تمثل “القيم” في أي نموذج فكري أو فلسفي لُبَّه ومحوره ومرتكزه الأساس، فهي التي تتفرع عنها بقية التفاصيل، وتنساح من بؤرتها سائر المقولات.

فمعرفتنا بالقيم في نموذج فكري ما، تبين لنا جوهر هذا النموذج، وتلخص لنا رؤيته العامة وخطوطه العريضة، كما تكشف عن نقاط تميز هذا النموذج وتمايزه عن غيره من النماذج والفلسفات.

وهذه الإطلالة تهدف لمقاربة بعض أسئلة القيم في الحضارة الإسلامية، خاصة فيما يتصل بمفهومها، ومكانتها، ومصدرها، وهل هي ثابتة أم تتغير؟ إضافة إلى سؤال القيم المشتركة وصولاً إلى “التعارف” المنشود بين الثقافات والحضارات.

مفهوم القِيَم

– القيم لغةً: جاء في “لسان العرب”: “الْقِيَامُ: نَقِيضُ الْجُلُوسِ؛ قَامَ يَقُومُ قَوْمًا وَقِيَامًا وَقَوْمَةً وَقَامَةً. وَالْقَوْمَةُ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ. وَقَدْ يَجِيءُ الْقِيَامُ بِمَعْنَى الْمُحَافَظَةِ وَالإِصْلاَحِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا}، أَيْ: مُلاَزِمًا مُحَافِظًا.

وَأَقَامَ بِالْمَكَانِ إِقَامًا وَإِقَامَةً وَمُقَامًا وَقَامَةً. قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَعِنْدِي أَنَّ قَامَةَ اسْمٌ كَالطَّاعَةِ وَالطَّاقَةِ. التَّهْذِيبُ: أَقَمْتُ إِقَامَةً، فَإِذَا أَضَفْتَ حَذَفْتَ الْهَاءَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ}. وَأَقَامَ الشَّيْءَ: أَدَامَهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ}، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ}، أَرَادَ إِنَّ مَدِينَةَ قَوْمِ لُوطٍ لَبِطَرِيقٍ بَيِّنٍ وَاضِحٍ، هَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ. وَالاسْتِقَامَةُ: الاعْتِدَالُ. قَالَ الرَّاجِزُ: وَقَامَ مِيزَانُ النَّهَارِ فَاعْتَدَلْ.

وَالْقَوَامُ: الْعَدْلُ، قَالَ تَعَالَى: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}، قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ لِلْحَالَةِ الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ الْحَالاتِ، وَهِيَ تَوْحِيدُ اللهِ، وَشَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَالإِيمَانُ بِرُسُلِهِ، وَالْعَمَلُ بِطَاعَتِهِ. وَقَوَّمَهُ هُوَ وَاسْتَعْمَلَ أَبُو إِسْحَاقَ ذَلِكَ فِي الشِّعْرِ، فَقَالَ: اسْتَقَامَ الشِّعْرُ اتَّزَنَ. وَقَوَّمَ دَرْأَهُ: أَزَالَ عِوَجَهُ.

وَالْقِيمَةُ: وَاحِدَةُ الْقِيَمِ، وَأَصْلُهُ الْوَاوُ لأنهُ يَقُومُ مَقَامَ الشَّيْءِ. وَالْقِيمَةُ: ثَمَنُ الشَّيْءِ بِالتَّقْوِيمِ([1]).

وجاء في “مقاييس اللغة”: (قَوَمَ) الْقَافُ وَالْوَاوُ وَالْمِيمُ أَصْلانِ صَحِيحَانِ؛ يَدُلُّ أَحَدَهُمَا عَلَى جَمَاعَةِ نَاسٍ، وَرُبَّمَا اسْتُعِيرَ فِي غَيْرِهِمْ؛ وَالآخَرُ عَلَى انْتِصَابٍ أَوْ عَزْمٍ. فَالأَوَّلُ: الْقَوْمُ، يَقُولُونَ: جَمْعُ امْرِئٍ، وَلا يَكُونُ ذَلِكَ إِلا لِلرِّجَالِ. وَأَمَّا الآخَرُ فَقَوْلُهُمْ: قَامَ قِيَامًا، وَالْقَوْمَةُ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ، إِذَا انْتَصَبَ. وَيَكُونُ قَامَ بِمَعْنَى الْعَزِيمَةِ. وَمِنَ الْبَابِ: قَوَّمْتُ الشَّيْءَ تَقْوِيمًا. وَأَصْلُ الْقِيمَةِ الْوَاوُ، وَأَصْلُهُ أَنَّكَ تُقِيمُ هَذَا مَكَانَ ذَاكَ. وَمِنَ الْبَابِ: هَذَا قِوَامُ الدِّينِ وَالْحَقِّ، أَيْ بِهِ يَقُومُ([2]).

القيم تعني المفاهيم والأفكار التي تتمتع بالديمومة والاستمرارية والمعيارية

إذن من خلال التعريف اللغوي لمادة “قوم” وتصريفاتها، يتبين لنا أنها تأتي بمعانٍ عدة، منها: المحافظة والإصلاح، الثبات على الأمر، الاستقامة والاعتدال، ثمن السلعة.. ولعل هذه المعاني هي ما تتضمنه التعريفات المعاصرة المتعددة لمفهوم القيم.

– القيم اصطلاحًا: يذهب “المعجم الفلسفي” في تعريف “القِيَمة” إلى أنها: صفة عينية كامنة في طبيعة الأقوال (في المعرفة)، والأفعال (في الأخلاق)، والأشياء (في الفنون). ومادامت كامنة في طبيعتها، فهي ثابتة لا تتغير بتغيُّر الظروف والملابسات”([3]).

ويعرّف “كرلنجر” “القيمة” بأنها: “تنظيم الاعتقادات والاختيارات بالاستناد إلى مراجع تجريدية أو مبادئ، وإلى عادات سلوكية أو أنماط، وإلى غايات الحياة.. إننا نعتبر من قبيل القيم كلَّ ما يهمنا بشكل أساسي تحقيقُه، وكل ما يهب معنىً لحياتنا”([4]).

أما د. عمارة فيرى أن “القيم” هي: “المعايير الثابتة الخالدة، التي تمثل موازين صلاح الأقوال والأفعال والأشياء”([5]).

ويوضح د. العوا أن الوجود القيمي شاع في الثقافة العربية، لغة وأدبًا؛ وأننا على مستوى الفكر التأملي نجد “بعض دنو من فهم القيم وتنهيجها، ولكنه لم يبلغ في الحق رتبة تتيح لنا الادعاء بأن هذا الوعي قد سبق الوعي المعاصر بالمشكلة القيمية.. وغاية ما نستطيع استشفافه هو اقتراب الفكر العربي من بعض المصطلحات القيمية الحديثة، ولاسيما في دلالة القيمة والتقويم وما يواكبهما من معاني الاستحسان والكمال والغاية، أو الهدف والغرض”([6]).

وهنا ترد إشكالية: لماذا تميزت “القيم” بمباحث خاصة في فلسفات الحضارة الغربية، ولم تتميز بمبحث خاص في فلسفة الإسلام؟

يجيب د. عمارة عن ذلك بأن السبب هو أن “القيم” في النظرة الإسلامية هي بمثابة الروح السارية في كل شيء؛ فهي بديهة لا خلاف عليها، وروح سارية لا سبيل إلى إنكارها؛ ومن أراد تلمسها في الأنساق الفكرية الإسلامية، فعليه النظر في كل أبواب علوم وفنون تلك الأنساق، وليس في مبحث خاص من مباحث الفلسفة الإسلامية”([7]).

ويشير د. الدجاني إلى أن الأحكام القيمة أنماط ثلاثة‏؛‏ فئة تعبر عن أوامر ونواهٍ، والنواهي أكثر عددًا في كثير من المجالات، مثال ذلك: لا تكذب‏,‏ لا تسرق، لا تقتل.‏ وفئة تعبر عن نصيحة، كقولنا: إذا عرفت فتوكل‏.‏ وفئة تعبر عن تقدير وقائع ليس للمرء سلطان عليها، كما يلاحظ بول سيزاري في كتابه القيمة.

ويوضح الدجاني أن قيمة شيء من الأشياء هي إمكان الرغبة فيه، وهذه العلاقة بين الشيء والشخص تجعلنا نفهم أن الشخص يرغب بالشيء حقًّا. وأن في مفهوم القيمة دومًا مستوى أو معيارًا للانتقاء بين بدائل أو ممكنات اجتماعية. وأن العلماء قد صنفوا القيم وفقًا لحقول البحث؛ اقتصادية كانت، أو اجتماعية، أو سياسية، أو ثقافية أو دينية روحية([8]).

يتضح لنا إذن أن “القيم” تعني المفاهيم والأفكار التي تتمتع بالديمومة، والاستمرارية، والمعيارية([9])؛ أي يُحكَم من خلالها على الأقوال والأفعال والأشياء. وأنها مفهومًا ومضمونًا راسخةٌ شائعة في النسق الإسلامي، وإن كانت لم تنفصل بمحددات فلسفية.

 

مكانة القيم في الحضارة الإسلامية

القيم في الحضارة الإسلامية- بالمعنى المتكامل لـ “الحضارة”، أي: الجانب الروحي والمادي- لها مكانتها الأساسية، ومنزلتها الرفيعة؛ وبهذه “القيم” تتحدد باقي مجالات الحضارة، وتكتسب بصمتها المتميزة والمميِّزة.

ولذلك يرى المستشرق الدنماركي جوستاف فون جرونيباوم أن التأثير الحضاري للإسلام هو في تغييرات أساسية أحدثها في مجال القيم، بالنسبة لما كان سائدًا قبله بشبه جزيرة العرب في ظل الوثنية. ومحور هذه التغييرات: تحديد هدف الحياة وغايتها، من خلال الإجابة على ثلاثة أسئلة: كيف تعيش حياة صحيحة؟ وكيف تفكر تفكيرًا صحيحًا؟ وكيف تقيم نظامًا صحيحًا؟

إذا كانت ثمة حضارات تصطنع تناقضًا بين الجانب الروحي المادي بحيث تغلب هذه الحضارة أو تلك أحد الجانبين على الآخر فإن الإسلام يجمع بينهما في تكامل

ويرى جرونيباوم أن الإسلام قد قدَّم أجوبة لهذه المشكلات والقضايا في: التربية الصحيحة للفرد، والترتيب النسبي لمناشط الإنسان (الواجب، المندوب، المباح، المكروه، الحرام)، وتحديد القصد والمجال بالنسبة لسلطة الحكم أو ممارسة القوة السياسية. وكان من ثمار هذه القيم، أن استحدث الإسلام واجبات على عاتق الفرد، أو عمد إلى تعديل واجبات قديمة؛ كما أنه قرر حقوقًا جديدة تتناول شتى مجالات السلوك الإنساني، الفردي أو الاجتماعي؛ وقد أدى ذلك إلى تقويم أية خبرات حضارية سابقة أو لاحقة في هذا الضوء، بحيث تكون متجاوبة مع معايير الإسلام ومقاصده([10]).

القيم الإسلامية ومجالات الحياة

لقد امتدت القيم التي وضعها الإسلام لتصبغ مجالات الحياة كافة بصبغتها وطابعها الخاص، ولتنظم سلوك الإنسان، على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع والدولة.

يقول د. فتحي عثمان: “ارتبطت منجزات الحضارة الإسلامية بالقيم الإنسانية التي دعا إليها؛ فتعاليم الإسلام في النظافة والطهارة قد أدت إلى الاهتمام بتزويد المساجد بموارد المياه، وإنشاء الحمامات. وبناء على تعاليم الإسلام في رعاية الجائع والعطشان وابن السبيل، جاء تقرير حقِّ الشَّفَة، كما جاءت الأسبلة أو الماء السبيل، وهو الماء المباح للناس كافة في سبيل الله، كذلك جاء إنشاء دور الضيافة والإيواء، والرباطات أو الأربطة. وتعاليم الإسلام في إيجاب طلب العلم وتيسير سبله، قد ترتب عليها قيام التعليم بالمساجد، ثم بالمدارس، وقيام مراكز البحث العلمي والثقافة العامة والمكتبات. وقدَّم نظام الوقف شواهد معبرة لمؤسسات اجتماعية دائمة قامت على تحقيق الخير والمعروف”([11]).

وإذا كانت ثمة حضارات تصطنع تناقضًا بين الجانب الروحي أو المعنوي، والجانب المادي من الحضارة؛ بحيث تُغلِّب هذه الحضارةُ أو تلك أحدَ الجانبين على الآخر؛ فإن الإسلام يجمع بينهما في تكامل، وإنْ كان يقرر أولوية الجانب الروحي، ويعطيه درجة أعلى من الجانب الآخر.. ومن هنا تأتي أهمية القيم في الحضارة الإسلامية.

يقول الأستاذ محمد قطب: “إن استخلاص الطاقات الكونية- على ضرورته- ليس هو أهم ما يقوم به الإنسان على الأرض، ولو وصل به إلى القمر أو إلى المريخ. إنما (الأهم) من ذلك هو الغاية الكامنة وراءه، والأسلوب الذي يتم به والمنهج الذي يحكمه”.

ثم يشير إلى خطأ من يفهم أن المراد من كلمة (الأهم) هو (البديل)، أي أن يضع القيم المعنوية بديلاً عن القيم المادية؛ ويضيف: “لا يقول بهذا عاقل؛ فالقيم المعنوية وحدها لا تملأ المعدات الخاوية إن لم يكن هناك خبز؛ ولا تُسيِّر السيارت والقطارات والطائرات إن لم يكن هناك وقود؛ ولا تصنع المدفع والدبابة والصاروخ إن لم تكن هناك مصانع وآلات. تلك بديهية لا يحتاج الإنسان لذكرها؛ ولكن هناك بديهية مقابلة.. هي أن الخبز والوقود والمصانع والآلات والسيارات والقطارات والصواريخ والدبابات والمدافع وحدها، لا تصنع حضارة، ولا إنسانًا متحضرًا، ولا عمارةً حقيقةً للأرض؛ لأنها- وحدها- بدون القيم تؤدي إلى الخراب”.

ويؤكد قطب حقيقةً مهمة، هي أن: “إن الإنسان- بكل الإنتاج المادي الذي ينتجه- يمكن أن يهبط أسفل سافلين؛ إذا تخلى عن القيم التي تجعل الإنسان إنسانًا، وترفعه عن مستوى الحيوان”([12]).


 

([1]) “لسان العرب”، ابن منظور، مادة “قوم”، 5/ 3781، طبعة دار المعارف، تحقيق: عبد الله علي الكبير، محمد أحمد حسب الله، هاشم محمد الشاذلي، بدون تاريخ.

([2]) “معجم مقاييس اللغة”، ابن فارس، 5/ 43، تحقيق: عبد السلام هارون، 1979م، دار الفكر.

([3]) “المعجم الفلسفي”، مجمع اللغة العربية بالقاهرة ، ص: 151.

([4]) معجم التقويم والبحث في التربية، جلبير دي لانشير، المنشورات الجامعية، فرنسا، ط1، باللغة الفرنسية، مادة قيمة Valeur. نقلاً عن “القيم الإسلامية التربوية والمجتمع المعاصر”، عبد المجيد بن سعود، ص: 36، 37، سلسلة “كتاب الأمة”، العدد رقم 67، إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، ط1، 1419هـ، قطر.

([5]) “العطاء الحضاري للإسلام”، د. محمد عمارة، ص: 154، كتاب “اقرأ” رقم 626، سلسلة ثقافية شهرية تصدر عن “دار المعارف”، بدون تاريخ.

([6]) “العمدة في فلسفة القيم”، د. عادل العوا، ص: 34، 35، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، ط1، 1986م، دمشق.

([7]) “العطاء الحضاري للإسلام”، ص: 154، مصدر سابق.

([8]) “أزمة القيم ودور الأسرة في تطور المجتمع المعاصر”، د‏.‏ أحمد صدقي الدجاني، مقال بجريدة “الأهرام”، الثلاثاء ‏19 ربيع الآخر 1422هـ، 10 يوليو 2001م. بتصرف يسير. موجود على الرابط:

([9]) المعيار: نموذج أو مقياس مادي أو معنوي لما ينبغي أن يكون عليه الشيء. والعلوم المعيارية: هي التي تتجاوز دراستُها وصفَ ما هو كائن، إلى دراسةِ ما ينبغي أن يكون. انظر: “المعجم الفلسفي”، ص: 188، مصدر سابق.

([10]) Grunebaum: Modern Islam، نقلا عن “القيم الحضارية في رسالة الإسلام”، د. محمد فتحي عثمان، ص: 42- 44، بتصرف، الدار السعودية للنشر والتوزيع، ط2، 1985م، جدّة.

([11]) “القيم الحضارية في رسالة الإسلام”، د. عثمان، ص: 125، 126، مصدر سابق.

([12]) “مفاهيم ينبغي أن تصحَّح”، قطب، ص: 346، 347، دار الشروق، ط 8، 1994م.