دخول الأطفال إلى المساجد مما يثار دائما، ويكثر اللقط حوله، وتختلف فيه الأقوال، وتتابين فيه الآراء. فمن الناس من يطلب تأخيرهم عن الصفوف الأُول، ومن الناس من يتقي محاذاتهم؛ خشية تلبسهم بنجاسة، وهكذا.  ولذا آثرنا أن يكون عنوان هذا المقال وموضوعه: (أطفال في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم)، وتعلمون أنه لا عطر بعد عروس، وأنه: “إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل.

عن شداد بن أوس رضي الله عنه قَالَ: “خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشاء، وهو حامل حسنا أو حسينا، فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه، ثم كبر للصلاة، فصلى، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها، قال أبي: فرفعت رأسي، وإذا الصبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، فرجعت إلى سجودي، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة، قال الناس: يا رسول الله، ‌إنك ‌سجدت ‌بين ‌ظهراني ‌صلاتك سجدة أطلتها، حتى ظننا أنه قد حدث أمر، أو أنه يوحى إليك قال: كل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني، فكرهت أن أعجله، حتى يقضي حاجته”([1]).

ومثل هذا الحديث حديث أبى هريرة رضي الله عنه قال: “كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء، فإذا ‌سجد ‌وثب ‌الحسن ‌والحسين على ظهره، فإذا رفع رأسه، أخذهما بيده من خلفه أخذا رفيقا، فيضعهما على الأرض، فإذا عاد عادا، حتى قضى صلاته، أقعدهما على فخذيه…”([2])

هذه القصة كانت في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت معه هو بذاته ففي الحديث الأول أنه أتى إلى صلاة العشاء -وهو يحمل هذا الصبي- والظاهر أنه ما يزال صغيرا يلعب؛ إذ ركب على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم في سجوده، ولم ينزله، بل أطال السجود له وهو يؤم الناس، فرأوا حاله وسمعوا مقاله:” فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته“.

وفي القصة الثانية – وهي بمسجده صلى الله عليه وسلم أيضا، وحصلت معه هو بذاته- كان الحسن والحسين يثبان على ظهره حين يسجد فلما أراد الصحابة منعهما، أشار عليهم بأن يتركوهما، ففي صحيح ابن خزيمة من حديث عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قَالَ:

“كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، ‌فإذا ‌سجد ‌وثب ‌الحسن ‌والحسين على ظهره، فإذا أرادوا أن يمنعوهما أشار إليهم: أن دعوهما فلما قضى الصلاة وضعهما في حجره…”([3])

وأيضا روى عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: “خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل الحسن، والحسين رضي الله عنهما، عليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان، فنزل فأخذهما، فصعد بهما المنبر، ثم قال: ” صدق الله: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} [التغابن: 15]، ‌رأيت ‌هذين ‌فلم ‌أصبر”. ثُمَّ أَخَذَ فِي خُطْبَتِهِ”.([4])

هذه الأحداث جميعا وقعت في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وحصلت معه هو -بأبي وأمي- على مرأى ومسمع من صحابته الكرام.

ولا يقتصر هذا على الأولاد الذكور دون البنات؛ لأن البعض يتحرج من إدخال البنت الصغيرة معه إلى المسجد، ففي الصحيحين من حديث أبي  قتادة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‌كان «‌يصلي ‌وهو ‌حامل أمامة بنت زينب» بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأبي العاص بن ربيعة بن عبد شمس، «فإذا سجد، وضعها. وإذا قام حملها».([5])

وقد جاء في بعض روايات هذا الحديث: ” بينا نحن ننتظر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الظهر أو العصر حتى خرج علينا حاملاً أمامة على عنقه…”. أي أن هذا كان في الفريضة لا النافلة.

يَضرِبُ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أروعَ الأمثلةِ في تواضُعِه ورحمتِه بالصِّغار في هذه القصص، ويعطي أمته درسا في كون المسجد ليس محرما على الصبيان، بل هو الحاضنة الإيمانية التربوية التي ينبغي أن ينشؤوا فيها وأن يعودوا عليها، حتى يكون ذلك مكونًا من مكونات شخصيتهم بعد ذلك.

وفي الحديث جواز حمل الأطفال أثناء الصلاة، وهذا لا ينافي أمرهم بالسكينة والأدب -وهم في المسجد- برفق. وأما ردود الأفعال العنيفة التي قد يلقاها الطفل من بعض المصلين، فربما تُوَلِّد عنده صدمةً أو خوفًا ورعبًا من هذا المكان، والأصل أن يتربَّى الطفل على حبِّ هذا المكان، وأن يتعلق قلبه ببيت الله –تعالى.

وأما الأثر الذي أخرجه النسائي في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ، وَمَجَانِينَكُمْ».([6]) فهو ضعيف عند أهل الحديث.

قال البزار: لا أصل له، وكذلك قال عبد الحق الإشبيلـي، وممن ضعفه الحافظ ابن حجر وابن الجوزي والمنذري والهيثمي والألباني،([7]) فلا يقوى على معارضة الأحاديث الصحيحة السابقة التي اقتضت إدخال النبي صلى الله عليه وسلم للصبيان إلى المسجد، وهنالك أحاديث تقتضي إقرار ذلك منه لغيره حتى لا يقول قائل هذا خاص بالحسن والحسين ريحانتي النبي صلى الله عليه وسلم أو حفيدته التي ماتت أمها عنها وهي صغيره فكانت تتعلق به صلوات الله وسلامه عليه فيشفق عليها. 

 ففي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: «‌إني ‌لأدخل ‌في ‌الصلاة، وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي، مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه».([8])

 فهو هنا كان يخفف الصلاة ولم يزجر الناس ولم يأمرهم ألا يحضروا أطفالهم معهم إلى المسجد.

وأخرج أحمد في المسند بإسناد صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جوَّز ذات يوم في صلاة الفجر، فقيل: يا رسول الله، لم جوزت؟ قال: ” ‌سمعت ‌بكاء ‌صبي، فظننت أن أمه معنا تصلي، فأردت أن أُفرغ له أمه”.([9])

هذا الصبي الذي بكى في الصلاة، وسمع النبي صلى الله عليه وسلم بكاءه قد يشوش على المصلين ببكائه، ويقطع خشوعهم، فلم ينه النبي صلى الله عليه وسلم عن إحضار الصبيان للمسجد، بل خفف الصلاة لتفرغ الأم لولدها بأبي هو وأمي، فما أحوجنا إلى هذا الهدي العظيم، وتتبع هذا المنهج القويم، حين نتعامل مع الأطفال إذا دخلوا إلى المساجد مع آبائهم وأمهاتهم أو دونهم.

إن التجهم في وجوه الأطفال من بعض المصلين، بل والأئمة والمؤذنين، وزجرهم، مما قد يبغض إليهم بيوت الله، وهو خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.

 والأولى أن نحبب إليهم بيوت الله بالتبسم في وجوههم، وإرشادهم إلى ما ينبغي من الأدب والانضباط بلطف ولين، ليزدادوا حبا لبيوت الله وتعلقا بها ورغبة في الصلاة، فالمسجد محضن تربوي عظيم الأثر.


[1] – رواه النسائي حديث رقم: 1141. وصححه الألباني.

[2] – رواه أحمد  حديث رقم: 10659، وحسنه الألباني.

[3] – صحيح ابن خزيمة حديث رقم: 887.

[4] – سنن أبي داود حديث رقم: 1109، وصححه الأباني.

[5] – صحيح البخاري حديث رقم: 516، وصحيح مسلم حديث رقم: 543.

[6] – سنن ابن ماجه حديث رقم: 750.

[7] – الثمر المستطاب للألباني :2/585.

[8] – البخاري حديث رقم: 709، ومسلم حديث رقم: 470.

[9] – مسند أحمد حديث رقم: 13701.