أحب أن أشير في البداية إلى أنني لا أعتبر المسلسل التركي، ذائع الصِّيت: “قيامة أرطغرل”، عملاً دراميًّا “في التاريخ”، بمعنى أنه يوثِّق للتاريخ ويدقق فيه؛ وإنما هو عمل “عن التاريخ”، أي يستدعي التاريخ للواقع، ويوجِّه من خلال الماضي رسائلَ للحاضر يمكن أن تأخذ بيده من الحفرة التي انزلق إليها. وما أعمقها من حفرة!!

 

إذا سلَّمنا بهذا، لنخرج من الخلاف الجاري حول بعض الوقائع التاريخية في المسلسل؛ فإن أحد الانتقادات التي وجِّهت لهذا العمل الكبير هو أنه ركَّز، وبشكل يكاد يكون تامًّا، على صورة البطل؛ فصار أرطغرل هو محور المسلسل، وأمل القبيلة، ومنقذهم من كل ورطة.

وبرأيي، فالمسلسل مع إبرازه لدور البطل، أرطغرل، فإنه لم يقزِّم مَن حوله، وأبرز لنا بطولات أخرى بجانبه.. بل وحرصًا منه على هذا الإبراز، ميَّز كل واحد منهم بنوع معين من فنون القتال، ومن الصفات والمهارات.. فهذا تورغوت يحارب بالبلطة، وله شجاعة واندفاع.. وهذا بامسي يقاتل بالسيفين معًا، وعنده طيبة أقرب للسذاجة لكنه مخلص وجسور.. وذاك دوغان صاحب سيف مميز، بجانب مكره وذكائه.

بل أبرز المسلسل لنا شخصية غير محاربة جمعت بين الطب والسياسة، وهي شخصية الطبيب أرتوك.. إضافة لأدوار بطولية نسائية كثيرة؛ بدءًا بالأم هايماه، العاقلة، حارسة إرث سليمان شاه.. وليس انتهاءً بالسيدة أصليهان التي انحازت لمشروع أرطغرل، بعد عداوة؛ لما رأت أنه الحق، ووفاءً لذكرى أخيها علي يار.

فكيف يقال إن المسلسل كثَّف الأضواء على أرطغرل، وهمَّش مَن بجانبه..!

هذا عن المسلسل..

أما من حيث التاريخ.. فالتاريخ هكذا.. تُنسب فيه البطولات للقادة، دون أن يعني ذلك أنهم وحدهم من كانوا يحاربون بالمعركة، وأن الآخرين بجوارهم صفرٌ على الشمال..!!

نعم.. يبدو منطقيًّا أن يحوز البطل النسبة الكبرى؛ لكن دون أن يعني ذلك أن غيره لا وجود له ولا إسهام..!

وهذا الجدل يأخذنا إلى نقطة مهمة، وهي التي يريد المقال أن يعالجها، ولطالما أثارت الجدل بين المؤرخين والمهتمين بتاريخ الأمم والحضارات.. وتتمثل في السؤال التالي: ما هو محور حركة التاريخ؛ الفرد والبطل، أم المجتمع ومجموع القوى الاجتماعية والاقتصادية؟

في هذا الجدل، الذي دارت حوله دراسات كثيرة، عندي ثلاث نقاط أراها مهمة:

الأولى: وقد سبقت الإشارة إليها، وهي أن قراءة التاريخ تدلنا على أن أفرادًا ذوي صفات خاصة، عقلية ومهارية، هم من حدَّدوا مساره، ورفعوا راياته، وسجَّلوا صفحات من البطولة والفخار لشعوبهم وأممهم.

لكن الخطأ يأتي حين نظن أنه هذا يعني إنكار جهود وتضحيات من رافقوا هؤلاء الأبطال والعظماء في حروبهم ومواقفهم!

وإلا هل يستطيع أحد أن يزعم أن أبا بكر رضي الله عنه هو من حارب وحده جموع المرتدين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؟!

وهل يمكن لعاقل أن يقول إن خالد بن الوليد، وهو الذي لم يُهزم قط في معركة خاضها، كان يقاتل بمفرده في الميدان؟!

لا.. لكن العمل البطولي يُنسب للقائد، ولصاحب المبادرة، ولمن يرفع الراية.. وهذا أراه يبدو منطقيًّا، ولا يعني بالضرورة إنكار جهود الآخرين.

النقطة الثانية: أن المجتمع، بقواه الاجتماعية والثقافية والاقتصادية وغيرها، كلما كان حيًّا وفاعلاً ومتفاعلاً ونابضًا؛ فإن هذا يسمح ببروز مواهب الأفراد ونموها.. بحيث يكون المجتمع كالتربة الخصبة التي تُنبت البذور ولا تدفنها، وتُحيي الزرع ولا تشله، وتُطْلق الطاقات وتفعِّلها ولا تهدرها وتخملها.

ولو أن فردًا ذكيًّا شجاعًا وُجد في بيئة عطنة آسنة؛ لما أمكنه أن يفعل لها الكثير، ولا أن يحقق إنجازات حتى لنفسه..!

لكن البيئة الحية التي تتوافر فيها ولو حدودٌ دنيا من الفاعلية، يمكن لأفرادها أن يحرزوا درجة معقولة من النجاح والتقدم.

وما جاء في (سراج الملوك) لأبي بكر الطرطوشي، من حوار بين علي بن أبي طالب وسائل سأله عن سبب كثرة الفتن في عهده وفي عهد عثمان، دون عهد سابِقَيْهما: أبي بكر وعمر؛ يوجز لنا العلاقة المتشابكة بين القائد الفذ والمجتمع الحي، ويبين أن وجود كليهما معًا هو ما يسمح بتسجيل الإنجازات في كتاب التاريخ.

فقد قال عبيدة السلماني لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين، ما بال أبي بكر وعمر انطاع الناس لهما، والدنيا عليهما أضيق من شبر فاتسعت عليهما؛ ووليت أنت وعثمان الخلافة ولم ينطاعوا لكما، وقد اتسعت فصارت عليكما أضيق من شبر؟ فقال: لأن رعية أبي بكر وعمر كانوا مثلي ومثل عثمان، ورعيتي أنا اليوم مثلك وشبهك!

ومما هو جدير بالإشارة في هذه النقطة، أن المسلسل نجح في أن يتجنب الوقوع في فخ البطل “السوبرمان”، بل عرض لنا كيف ينهزم أرطغرل حين ينفصل عن جنوده لسبب أو لآخر، وكيف وقع في الأَسْر أكثر من مرة، وكيف أُصيب إصابات بالغة كادت تودي بحياته.. فهو بطل له صفات مميزة عن غيره؛ لكنه ليس خارقًا، وليس خارج المعادلات الإنسانية.

النقطة الثالثة: أن الحياة كلما كانت ساذجة غير معقدة، والحضارة في طورها الأول من السهولة وعدم التشابك؛ فإن هذا الوضع يسمح لأن يكون للقائد دور بنسبة أكبر من دور المجتمع.. مثلما أمكن للعلماء قديمًا- قبل أن تتعقَّد العلوم وتتشعَّب- أن يُلِمُّوا بشتات علوم مختلفة، ويبدعوا في المعقول والمنقول معًا؛ حتى كان أحدهم، وهو ابن رشد، يُرجَع إلى فتواه في الفقه كما يُرجع إلى فتواه في الطب وفي الفلسفة، كما قال مؤرخوه.

أما في عصرنا الذي انبسطت فيه العلوم، وتشعَّبت فيه الفروع، وتجدَّدت فيه المعارف بشكل يصعب على الحصر والإحاطة؛ فلم نعد نرى هذا النموذج الفذ من العلماء،؛ وبالتالي اشتدت حاجتنا إلى الاجتهاد المؤسسي لا الفردي، وإلى المجامع الفقهية التي تضم متخصصين في علوم الشريعة وعلوم الطبيعة وعلوم الاجتماع والتربية.. وبات ذلك ضرورة لا تغني عنها جهودُ الأفراد؛ مهما كانوا عباقرة ونابغين.

ولذا، نحن بحاجة لمؤسسات قوية فاعلة يستطيع المجتمع من خلالها أن ينظم حركته، وأن يحقق ما يصبو إليه من طموح وآمال.. خاصة أن حكم الفرد في عصرنا الحديث قد جرَّ علينا المصائب و”عظائم الهزائم”، ورسَّخ لديكتاتوريات؛ لم تجد أمامها من يمنعها من التسلط والاستحواذ على صناعة القرار، ويَغُلّ يدها عن العبث بمصائر الشعوب.

وإذا كانت الأمم القوية الآن أكثر إدراكًا لدور المؤسسات؛ سواء في العمل الفكري والبحثي- من خلال مراكز التفكير (Think Tanks)- أو في العمل التنفيذي وإدارة دولاب الدولة.. فإننا أشد حاجة منها لإدراك ذلك.

نعم، نحن بحاجة للشخص القائد؛ الذي يقود الجماهير، ويجمع الحشود، ويصير رمزًا للفكرة والطموح.. لكننا بحاجة أيضًا وبالدرجة نفسها- وربما أشد- للفكرة القائدة، والمشروع المجمِّع للطاقات، وبحاجة للمجتمع الفاعل، والمؤسسات الحية، والجماهير الواعية؛ التي لا تسمح لأحد أن يخدعها، ولا أن يمتطي ظهرها باتجاه آماله هو، وطموحاته الفردية.