أوضحت الدكتورة أمل شمس، أستاذة علم الاجتماع بكلية التربية جامعة عين شمس، أن الإلحاد في العالم العربي ليس “ظاهرة” بالمعنى العلمي، وإنما هو “مشكلة”، ويرتبط وجوده بالإلحاد في العالم بوجه عام. وقالت أن التسارع الاجتماعي والتكنولوجي له تأثير على إلحاد الشباب.

خلال محاضرتها “التسارع الاجتماعي والتكنولوجي وإلحاد الشباب .. التحديات وأساليب المواجهة”، بصالون عبد الحميد إبراهيم الزمبيلي، بالقاهرة، حذرت الدكتورة أمل شمس من أن الإلحاد له تأثير خطير على المجتمع ككل؛ لأن الملحد ينطلق من مفاهيم وقيم النفعية والفردانية والمادية وانعدام الثوابت، موضحةً أن مواجهة الإلحاد ينبغي أن تكون على كل المحاور تربويًّا وفكريًّا واقتصادًّيا واجتماعيًّا.

وأشارت الأكاديمية المصرية إلى أنها حرصت على التحاور مع نماذج من الشباب الملحد، للتعرف عن قرب على كيفية تفكيرهم، والأسباب التي يرون أنها دفعتهم للإلحاد.. مشيرةً إلى أن بعضهم يتخذ من مظاهر الظلم في الحياة، سببًا لإنكار وجود الله تعال؛ إذ لو كان الله موجودًا لما وقع لظلم ولدافَعَ عن المظلومين، حسب فهمهم القاصر.

وذكرت الدكتورة أمل شمس أن الإلحاد في العالم الغربي كان يعني إنكار وجود الله تعالى، كما أعلن “نيتشه” عن موت الإله؛ بينما في العالم العربي كان الإلحاد يعني الجرأة على الرسول صلى الله عليه وسلم، تأثرًا بالمستشرقين، ولم يصل إلى إنكار الله، كما ذكر الدكتور عبد الرحمن بدوي.. لكن الإلحاد في العصر الحديث تطور إلى إنكار الإله، كما في الغرب.

وبيَّنت أن الإلحاد تنتج عنه مشكلات اجتماعية كبيرة، متسائلةً: كيف نتعامل مع الملحد إذا كانت مرجعيته الأخلاقية مهتزة بسبب إنكار الله؟ وإذا كان الملحد لا يعترف بالثوابت، حتى في المجال الأخلاقي والقيمي والاجتماعي؟

وأوضحت أستاذة علم الاجتماع في محاضرتها “التسارع الاجتماعي والتكنولوجي وإلحاد الشباب” أنه في مرحلة ما بعد الحداثة، ومع المدرسة النقدية، رأينا عقلية السيطرة والمركزية الغربية، تُطوِّر الثقافة وتخضعها لقيم السوق؛ مما أحدث خللاً وإفرازات منحرفة في بنيوية المجتمع. ونتيجةً لانضغاط الزمن، أصبحنا نمر بمشكلات الحداثة وما بعد الحداثة، دون أن نأخذ إيجابيات ذلك. وأصبحنا أمام اللايقين واللاثبات، سواء في الجانب الاقتصادي أو الاجتماعي، إلا ثبات مصالح الشركات الكبرى متعددة الجنسيات.

التسارع و”الزمن القلق”

وأشارت الدكتورة أمل شمس إلى ما ذكره “هارتمت روزا”، وهو عالم اجتماع ألماني، يمثل الجيل الرابع لمدرسة فرنكفورت أو النظرية النقدية؛ حيث تحدث عن “التسارع” (Accélération) والنمط العولمي المبتلع للمجتمعات الحديثة الرأسمالية؛ فقال: “إن الوقت على مدار الساعة لا يتغير، ولا تتغير سرعته، لكن الشعور بأن الوقت يمر بسرعة، ظاهرة نفسية، ترجع إلى أسباب اجتماعية. والأنماط الزمنية كما يعيشها الأفراد معلَّقة بمنحى زمني، وترتبط بتوجهاتنا وأفعالنا التي تظهر متناسقة ومتوافقة بضرورات نظامية للمجتمعات الرأسمالية الحديثة.

وبالتالي، فإن هذه الوضعية الزمنية تحكمها معايير وقيود وكوابح صارمة، تفتقد بحسب “هارتمت”، إلى المعاني الأخلاقية. فالانشغالات والاهتمامات التي يعرضها العالم الحديث، محدّدة من قبل بقواعد محكومة ومسيطر عليها وموجّهة، وغير مرئية وملتبسة. وتفتقد إلى الوضوح الأخلاقي الذي يضفي عليها معنى يتعلق بالإنسان وكيفية ممارسته لعيشه، منظومة الوقت الحاكمة والمتحكّمة.

وبيّنت الدكتورة أمل شمس أن هذا “التسارع” ينتج عنه قلق الشخصية المعاصرة وعدم الرضا، مما سماه “هارتمت”: “الزمن القلق”؛ والذي تتجلى انعكاساته على كل مظاهر الحياة، وأهمها:

– التسارع التقني.

– تسارع التغير الاجتماعي

– تسارع إيقاع الحياة.

وأوضحت أن هذا “التسارع” أدى إلى تغيرات بنيوية في مؤسسات المجتمع ومؤسسات العمل، وعلى رأس ذلك: مؤسسة الأسرة؛ التي كانت من قبل في وضع شبه مستقر، ثم أصبح الأب والأم منشغلين في الحياة ومظاهرها، الحقيقية والزائفة معًا.

وذكرت أستاذة علم الاجتماع أن الأسرة انضغطت وظائفها، بوعي أو بغير وعي، ولم تستطع أن تؤدي دورها مع الأبناء، الذين أصبحت لديهم مشكلات وأسئلة دينية تتطلب حوارًا وإجابات مقنعة. فالشباب يحتاج للمساعدة ولكن ليس في إطار الوصاية، وإنما هو إعلام له بما يجهل، خاصة بعد أن فقد الشباب “التراكمية المعرفية” التي كانت تؤهله لمواجهة التحديات الفكرية.

وأضافت: سياقات العمل أصبحت أيضًا محلاً لـ”التسارع”.. وأصبح العمل “سلعة” تباع كأي سلعة، وأصبح فيه “تسارع” و”تصارع”. مما ترك تأثيرًا سلبيًّا على واقع الحياة ككل.

عن أسباب الإلحاد

وفيما يتصل بأهم أسباب الإلحاد، أشارت الدكتورة أمل شمس إلى “الإلحاد الغربي”، والذي نتج عن السلطة القوية للكنيسة؛ فحدث إنكار لسلطة الدين والغيبيات، بعدما حدث الصراع مع هذه السلطة القوية.

وأضافت: كما كان لظهور “المادية الجدلية” دور كبير، حيث ترى أن الدين أفيون الشعوب. خاصة أن الثورة الصناعية ارتبطت بحقوق العمال، وما وقع عليهم من ظلم، وجاء التساؤل: كيف يرضى الغرب المسيحي بهذا الظلم؟ فظهر الإلحاد في الفكر المادي كما لو كان يدافع عن الإنسان. واكتسب المعسكر الشيوعي شرعية من ذلك.

وأما عن أهم أسباب الإلحاد في الواقع العربي، فذكرت الدكتورة أمل شمس أن “الانهزام الحضاري” جعل البعض يتساءل: لماذا تَخلفنا إذا كان معنا الدين ونؤمن بوجود الله؟! مما أدى إلى زعزعة الهوية. كما أن “السوشيال ميديا” لها دور؛ حيث عملت على التشبيك والتواصل بين الملحدين، وأبرزتهم كنماذج لها رؤية، ولها قدرة على الدفاع عنها.

أساليب المواجهة

ثم تطرقت الدكتورة أمل شمس في محاضرتها “التسارع الاجتماعي والتكنولوجي وإلحاد الشباب” إلى أهم أساليب مواجهة الإلحاد، مبينةً أهمية “الأسرة” وتوعيتها، في ذلك؛ لأن الأسرة هي الحامي الأول للطفل، وأننا بحاجة إلى تربية لا متزمتة ولا متساهلة، وإنما تربية تقوم على القيم الإيمانية وتعلم النشء كيفية التعامل مع الحياة.

وأضافت: “علماء الدين” أيضًا لهم دور مهم، خاصة أن الدين في مفهوم الإسلام لا يعني عدم النقاش، وإنما يحث على التساؤل والحوار.. ومن المهم الاستعانة بحقائق العلم والكون، واتساع الخلفية المعرفية، للإجابة على تساؤلات الشباب، مع الإلمام بالفلسفة وتاريخها، وطرق المحاججة، وفنون الإقناع.

وتابعت: “الإعلام” هو الآخر له دور مهم؛ من خلال الترويج للنماذج الأخلاقية والنماذج الناجحة، حتى نسهم في تشكل “نموذج” للشباب؛ لأن الملحد ينطلق من النفعية والمادية وانعدام الثوابت.

وخلصت الدكتورة أمل شمس إلى أن علاج الإلحاد ومواجهته يفوق قدرات الجهود الفردية، ويحتاج لتضافر الجهود، وإلى تكاتف مؤسسات الدولة باختلاف محاور عملها.

الحوار المباشر

وفي تعقيبها على محاضرة الدكتورة أمل شمس حول “التسارع الاجتماعي والتكنولوجي وإلحاد الشباب .. التحديات وأساليب المواجهة”، أشادت الدكتورة فاطمة إسماعيل، أستاذة فلسفة العلم بجامعة عين شمس، بمنهجية المحاضرة، والتي تمثلت أهم معالمها في رصد أحاديث الشباب، فمن المهم أن يكون الحوار مباشرًا مع الشباب الملحد وجهًا لوجه.

وذكرت الدكتورة فاطمة إسماعيل أن الإلحاد في الغرب بدأ بصفة كبيرة مع موجة الوضعية المنطقية، والتحليل المنطقي للغة، والذي رأى أن “عبارات الميتافيزيقا”  ليست قضايا وإنما هي لا معنى لها.. مضيفةً: العلم الغربي كلما استطاع أن يمتلك المعرفة، خاصة مع الانفجار المعلوماتي، فإنه يتصور أنه امتلك حقيقة المادة، وحقيقة العقل، وحقيقة الحياة. وِمن قبل، ذكر فرانسيس بيكون أن هدف العلم هو السيطرة على الطبيعة.

وأشارت إلى أن التطور العلمي جعل “الآلة” تحل محل الإنسان، وأصبح الحديث عن قدرات الآلة وأخلاقيات الآلة، حتى جعلوا من الآلة مستشارًا للإنسان، وأصبحت الآلة من خلال الذكاء الاصطناعي تتفوق على قدرات الإنسان. وذكر ” ميتشيو كاكو”، الحائز على جائزة نوبل، أن العلماء تحولوا من متفرجين على الطبيعة، إلى مصممين لها، وأصبحوا قادرين على كشف أسرار الطبيعة لنصبح سادتها ونسوقها حسب رغباتنا.

وذكرت أستاذ فلسفة العلم، أننا كنا نظن من قبل أن إله الغرب هو الطبيعة، بينما تحول الإله في الغرب إلى الإنسان نفسه- ليسيطر على الطبيعة- وإلى عبادة الإنسان لذاته.

وأكدت الدكتورة فاطمة إسماعيل أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يتعامل بالحجة والبرهان والمنطق، ويرد على المنكرين والمشككين بالدليل، وأن قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (فصلت: 53) يدل على أن هذا الأمر مستمر حتى قيام الساعة، للتدليل على أن القرآن هو الحق. فالقرآن، كما ذكر عالم الرياضيات الأمريكي المسلم “جيفري لانج”، يدخل في حوار مع الإنسان، أيًّا كان، وفي أيِّ زمان كان.

أربع مراحل

من جانبه، ذكر الدكتور حسام الزمبيلي، أستاذ طب العيون ورئيس الصالون، أن علاقة الدين في الغرب مرت بأربع مراحل أو محطات، تركت آثارها على الإيمان والإلحاد؛ وهي:

– علاقة الدين بالسلطة: فبعد الصراع مع الكنيسة، بدأت السلطة الحاكمة تنظر إلى الدين ورجال الدين باعتبارهما منافسَيْن، وتحاول التقليصَ من تأثيرهما. كما أن رجال الدين أنفسهم أخذوا يتغولون على سطان الإله، ويمنحون صكوك الغفران. وعندما وضع رجل الدين في يده سلطة الإله، خسر المعركة، وخسر رجل الشارع؛ الذي كان محايدًا في الصراع بين الملك والكنيسة، ثم تغير موقفه عندما تغول رجل الدين على سلطة الإله.

– علاقة الدين بالعلم: فبعد أن وضعت الكنيسة تفسيرات جامدة مع النص الديني وما توصل إليه العلم، وتجازوت حقائقُ العلم هذه التفسيرات.. اهتز إيمان الكثيرين بعدما رأوا تصادم العلم والدين.

– علاقة الدين والمادية: فمع المادية الشديدة التي وسمت العالم الغربي، بدأ كل شيء يوزن بقياس المادة، فقلَّت قيمة الأخلاقيات، مما أدى إلى تحول كبير بشأن الموقف من الدين.

– علاقة الدين والدين: فالصراعات بين أهل الأديان أعطت فرصة للبعض ليتنصل من الطرفين معًا، ويرفض الدين بالجملة.

إنصاف وموضوعية

من ناحيته، أثنى الدكتور محمد صالحين، أستاذ الفكر الإسلامي بكلية دار العلوم بجامعة المنيا، على المحاضرة، ورأى أنها امتازت بالتمكن من المفردات والمحاور والمادة العلمية، بجانب التنظيم الدقيق للأفكار؛ تقديمًا وتحليلاً ونقدًا.

وأضاف: نجحت المحاضرة في تقمص أدوار الغائبين، من الشاب الملحد.. مما جعل العرضَ ممتعًا؛ لأنه أضفى عليه كثيرًا من الإنصاف والموضوعية، ونلاحظ أن المحاضرة لم تهاجم أحدًا، وإنما عرضت آراءهم وكيف يفكرون.