أضحى مفهوم “حقوق الإنسانHuman Rights ” ” من المفاهيم شائعة الاستخدام في الأدبيات السياسية الحديثة وفي الخطاب السياسي المعاصر بشكل عام، وإن كانت العديد من الكتابات التي استخدمت هذا المفهوم لم تهتم بتأصيله، بل أصبح لشدة شيوعه يستعمل بدون تمحيص وكأنه لا مجال لمراجعته؛ لذا فمن المهم قراءة المفهوم في أصوله الغربية ومقارنته بوضع الإنسان وحقوقه/ واجباته في الإسلام.
اكتسب مفهوم حقوق الإنسان Human Rights قبولا على المستوى الأكاديمي والمستوى السياسي الدولي على حد سواء، فقد حاولت العديد من الأدبيات العربية إضفاء الصبغة الإسلامية على المفهوم، فبرزت كتابات تتحدث عن “حقوق الإنسان في الإسلام”، بل صدر بالفعل عن أحد المؤتمرات الإسلامية الدولية “بيان عالمي لحقوق الإنسان في الإسلام”، واحتفظ بنفس مفردات الميثاق العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة مع محاولة إثبات عدم تعارضه مع الإسلام بعرض الأدلة الشرعية التي تساند هذه الحقوق، وهو ما يجعل الإطار الغربي للمفهوم في التحليل الأخير هو المرجعية.
وتثير القراءة في المصادر الغربية حول “حقوق الإنسان” كمفهوم العديد من التحفظات في ذهن الباحث بشأن صلاحية المفهوم وقدرته التفسيرية، ولعل أهم هذه التحفظات هي:
أولاً: غموض المفهوم
ففي حين يرجعه البعض إلى الرشادة والعقلانية ويلتمس له جذورًا في الفكر الإغريقي ثم المسيحي مباشرة، يرى البعض الآخر أن مصدر الحق هو أولاً القيم والقانون الوضعي ثم العرف والعادة.
وفي الوقت الذي تذكر فيه معظم الكتابات أن مضمون الحق هو أن للإنسان، بحكم كونه إنسانًا بغض النظر عن دينه ولونه وجنسه وكل الفوارق، حدًّا أدنى من الحقوق المكفولة، ترى بعض الكتابات الأخرى أن مضمون الحق جماعي لا فردي.
وتستند أغلب الكتابات الغربية عن حقوق الإنسان إلى عدد من الوثائق التاريخية كإعلان حقوق الإنسان بالولايات المتحدة (إعلان فرجينيا) 1776م، وإعلان الثورة الفرنسية 1790م، ثم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر 1947م عن الأمم المتحدة.
وبرغم أن مفهوم “حقوق الإنسان” حديث نسبيًّا في الثقافة الغربية، بل لم يعرف اليونان مفهوم “الحق” ولم يضعوا له لفظًا يقابله لغويًّا، إلا أن الفكر الغربي التمس له في البداية جذورًا في الفلسفة اليونانية، فأسسه على فكر “القانون الطبيعي” الذي يمكن في إطاره الحديث عن “حق طبيعي”، وهي فكرة تفترض نسقًا من القيم المرتبطة بالإنسان والتي تمثل إنسانيته وتعبر عنها، وهي بدورها فكرة غامضة وتعرضت لانتقادات أبرزها: أنه طالما افتقر “القانون الطبيعي” للوضوح والتجديد والتعاقدية والإلزام الذي يتسم به القانون الوضعي، فإن أي حقوق مرتبطة به تبقى غير محددة وغير معترف بها.
وبرغم قبول الفكر الغربي في تطوره في العصر الروماني ثم المسيحي لفكرة القانون الطبيعي، إلا أن بدايات الصراع بين الكنيسة والدولة في أوروبا شهدت بروز آراء تنتقد فكرة القانون الطبيعي باعتبارها من جهة ذات أبعاد غيبية/ فلسفية قد لا يقبلها البعض، ومن جهة أخرى تفترض ثبات هذا القانون الطبيعي كأصل وعدم تطوره، فطرح البعض مفهوم مبادئ العدالة كأساس لحقوق الإنسان.
ومع إرهاصات عصر البحث عن أساس لا ديني لحقوق الإنسان، برزت فكرة “العقد الاجتماعي” التي تقوم في جوهرها على علمانية نشأة الدولة ونفي البعد الإلهي عنها، ثم استقر في النهاية تأسيس مفهوم حقوق الإنسان على فكرة المنفعة بدءاً من كتابات “بنثام” وحتى الآن.
وقد أدت “المنفعة” كفكرة محورية في مشروع التنوير الغربي في تطورها إلى إخضاع تحليل الظاهرة الاجتماعية والسياسية للمفاهيم الاقتصادية، فكما يبحث الإنسان بشكل عقلاني عن تعظيم منفعته في التبادلات الاقتصادية، كذلك يسعى إلى الوصول إلى “نقطة التوازن” بين منفعته ومنفعة الآخرين في علاقاته الاجتماعية والسياسية، وهو يحترم بذلك حقوق الآخرين كي يضمن احترامهم لحقوقه في ظل مجموعة توازنات واقعية، وقانون وضعي ينظم هذه الحقوق المتبادلة.
وبرغم أن هذه الفكرة تفترض – نظريًّا – وجود نقطة توازن بين حق الفرد وحق الآخرين، ومنفعته ومنفعتهم، إلا أن المنفعة الفردية في الواقع العملي تطغى على الرشادة والعقلانية، وكلما اصطبغت الحقوق بالصبغة التعاقدية والتحديد القانوني، غلبت المنفعة الفردية في العلاقات التي لا ينظمها القانون، وهي كثيرة، وكلما سعى الفرد في بعض الأحيان إلى تطويع القانون ذاته واستغلال ثغراته في سبيل منفعته الفردية التي تحتل الأولوية، وهو ما يمثل إشكالية نظرية ومأزقًا واقعيًّا لمشروع التنوير الذي يمثل أساس الفكر الغربي المعاصر.
ثانيًا: الخصوصية الحضارية للمفهوم وعلمانيته
فالتطور التاريخي لفكرة حقوق الإنسان في الغرب يؤكد أن المعنى المقصود في تشريع الحقوق الإنسانية هو تحقيق الأهداف والقيم الغربية والتي ترتبط بالخبرة التاريخية لسياق حضاري معين، فالانطلاق الفعلي لفكرة حقوق الإنسان جاء مع الثورة الفرنسية، وهدف إلى التخلص من استبداد الملوك، وتزامن مع كتابات مفكري تيار الإصلاح الديني البروتستانتي في أوروبا والتي سعت لإزالة سلطان الكنيسة وكتابات الوضعيين، وهي التي أكدت على فكرة المجتمع المدني وكون الإنسان ذا حقوق طبيعية لا إلهية، “فالطبيعي” يحل محل “الإلهي” أو “الوحي”.
مفهوم حقوق الإنسان إذًا هو تركيز للقيم والمبادئ التي انتهى إليها الفكر الأوروبي والرأسمالي في تطوره التاريخي، كما أنه نموذج للمفاهيم التي يحاول الغرب فرض عالميتها على الشعوب الأخرى في إطار محاولته فرض سيطرته ومصالحه القومية، بل ويستغل ذلك سياسيًّا في كثير من الأحيان، كما يحدث في العلاقات الدولية وفي الدفاع عن حقوق بعض الأقليات بهدف زعزعة وضرب النظم السياسية المخالفة والخارجة عن “الشرعية الدولية” و”النظام العالمي الجديد”.
وإذا كانت بعض الكتابات الغربية تحاول تأكيد هذه “العالمية” للمفهوم، فإن دراسات أخرى، خاصة في إطار علم الأنثروبولوجيا، تؤكد على نسبية المفهوم وحدوده الثقافية مؤكدة أهمية النظر في رؤية حضارات أخرى للإنسان وحقوقه انطلاقًا من الفلسفة التي تسود الدراسات الأنثروبولوجية الحديثة، وهي التأكد على التباين والتعددية في الثقافات والخصوصيات الحضارية لكل منطقة.
إن الخبرة السياسية ذات أهمية بالغة في بناء المفاهيم، ولعل مفهوم حقوق الإنسان من المفاهيم التي تعكس ذلك بشكل واضح، فقد يُعَدُّ “الجهاد” في التحليل الغربي اعتداءً على السيادة وتدخلاً في شؤون الدول الأخرى ووسيلة من وسائل استخدام القوة في تسوية المنازعات، في حين أنه في الرؤية الإسلامية بدرجاته المختلفة دفاع عن حرية الفرد في اختيار عقيدته وحقه في العلم بدين الإسلام، ووسيلة لردع الباطل ومقاومته.
وعلى المستوى الاجتماعي ترى الكتابات الغربية في تحريم الإسلام زواج المسلمة من غير المسلم تقييداً لحق المرأة وإهدارًا لحقوق الإنسان وتمييزًا على أساس العقيدة وحرمانًا للمرأة من حرية اختيار شريكها، في حين تراه الرؤية الإسلامية حفاظًا على الشكل الإسلامي للأسرة وحماية لعقيدة الأطفال وصونًا للمرأة المسلمة من أن يكون صاحب القوامة عليها غير مسلم، وهكذا.
وقد أدى هذا الاختلاف إلى هجوم بعض الكتابات الغربية على الإسلام واتهامه بأنه هو العدو والتحدي الحقيقي لحقوق الإنسان بمفهومها “العلماني” و”العالمي”، فهذه الكتابات لم تدرك اختلاف المفاهيم الإسلامية عن غيرها، ومرجعيتها المتميزة نتيجة ارتباطها بالشرع، وبحث أصحابها عن مفهوم “حقوق الإنسان” بعناصره الغربية ولفظه اللغوي فلم يجدوه، وغفلوا عن خصوصية اللغة وخصوصية الرؤية الإسلامية للإنسان وحقوقه، فالإسلام قد بالغ في رعايته حقوق الإنسان إلى الحد الذي جعلها في نظره ضروريات، ومن ثَمَّ أدخلها في إطار الواجبات، فالمأكل والملبس والمسكن والأمن وحرية الفكر والاعتقاد والتعبير والمشاركة في صياغة النظام العام للمجتمع ومحاسبة أولي الأمر، كل هذه أمور نظر إليها الإسلام لا باعتبارها فقط حقوقًا للإنسان “يمكن” السعي للحصول عليها والمطالبة بها، بل هي ضرورات واجبة للإنسان، والمحافظة عليها هي محافظة على ضرورات وجوده التي هي مقاصد الشرع، فضلاً عن حفظ حاجيَّات هذا الوجود بوضع أحكام العلاقات الإنسانية في سائر المعاملات، وأخيرًا، حفظ تحسينيات الوجود الإنساني من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات.
إن منطلق حقوق الإنسان في الخطاب الغربي هو الحق الطبيعي المرتبط بذاتية الإنسان من الناحية الطبيعية – بغض النظر عن الفكر والمنهج – بينما الحق الشرعي للإنسان في الإسلام يستند إلى التكريم الإلهي ويرتبط بمفاهيم الأمانة والاستخلاف والعبودية لله وعمارة الأرض، ولا ينفصل عن حقوق الله لارتباطه بالشريعة التي تنظمه، وهو ما يجعله غير قابل للإسقاط بعقد أو صلح أو إبراء، فحقوق الإنسان الشرعية ليس من حق الفرد أو الجماعة التنازل عنها أو عن بعضها، وإنما هي ضرورات إنسانية توجب الشريعة الحفاظ عليها من قبل الدولة والجماعة والفرد، فإذا قصَّرت الدولة وجب على الأمة أفرادًا وجماعات تحملها؛ لذا كان مدخل “الواجب الشرعي” في الرؤية الإسلامية هو المدخل الأصح لفهم نظرة الإسلام للإنسان ومكانته وحقوقه، خاصة السياسي منها، تحقيقًا للمنهج الذي يربط بين الدراسة الاجتماعية السياسية والمفاهيم الشرعية من أجل بلورة رؤية إسلامية معاصرة.