عصر الصحابة الكرام أول عصر انطلق منه رواية الحديث الشريف وحفظ السنة النبوية، وتحدثت مصادر صحاح الأخبار ما يدهش العقول ويبهر الألباب من شدة عناية الصحابة رضوان الله عليهم بالسنة النبوية وكثرة انشغالهم بها، وخاصة قد سعدت تلك الحقبة بالخلفاء الراشدين الأمناء على السنة النبوية، حيث قاموا برعايتها حق الرعاية، ولم يألوا جهدا في توثيقها وحمايتها حتى خلّف عهدهم ثروة نفيسة من الأقوال المأثورة، والمواقف العملية المسطورة التي تنبثق عنها القواعد والأصول التي بها تصان سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي المعادن التي اتخذها المحدثون فيما بعد لصيانة الحديث النبوي، ومن تلك الأصول:

1 – التحري في الرواية

يتجلى منهج التحرى في الرواية بأجلى مظاهره منذ عصر الخلفاء الراشدين، حيث كان دأبهم عدم قبول الحديث من كل محدث ومخبر، بل لهم نهج التثبت والتحري والحيطة في قبول الحديث، وقد كان الخلفاء الراشدون هم الأسوة والقدوة العملية في هذا النهج.

قال الإمام الذهبى:” فرأس الصادقين في الأمة الصديق وإليه المنتهى في التحري في القول وفي القبول.” [1]  وقال أيضا:” كان أبو بكر رضي الله عنه أول من احتاط في قبول الأخبار”[2]  وروي في ذلك قصة الجدة التي تسأله عن ميراثها فقالها أبو بكر:” ما أجد لك في كتاب الله شيئا، وما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لك شيئا ثم سأل الناس فقام المغيرة بن شعبة فقال: “حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيها السدس فقال: هل معك أحد، فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك فأنفذه لها أبو بكر رضي الله عنه”[3].

وعلى هذا المنهج كان سائر الخلفاء والصحابة، بل كانوا أكثر توسعا في التحرى والتيقن، وأخبارهم في ذلك مشهورة تروى، ويذكر عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان أنه كان يقول على المنبر:” لا يحل لأحد يروى حديثاً لم يسمع به فى عهد أبى بكر ولا فى عهد عمر”[4] وهذا يؤكد على متانة منهج توثيق الحديث السائد في عهد أبى بكر وعمر، فقيام أمير المؤمنين عثمان بإلقاء هذه الكلمة علنا على المنبر يدل على أهمية الأمر والانتباه له، وبمثابة أمر رسمي وقانون ملزم للجميع من الدولة، وليس ذلك منهم تهمة في عدالة النقلة -فهم الصفوة المختارة تلاميذ النبي صلى الله عليه وسلم- وإنما لدرء الخطأ عن الحديث النبوي والصون له من أي دخيل وخاصة ممن ليس له شرف الصحبة.

2- الحض على تكثير المتابعات والشواهد لتقوية الخبر

في بعض الأحيان لا يقبل الخلفاء الخبر إلا بشاهد معضد أو بيمين لمزيد الاطمئنان. كما مر في قول أبى بكر الصديق للمغيرة بن شعبة “هل معك أحد”؟ ثم تعضد خبره بشهادة محمد بين مسلمة. ومثله في قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لأبى موسى عندما حدثه بحديث الاستئذان” لتأتيني على هذا ببينة” وفي لفظ:” لأوجعن ظهرك وبطنك أو لتأتيني بمن يشهد لك على هذا”[5] ثم تقوى خبره بعد ذلك بشهادة أبي سعيد الخدري.

وقد علق الإمام الذهبي على الحادثة فقال:” ففي هذا دليل على أن الخبر إذا رواه ثقتان كان أقوى وأرجح مما انفرد به واحد، وفي ذلك حض على تكثير طرق الحديث؛ لكي يرتقي عن درجة الظن إلى درجة العلم؛ إذ الواحد يجوز عليه النسيان والوهم ولا يكاد يجوز ذلك على ثقتين لم يخالفهما أحد.[6]

 ويقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب:” كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه وكان إذا حدثني عنه غيره استحلفته فإذا حلف صدقته”.[7]

وليس وجود المتابعة أو الاستحلاف شرطا في صحة كل حديث عند الخلفاء وغيرهم من الصحابة؛ وإنما مرادهم مزيد التثبت والتأكد من صحة الرواية والاطمئنان على عدم حصول الوهم والخطأ. ولذا لما قال أبيّ بن كعب معاتبا لعمر بسبب تشدده على أبي موسى:” يا ابن الخطاب فلا تكونن عذابا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقال عمر: سبحان الله! إنما سمعت شيئا فأحببت أن أتثبت.[8]  

وقد اعتذر عمر لأبي موسى رضي الله عنهما مبينا سبب تعنته عليه فقال:” أما إنّي لم أتهمك ولكني أردت أن لا يتجرأ الناس على الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.[9]

إذن، فشدة التحري في الرواية هي داعية الأساس إلى تكثير المتابعات في ذلك الوقت ليس إلا.

3- تدوين الحديث

أمر تدوين الحديث كان أمرا مباحا ومأذونا فيه من لدن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، وثمة عدة صحف حديثية كتبت في زمن النبوة والتى هي الأسس للتدوين فيما بعد. مثل “الصحيفة الصادقة” لعبد الله بن عمرو وكتابات علي بن أبى طالب وعمرو بن حزم وغيرهم.

وكتب أبو بكر الصديق كتابا لأنس بن مالك لما وجهه إلى البحرين، وفيه بعض الفرائض التي فرضها رسول الله على المسلمين.[10]

وكتب عمر بن الخطاب إلى المسلمين بأذربيجان يخبرهم في ذلك الكتاب أن النبي نهى عن لبس الحرير[11]…الخ

وأرسل علي بن أبى طالب ابنه محمد بالكتاب إلى عثمان بن عفان وقال له: خذ هذا الكتاب، فاذهب به إلى عثمان فإن فيه أمر النبي بالصدقة.[12] وغير ذلك من الرسائل المتبادلة بين الصحابة رضي الله عنهم.   

ومكاتبة الخلفاء الناس أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وسنته ومراسلتها فيما بينهم من أسباب انتشار الأحاديث في ذلك الوقت بلا شك، وكما أن في ذلك دلالة واضحة على جواز تدوين السنة بلا تررد.

4 – الجرح والتعديل

الجرح والتعديل من الأصول الثابثة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل بدأت بواكيرهما في القرآن الكريم حيث جاء تعديل الله لأناس، فيقول سبحانه:” أولئك هم الصادقون…فاولئك هم المفلحون…أولئك المقربون…الخ” وجاء تجريح لأناس آخرين كقوله عز وجل:”فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الكَاذِبُونَ…وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُون…الخ ثم أرسى الله عز وجل منهج التثبت في نفوس المؤمنين وندب إلى الأخذ به عند قبول الأخبار فقال عز من قائل:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [ الحجرات: 6]. وفي قراءة: (فتثبتوا) فدل بما ذكرنا من هذه الآيات أن القرآن الكريم أصل أصيل في منهج الجرح والتعديل.

وكما تكلم صلى الله عليه وسلم في بعض الرجال فقال: “بئس أخو العشيرة”[13]

وقال في التوثيق والتعديل كما في قوله عن عبد الله بن عمر أنه :” رجل صالح [14]” وعن أبىعبيدة ابن الجراح أنه:”أمين هذه الأمة “[15] وعن علي بن أبى طالب أنه:” يحب الله ورسوله”[16]

قال الحافظ العراقي: ” تكاد كل مصادر علم الحديث تجمع على أن الكلام في الجرح والتعديل متقدم ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم من كثير من الصحابة والتابعين فمن بعدهم [17]

وكان هذا المنهج مؤصل عند الصحابة إلا أنه انتقل إلى طور جديد واشتد تأكيد الإشادة به والعناية بالأخذ به بعد فتنة مقتل عثمان، وإلى هذا يشير علي في قوله بصفين:” قاتلهم الله أي عصابة بيضاء سودوا، وأي حديث من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفسدوا.[18] وهذا هو البيان للواقع الجديد وقتئذ وأنه أصبح في صفوف المسلمين أناسا مفسدي الحديث النبوي وأنه لا بد من كشف عوارهموعثراتهم وتآمرهم على السنة النبوية.

وقوله:” قاتلهم الله” قال القاضي: معناه لعنهم الله…وهؤلاء استوجبوا عنده ذلك لشناعة ما أتوه…وإلا فلعنة المسلم غير جائزة”[19]

وروى الإمام مسلم فى مقدمة صحيحه عن ابن أبى مليكة قال : كتبت إلى ابن عباس أن يكتب لى ويخفى عنى .فقال: ولد ناصح أنا اختار له الأمور اختياراً وأخفى عنه: فدعا بقضاء علي فجعل يكتب منه أشياء . ويمر به الشئ فيقول : والله ما قضى بهذا علىّ إلا أن يكون ضل[20].

وقوله:” والله ما قضى بهذا علىّ إلا أن يكون ضل ” أي نسي وأخطا أو يكون على طريق الإنكار أي لم يفعله إنما يفعله من ضل وليس منهم.

وبهذا يتبين بجلاء أن الكلام في الرجال اشتدت الداعية إليه بعد مقتل عثمان عندما لاحت بوادر استفحال فتنة الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام. 

5 – نقد متون الروايات

حقيقة النقد بين مجتمع الصحابة يومئذ كانت منصبة على المتون فحسب، يقول أنس:” والله ما كنا نكذب ولا كنا ندري ما الكذب”.[21] وقال البراء :”وكان الناس لم يكونوا يكذبون يومئذ، فيحدث الشاهد الغائب”.[22]

وقد نشأ نقد المتن وضبطه منذ عهد الخلفاء الراشدين، حيث كانوا رضوان الله عليهم يتعقب بعضهم بعضا عند ملاحظة أي خلل في المتن، أو عند الارتياب في ضبط الراوي إذ لا عصمة لأحد، وممن تميز بالنقد منهم: عمر وعلي وعائشة وابن عمر وابن عباس وغيرهم، وقد أنكر عمر على فاطمة بنت قيس قولها:” أن رسول الله لم يجعل لها سكنى ولا نفقة” فتعقبها عمر رضي الله عنه قائلا:” لا نترك كتاب الله وسنة نبينا، لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسبت”.[23]

وكذا ردت عائشة على ابن عمر – وأبيه أيضا- حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم:” إن الميت يعذَّب في قبره ببكاء أهله” فقالت: وَهَلَ؛ إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنه ليعذب بخطيئته أو بذنبه وإن أهله ليبكون عليه الآن ” وذاك مثل قوله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على القليب يوم بدر وفيه قتلى بدر من المشركين فقال لهم ما قال ” إنهم ليسمعون ما أقول ” وقد وهل إنما قال ” إنهم ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق ” ثم قرأت {إنك لا تسمع الموتى} [النمل: 80] {وما أنت بمسمع من في القبور}[فاطر: 22].[24]

فإن إنكار عائشة لبعض الأخبار على الصحابة كثير ومكتوب في كتاب(الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة) للزركشي، وطريقة الصحابة في غربلة الأخبار عند الارتياب هي عرضها على القرآن، أو على نصوص السنة النبوية المشهورة أو على الأصول الشرعية والعقلية، ولكن الهدف من ذلك كله هو حفظ جناب السنة النبوية من الوهم والغلط الذى لا يخلو منه البشر كي تبق سنته عليه الصلاة والسة غضا طريا بلا نقص ولا زيادة ولا تحريف ولا تبديل.

وهذه هي بعض الأسس في علم نقد الرواية التي أسست لما عرف فيما بعد بمنهج المحدثين النقدي، ولا ريب أن لنظام الخلافة الراشدة دورا فعالا في إيجادها وإرسائها وإدارتها وتسييرها وتشهيرها.


[1]– تذكرة الحفاظ. 1/10

[2]– تذكرة الحفاظ. 1/9.

[3]– المصدر السابق.

[4] طبقات ابن سعد. 2/336

[5] – روى مسلم جمبع هذه الروايات في كتاب الآداب – باب الاستئذان. 6/179

[6] – تذكرة الحفاظ 1/11

[7] – رواه أحمد في المسند وصححه محققوه. 1/219.

[8]– المصدر السابق.

[9]– المصدر السابق.

[10] – صحيح البخاري (1454)

[11] – صحيح البخارى (5829).

[12] – رواه البخاري (3112).

[13] – رواه البخاري (6032)

[14] – رواه البخاري (7016).

[15] – رواه البخاري (4380)

[16] – رواه البخاري (2976).

[17] – التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح، ص:440

[18] – تذكرة الحفاظ 1/15

[19] – المنهاج شرح صحيح مسلم 1/83

[20] –  مقدمة صحيح مسلم 1/13

[21] – الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي الجرجاني. 1/159

[22] – الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع. 1/117

[23] – رواه مسلم في كتاب الطلاق – باب المطلقة ثلاثا لا نفقة لها. 4/198

[24] – رواه مسلم (932)