سيظل للكلمة أثرها الفعال في تغيير أفكار الناس وأمزجتهم ومشاعرهم وواقعهم ، وذلك إذا استوفت شروطاً معينة . وليس أدل على رفعة مكانة الكلمة في حياة البشر من أن الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام -كانوا يجيدون استخدامها في التعبير عن الحقائق الراسخة والربط بينها وبين واقع البشر ورصيد الفطرة المتبقي لديهم .
فهذا نوح -عليه السلام – يجادل قومه باستفاضة ، حتى ضج قومه من ذلك حين قالوا : { قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا } [ هود : 32] ، وهذا إبراهيم – عليه السلام- يكرمه الله تعالى ، فيهبه من قوة الحجة ما يفحم قومه : ] وتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [ [ الأنعام : 83] . وهذا موسى -عليه السلام- يقول : { واحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي } [طه : 27 ، 28].
ثم يطلب من الله تعالى أن يتفضل عليه بإشراك هارون معه في التبليغ لفصاحة لسانه حين يقول : { وأَخِي هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ } [ القصص : 34 ] . والله تعالى يقوم لخاتم أنبيائه : { وقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً } [ النساء : 63 ] . وكل هذا قبس مما نسبه الباري -جل وعلا- لنفسه حين قال : ] قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [ [ الأنعام : 149] وحجج النبيين ومضامين خطابهم للخلق -في الأصول – واحدة أو تكاد ، مما يجعل جذور الكلمة الطيبة ضاربة في أعماق الزمن من لدن نوح -عليه السلام- إلى خاتمهم محمد -ﷺ- ، وهذا يجعل حركة التاريخ كلها في سياقٍ عامٍ واحدٍ ، هو : التأكيد على أهمية الكلمة الطيبة في إنقاذ البشرية من الضلالة .
ونحن في كثير من الأحيان نستخف بقيمة الكلمة ، ومع أهمية العمل إلا أن لكل منهما مجاله الذي لا يصلح فيه غيره ، وفى تاريخنا الإسلامي أمثلة كثيرة جداً غيَّرت فيها الكلمة مسار شخص أو مدينة ، بل قارة ، فمما يذكرون في هذا الصدد أن وفداً من بعض بلاد أفريقية وفد حاجاً ، فالتقى بالإمام مالك بن أنس صاحب المذهب ؛ فأثنى مالك على والي ذلك البلد خيراً ، وتمنى لو رزقت المدينة مثله في عدله وصلاحه . فبلغ ذلك والي ذلك البلد الإفريقي ، فأمر بتدريس كتب مالك في بلده ، وأدى ذلك إلى انتشار المذهب المالكي في أرجاء أفريقية ! . وما أظن أن ما حدث كان يخطر للإمام على بال .
وقد تغني الكلمة الواحدة غناء جيش أو جيوش ، كما حدث في غزوة الأحزاب حين أسلم نعيم بن مسعود ، واستخدم عدم علم المشركين بذلك في تبديد الثقة بين قريش واليهود على ما هو مشهور . وقد أدركت الشركات والمؤسسات التجارية قيمة الكلمة في التأثير على المشتري ودفعه إلى شراء ما لا يحتاج له ، قال أحدهم :
لو كان لي عشرة دولارات لتاجرت بواحدٍ وصنعتُ دعاية بالتسعة الباقية .
وإذا أردت أن تشل فاعلية شخص ما ، فيكفى أن تقنعه : أن عمله غير ذي فائدة .
والآية التي نحن بصددها زاخرة بالمعاني والصور التي تجعل الكلمة في أرقى حال جمالاً وكمالاً ونفعاً . ولنقرأ الآية وما تلاها لنقتبس شيئاً من نورها ، قال الله -جل وعلا- : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإذْنِ رَبِّهَا ويَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [إبراهيم : 24-25] ، لقد شبه الباري -عز اسمه – الكلمة الطيبة بشجرة طيبة ، وهذه الشجرة الطيبة تتصف بثلاث صفات أساسية : ثبات أصلها وعمق جذورها ، ثم ذهاب فروعها وأفنانها في السماء ، ثم نفعها الدائم للخلق باستمرار أكلها وثمارها . ولنفصل القول في تنزيل هذه الصفات على الكلمة الطيبة .
1- ثبات الأصول : حين نعرف أن أصول دعوات الأنبياء -عليهم السلام- واحدة ، تركزت في الدعوة إلى التوحيد الخالص وعبادة الله تعالى وإقامة الحق والعدل في الأرض وإعمارها بما يسمح بإقامة مجتمع التوحيد ؛ ندرك أي جذور ضاربة تمتلكها الكلمة الطيبة على اتساع أمداء الزمان والمكان ، وندرك أي رصيد من المنطق العام الذي بناه الأنبياء تستند إليه ، وأي رصيد ضخم من الفطرة يؤازرها في عملية البلاغ المبين .
وقد أخرج البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال : قال رسول الله – ﷺ- : » أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة ، والأنبياء إخوة لعلات ، أمهاتهم شتى ودينهم واحد « . قال ابن حجر : ومعنى الحديث أن أصل دينهم واحد ، وهو التوحيد وإن اختلفت فروع الشرائع -[ فتح الباري 489/6]
فالكلمة الطيبة إرث موروث متصل بالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- . ولكن المشكلة أن التفريق بين الأصول والفروع قد لا يتهيأ لكل الناس مما يجعل الخلط بينهما وارداً ، وحينئذ فقد يجمد ما ينبغي أن يتطور ، وقد يتطور ما ينبغي أن يثبت .
واليوم نتيجة لعلميات الضغط الفكري التي تمارسها التيارات المادية ، نجد أن كثيراً من الكتاب والمفكرين الذين لهم صبغة إسلامية بدأوا يتزحزحون عن كثير من مواقعهم ، مصطحبين معهم أفكاراً أو أحكاماً عليها الإجماع ، أو السواد الأعظم من
علماء المسلمين ، بل بعض الأصول التي ليست موضع نزاع .
ويحضرني هنا ما كتبه أحد الذين لهم نفس إسلامي عن لقائه مع القسس الذين يعيشون في بعض بلدان العالم الإسلامي ، حيث أثنوا على كتاباته ، وسألوه عن الوضع الذي ينبغي أن يكونوا عليه وهم يعيشون بين المسلمين ؟ وقد أجابهم بقوله :
أول ما نطلبه من النصراني الذي يعيش بيننا أن يتمسك بنصرانيته… ! ! وهذا المطلب عجيب غريب ، وهو غني عن كل تعليق . فهل يصح لهذا و أضرابه أن يدعي أنه يكمل مهمة نبيه – ﷺ – في تبليغ الرسالة وهداية الخلق ؟ ! .
وقريب من هذا الفتاوى التي صفق لها كثيراً الذين في قلوبهم مرض ، من أمثال : إباحة الربا الذي تتعامل به البنوك اليوم ، ومن مثل : القول بعدم وجود حد للردة في الشريعة… . الخ . وإذا استمر هذا النهج على ما هو عليه اليوم فسنجد أنفسنا أمام دين يقبل كل إضافة كما يقبل أي حذف ، ويصبح قابلاً للتشكيل على ما يشتهي أهل الأهواء والشهوات ، لأنه صار شيئاً ليس بذي طعم ولا لون ولا رائحة… ولكن ذلك لن يكون -بإذن الله- ما نشط أهل الحق في توضيحه والذود عن حياضه .
2- مرونة الأساليب وتنوعها: على مقدار ما تكون جذور الكلمة الطيبة وأصولها راسخة ثابتة تكون أساليبها مرنة نامية منوعة ، وهذا في حد ذاته أحد مقتضيات ثبات الأصول ؛ فأحوال البشر وأفهامهم مختلفة ، ولذلك تعدد الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وتنوعت شرائعهم ، وصدق الله العظيم إذ يقول : { ومَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ ).