر بمنع الناس من صيده حتى يطير بعيدا عنه !

كان من مقاصد الرسالة المحمدية تتميم مكارم الأخلاق ومحاسنها، فارتفع سقف الجوار فوق غاية الحَمِية والفخر وتأكيد المكانة. ولا يكاد مصنف في الفقه أو الحديث يخلو من قائمة الآيات والأحاديث التي توطد مكانة الجار في خارطة اهتمامات المسلم اليومية، وتحث على رعايته وتكريمه واحتمال أذاه.

يكشف التصور الإسلامي للجوار عن مفاتيح تنتظم من خلالها علاقة المسلم بجيرانه؛ وهي التي عبر عنها أبوالليثالسمرقندي في (تنبيهالغافلين) بقوله: تمام حسن الجوار في أربعة أشياء:

أولها: أن يواسيه بما عنده.

والثاني: ألا يطمع فيما عنده.

والثالث: أن يمنع أذاه عنه.

والرابع: أن يصبر على أذاه.

وفي التوجيهين الثالث والرابع تتركز خصوصية الطرح الإسلامي الداعي إلى احتمالالأذى، كمقوم جوهري لتثبيت العلاقة، خاصة داخل محيط تتجاور فيه العقائد والمذاهب المختلفة. وفي السيرة النبوية يستعرض القارئ مواقف للنبي صلى الله عليه وسلم مع جيرانه المشركين في مكة واليهود بعد الهجرة، تعكس وفاءه لتلك الرابطة المكانية بالصبر على الأذى، ومقابلة السيئة بالحسنة.

وبما أن قدرات الناس تختلف، وكذلك سعة صدورهم، فقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى حل عملي يتحقق من خلاله تأديب جار السوء، حيث يحمل المتضرر متاعه ويطرحه في الطريق، وبذلك تتحقق الإدانة الجماعية التي تضغط على البادئ بالظلم حتى يرعوي ويكف أذاه.

أدرك الرعيل الأول من المسلمين أهمية الجوار في خلق ترابط مكاني يمتد ليشمل المجتمع برمته، فكان الحرص على الجار الصالح مسلكا لا يحيد عنه إلا المضطر أو خفيف العقل. ومن الحكايات المأثورة في هذا الباب أن أبا الجهم العدوي كان جارا لسعيدبنالعاص، واضطر يوما لبيع داره بمئة ألف درهم، فلما أحضرها المشتري قال أبو الجهم: هذا ثمن الدار، فأعطني ثمن الجوار! قال الرجل مندهشا :أي جوار؟ قال : جوار سعيدبنالعاص. قال : وهل اشترى أحد جوارا قط؟ رد أبو الجهم: رُد علي داري وخذ مالك. لا أدع جوار رجل إن قعدت سأل عني، وإن رآني رحب بي، وإن غبت عنه حفظني، وإن شهدت عنده قرّبني، وإن سألته قضى حاجتي، وإن لم اسأله بدأني، وإن نابتني نائبة فرّج عني..

فلما بلغ الخبر سعيدا أرسل مئة ألف إلى جاره وقال :هذا ثمن دارك، والدار لك !

إن جار السوء من أعظم الابتلاءات التي تمتحن صبر المسلم في حياته اليومية. روي عن لقمانالحكيم قوله : يا بني، حملت الحجارة والحديد فلم أر أثقل من جار السوء !غير أن الحفاظ على شبكة العلاقات الاجتماعية يفرض على المسلم أن يضحي بشيء من “أناه” الخاصة في سبيل الإبقاء على اللُحمة، والتماس الأجر في خلق الصبر والعفو وإيجاد الأعذار التي تُخمد جذوة المشاكل. إنه المقصد الذي استوعبه الإمام الحسنالبصري فقال قولته الشهيرة : ليس حسن الجوار كف الأذى، وإنما حسن الجوار الصبر على الأذى.

انفرط العقد في مجتمعنا المعاصر حتى صار الجيران يطرقون أبواب المحاكم لأتفه الأسباب..

وضج الناس بالشكوى من التفاعل السلبي يوميا مع جيرانهم، فمنهم من اعتزل الحي أو البلدة بلا رجعة، ومنهم من أرداه الغضب قتيلا، أو جريحا، أو سجينا..

وقد تفضي خصومة عابرة بين الصبيان إلى قطيعة أبدية بين الكبار، فيتحول المبنى السكني إلى ثلاجة تتجمد داخلها أواصر المحبة والود، والمشاركة في السراء والضراء.

هي آلاف القصص المؤلمة التي تلتمس فقها متجددا ينصت لنبض المجتمع، ويبذل وسعه لتبديد سحب الأنانية التي أرخت بظلالها على علاقة الجوار، ولسان حالها يقول : كومة أحجار خير من هذا الجار!