التطرف داء اجتماعي، لا يتوقف عند مجموعة بشرية معينة، ولا هو محصور في أتباع دين معين، ولا يعرف له لون واحد، بل هو مستشرٍ بين الشرق والغرب، والعرب والعجم، والمسلمين وغير المسلمين، وبين أصحاب الديانات وبين الملاحدة، فهو طاعون العصر، تراه يطل بعينه القبيحة في كل كوخ وقصر، تجده في الحاكم والمحكوم، وفي الصغير والكبير، والشاب والفتاة، تجده في البيوت والحارات والشوارع والطرقات، تجده بين الغلاة الذين غالوا في دينهم وتشددوا، وبين الجفاة الذين يريدون الانسلاخ من الدين بالكلية، فما الدين عندهم إلا رسم وشعارات، وقليل من العادات، كالحرص على الصلاة والصوم والحج، فدينهم محبوس في المساجد، أما في الحياة، فشعارهم: دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، والله تعالى يقول: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [الأنعام: 161 – 163].
فالحق أن أزمة التطرف بشقيه الإفراط والتفريط، والتشدد والانحلال هي أزمة أخلاقية في المقام الأول، وإن علاج ظاهرة التطرف يكون من خلال علاج الأخلاق والسلوكيات التي حادت عن منهج الإسلام، وإيجاد لحلول لتلك الأزمة الأخلاقية في المجتمع، وهو أمر ليس باليسير ولا بالمستحيل، ذلك أننا إذا بحثنا عن التطرف وجدنا في كل إنسان، وإن تفاوتت النسب، حتى ينسب إنسان إليه، ولا يعرف به إنسان آخر.
ومن هنا، كان واجبًا على المصلحين والساعين إلى علاج التطرف أن يعالجوه أولا في نفوسهم وفي بيوتهم وفي علاقتهم مع أبنائهم، وعلاقتهم مع من هم تحتهم من الموظفين والخدم، ومع أصدقائهم في تعاملهم، ومع زوجاتهم في البيوت، ومع طلابهم في المدارس والجامعات، ومع عمالهم في المصانع، ومع موظفيهم في الشركات والمؤسسات، وفي النوادي والمنتزهات، فإن وأد التطرف في المهد أولى من البحث عن علاجه بعد ما بلغ سن الشباب والرجولة والشيخوخة والكهولة.
التطرف داء اجتماعي، لا يتوقف عند مجموعة بشرية معينة، ولا هو محصور في أتباع دين معين، ولا يعرف له لون واحد، بل هو مستشرٍ بين الشرق والغرب
وكثيرًا ما يرى المهتمون بشأن التطرف أن المشكلة الرئيسة في المتطرفين تشددا وانحلالا هي في الفكر، وهذا صحيح، لكن أهم من الفكر الأخلاق والسلوكيات، فالأخلاق هي السياج الحامي للأفراد والمجتمعات والدول من لهيبه اللاذع من التشدد، وخطره الفج من الانحلال والتسيب، فإذا عولجت أخلاق المتشددين عادوا إلى جادة الطريق، وإذا دوويت أخلاق المنحلين استقاموا على الصراط المستقيم، وهذا هو وسط الإسلام الذي يرفض التشدد والإيغال في الدين، كما أنه يرفض الانحلال والتسيب والبعد عن تعاليمه، لأن الإسلام جاء بنظام حكيم، يضمن للبشرية كلها حياة طيبة، وهو المعبر عنه بالعمل الصالح، فالعمل الصالح يضمن للناس جميعا – مسلمهم وكافرهم- حياة طيبة في الدنيا، ويحفظ للمؤمنين الثواب الجزيل في الآخرة كما قال ربنا سبحانه وتعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
لكن قبل البدء في بيان أخلاق المتطرفين، يجب التنبيه على أن التطرف لا يعني التشدد الديني وحده، بل يعني التشدد الديني أو الانحلال الخلقي والسلوكي والعقدي، فكل منهما قد تطرف عن الحق، ومن مساوئ الخطاب المعالج لظاهرة التطرف أنه يهتم بنقد التشدد، في حين أنه يغض الطرف عن الانحلال والتسيب، الذي قد يكون هو أحد أسباب التشدد الديني، ويكون رد فعل لوجوده، وكلا التطرف والتسيب مذموم في الشريعة، غير محمود عند الناس.
الإسلام جاء بنظام حكيم، يضمن للبشرية كلها حياة طيبة، وهو المعبر عنه بالعمل الصالح، فالعمل الصالح يضمن للناس جميعا – مسلمهم وكافرهم- حياة طيبة
الأمر الآخر، هو عدم التفريق بين المتطرف والأصولي، وكلمة الأصولي مستعملة بكثرة في الكتابات الغربية على أنها مرادفة للمتطرف، وهذا خلط وغلط، وهو أحد استعمالات حرب المصطلحات التي يقودها فريق من المفكرين الغربيين.
وعدد محمد الجليند في كتابه “الأصولية والحوار مع الآخر” الفوارق بين المتطرف والأصولي، ومن أهم صفات المتطرفين ما يلي:
1- أنهم في بعض الأحيان يجهلون العلم بمراتب الأحكام فيضعون المندوب في مقام الواجب أو السنة، ويخلطون بين المكروه والحرام.
2- الاستبداد بالرأي والتعصب والتحامق مع المخالف.
3- أنهم يقرنون بين الخطأ والإثم، دون تفرقة بين من يخطئ عن جهل ومن يخطئ عن قصد، ولا بين المجتهد المخطئ والمعتمد في خطأه.
4- عدم الاعتراف بالآخر وسوء الظن بالآخرين واتهامهم في عقيدتهم والطعن في آراءهم.
5- الطعن في العلماء والتشويش عليهم واتهامهم في كثير من الأحيان.
6- الميل والجنوح إلى التشدد والتعسير على الناس وإلزامهم بما لا يلزم.
7- التكفير للحاكم والمجتمع بدون ضوابط.
أخلاق المتطرفين
أخلاق المتطرفين عديدة، ونقصد بأخلاق المتطرفين الأخلاق التي تغلب عليهم، والتي تكون رافدا من روافد تطرفهم، أو يكون التطرف ملتصقا بها.
من مساوئ الخطاب المعالج لظاهرة التطرف أنه يهتم بنقد التشدد، في حين أنه يغض الطرف عن الانحلال والتسيب، الذي قد يكون هو أحد أسباب التشدد الديني
ومن ذلك:
– الظلم: فمن أهم أخلاق المتطرفين أنهم ظلمة، يظلمون غيرهم بدعاوى كثيرة، فلا يراعون حرمات الغير ولا حقوقهم، ويجدون لأنفسهم المبررات لاستحلال ذلك، سواء الغلاة منهم والجفاة.
– سوء الظن: فالمتطرف – تشددا أو انحلالا- يسيء الظن بالناس، وينظر إليهم من منظور أسود، يخفي حسناتهم، وينشر سيئاتهم، ويخضم أخطاءهم، ويضعف صوابهم.
– الغلظة:فهم يتعاملون مع الناس بغلظة وفظاظة، وخشونة في الأسلوب والحديث، يتعاملون مع المخالف على أنه عدو لهم، وقد خاطب الله تعالى رسوله ﷺ بقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]
– الجهل: فغالب المتطرفين لا يهتمون بالعلم كثيرا ، فهم غير متأصلين فيه، ربما كان عند بعضهم ثقافة عامة، لكنه غير متخصص في علوم الدين والشريعة، ولذا لا يفرق بين العام والخاص، ولا المطلق والمقيد، ولا الناسخ والمنسوخ، ولا إدراك لهم بدلالات الألفاظ ومراتبها، ولا شروط الاجتهاد وقواعد الإفتاء، وتلقيهم غالبه من الكتب مباشرة، أو من الأشرطة والتقنيات الحديثة لا من خلال الجلوس بين يدي العلماء والتلقي عنهم. ولذا يجيء الغلط من تلك الناحية للجهل.
– العزلة والانغلاق: أما في المتطرفين المتشددين، فكثير منهم ينعزل عن المجتمع بصورة من الصور، يرون أنفسهم مجتمعا خاصا لا يشاركون غيرهم فيه، وهم منغلقون على أنفسهم، وأما المتطرفون المتسيبون فعندهم عزلة فكرية وانغلاق على أفكارهم، فهم يرون أنفسهم أفهم الناس دون غيرهم، وأنهم يملكون الصواب المطلق. كما يتسم المتطرفون بالعزلة من ناحية الزواج، فغالبا ما يتزاوجون فيما بينهم، ولا يقبلون زواج ذويهم من غيرهم.
– الغضب والانفعال: يتسم المتطرف بشدة الانفعال على الغير، والحدة في التعامل، وشدة الغضب في أتفه الأمور، والعنف في الحديث والتعامل مع المخالف في الرأي وسوء الظن به، في الوقت الذي يحب من هو معه أو من على فكره، ويلتمس له ألف عذر، ويراه دوما على صواب مهما كان خاطئا، وقد قيل: حبك الشيء يعمي ويصم.
– الكذب: وقد يضطر المتطرف – أحيانا- إل اللجوء للكذب وإخفاء الحقائق، ويجد لنفسه كثيرا من المبررات في ذلك من باب المصلحة والمحافظة على عديد من الأمور عنده، أو انتصارا للحق الذي يراه.
الأخلاق هي المنطلق الرئيس في علاج ظاهرة التطرف، والعناية بسلوك الأشخاص في المجتمعات خاصة في سن المراهقة
وفي سبيل فكرهم هم يكذبون على الله تعالى، بتحريف الكلم عن مواضعه، بين موجب على الناس مالم يوجبه الله تعالى، كوجوب قتال جميع الكافرين لعلة الكفر، أو لشبهة التكفير، وبين مبيح للناس ما حرمه الله تعالى على عباده، كمن يرى أن الحجاب ليس فريضة، أو أنه لا دخل للدين في الحكم، أو أن الربا كان محرما قديما، أما الآن، فالأحكام مختلفة، وأنه يجب المساواة بين الجنسين في الميراث بإطلاق، ونحو ذلك مما لم ينزل الله به سلطانا وما لهم به من علم، إن هم إلا يضلون. وقد عاب الله تعالى على هذا الصنف من الناس ذلك الخلق بقوله: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116]
– التعالي والاعتداد بالذات: سمة المتطرف أنه يرى نفسه فوق المجتمع الذي حوله، وأنه يفهم أكثر منهم، وأن رأيه صواب لا يحتمل الخطأ، وأن رأي غيره خطأ لا يحتمل الصواب، وأنه في مقام المعلم للناس وهم عنده تلاميذ متعلمون، يتوجب عليهم السمع له والطاعة، لأنه يملك الحق المطلق، والصواب الأوحد، والعقل المفكر، أما باقي الناس، فهم جهلة لا يعلمون، فهم عنده في ضلال مبين، منحرفون عن الصراط المستقيم، لأن الصراط المستقيم هو الذي يحدده، وهو الذي يفهمه، وهو الذي يضع فيه من شاء باسم الله تعالى.
إن أزمة التطرف لها وجهان: أحدهما يتعلق بالمعرفة والفكر، والثاني يتعلق بالأخلاق والسلوك، والأخطر منهما ما كان متعلقا بالأخلاق والسلوك، لأن تغيير الفكر ممكن وإن كان صعبا، كما أن أثر الفكر قاصر، وأثر الأخلاق والسلوك متعد، لأنه يتعلق بالتعامل مع الآخر، وظهور آثار المتطرفين مع أفراد المجتمع، كما أن كثيرا ممن يعالجون التطرف يولون الفكر اهتمامًا أكثر من السلوك مع خطره.
من هنا.. كانت الأخلاق هي المنطلق الرئيس في علاج ظاهرة التطرف، والعناية بسلوك الأشخاص في المجتمعات خاصة في سن المراهقة، مع مراعاة أدوات العلاج الأخرى، كالظروف الاجتماعية، والظروف النفسية التي يمر بها من يصاب بداء التطرف؛ تشددا وانحلالا.