هذه العبارة مشهورة سائرة على ألسن العامة والخاصة وتذكر الكتب لها قصة وهي أن الزِّبْرِقانَ بنَ بَدْر -وكان يقال له: قَمَرُ نجد، لجماله – وفد على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم في وفد بني تميم، وكان من ساداتهم، ومعه: قيس بن عاصم المِنْقَري الذي يضرب به المثل في الحِلم ، ومعه عمرو بن الأهتم، فأسلموا، وأجازهم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فأحسن جوائزهم، وذلك سنة تسع من الهجرة.
وتكلم الزبرقان فمدح نفسه وافتخر فقال: يا رسول الله، أنا سيد بني تميم والمطاع فيهم والمجاب، أمنعهم من الظلم وآخذ منهم بحقوقهم، وهذا يعلم ذلك – يعني عمرو بن الأهتم – ، فقال عمرو: إنه لَشَدِيدُ الْعَارِضَةِ مَانِعٌ لِجَانِبِهِ مُطَاعٌ فِي أدنَيْهِ.
فقال الزبرقان: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ عَلِمَ مِنِّي غَيْرَ مَا قَالَ، وَمَا مَنَعَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ إِلَّا الْحَسَدُ.
فقال عَمْرٌو: أَنَا أَحْسُدُكَ فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَئِيمُ الْخَالِ، حَدِيثُ الْمَالِ، أَحْمَقُ الْوَالِدِ، مُضَيّعٌ فِي الْعَشِيرَةِ.
والنبي ﷺ يسمع، فرأى عمرو بن الأهتم الإنكار في عينيه؛ لأنه غير أقواله فمدح، ثم هجا.
فقال عمرو: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ صَدَقْتُ فِيمَا قُلْتُ أَوَّلًا، وَمَا كَذَبْتُ فِيمَا قُلْتُ آخِرًا.
ولكني رجل إذا رأيت قُلْتُ أَحْسَنَ مَا عَلِمْتُ، وَإِذَا غَضِبْتُ قُلْتُ أَقْبَحَ مَا وَجَدْتُ، وَلَقَدْ صَدَقْتُ فِي الْأُولَى وَالْأُخْرَى جَمِيعً.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا».
هذه القصة لها روايات كثيرة بعض جملها أخرجه البخاري في الصحيح كجملة: «إِنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرًا»، وبعض جمل القصة عند مالك في موطئه وأحمد في مسنده والحاكم في مستدركه.
والشاهد من القصة تشبيه النبي ﷺ للبيان بالسحر، والسحر هو صرف الشيء عن وجهه بسبب خفي لطيف.[1]
فالساحر يستميل قلوب الناظرين إليه بسحره، والفصيح الذرب اللسان يستميل قلوب الناس وأسماعهم إليه بحسن فصاحته ونظم كلامه، فالأنفس تكون إليه تائقة، والأعين إليه رامقة.
قال الميداني: إنما شبه البيان بالسحر لحدة عمله في سامعه وسرعة قبول القلب له.
فمن البيان ما يحل من العقول والقلوب في التمويه محل السحر، فإن الساحر بسحره يزين الباطل في عين المسحور حتى يراه حقا، فكذا المتكلم بمهارته في البيان وتفننه في البلاغة وترصيف النظم يسلب عقل السامع ويشغله عن التفكر فيه والتدبر له حتى يخيل إليه الباطل حقا، والحق باطلا وهذا معنى قول ابن قتيبة: إن منه ما يقرب البعيد ويبعد القريب ويزين الباطل القبيح ويعظم الصغير فكأنه سحر.[2]
وقد اختلف أهل العلم في قوله ﷺ:” إن من البيان لسحرا”، هل قالها هو على وجه الذم أو على وجه المدح؟ فهي تحتمل الذم؛ لأن السِّحر تمويه، فيكون من الـبَيَان ما يُمَوِّه الباطل، حتى يُشَبِّهه بالحقِّ، كما تحتمل المدح؛ لأنَّ الـبَيَان من الفهم والذَّكاء.
قال أبو هلال: الصَّحيح أنَّه مَدَحه، وتسميته إياه سِحْرًا، إنَّما هو على جهة التَّعجب منه، لأنَّه لما ذمَّ عمرو الزبرقان، ومدحه في حالة واحدة، وصدق في مدحه وذمِّه فيما ذَكَر، عجب النَّبي ﷺ كما يعجب من السِّحر، فسمَّاه سحرًا من هذا الوجه.[3]
وخلاصة القول أن العلماء قد اختلفوا على قولين في توجيه هذا الحديث.
القول الأول: أن هذا الحديث جاء في معرض ذم البلاغة، لأنها شبهت بالسحر ، والسحر مذموم ، وذلك لما فيها من تصوير الباطل في صورة الحق ولهذا أدخل مالك الحديث في موطئه في باب ما يكره من الكلام.
والقول الثاني: وهو قول جمهور أهل العلم ، أن الحديث جاء على وجه المدح والحث على تخير الألفاظ، والتأنق في الكلام، ومعنى السحر: الاستمالة، وكل من استمالك فقد سحرك، فالبليغ يبلغ ببيانه مَا يبلغ السَّاحر بلطافة حيلته فِي سحره، وكان – ﷺ – أميز الناس بفصل البلاغة لبلاغته، فأعجبه ذلك القول واستحسنه، فلذلك شبهه بالسحر.
قال ابن عبد البر: وأبى جمهور أهل الأدب والعلم بلسان العرب إلا أن يجعلوا قوله – ﷺ -: “إن من البيان لسحراً” مدحاً وثناء وتفضيلاً للبيان وإطراء، وهو الذي تدل عليه سياقة الخبر ولفظه.[4]
والمتأمل في شعر العرب يجدهم كثيرا ما يشبهون الحديث الحسن المستملح بالسحر لتأثيره على القلب وأسره للّب، يقول بشار بن برد:
وكأنّ تحتَ لِسَانِـــــــــها … هاروتَ ينفثُ فيه سِحراَ
وكأنّ رجْعَ حديثــــــــها … قِطَعُ الِّرياض كسينَ زَهْرا
ولأبي تمام:
فَأَينَ قَصَائِدٌ لِي مِنْكَ تأْبَى … وَتأَنَفُ أَنْ أُهَانَ وأَنْ أُدالا
هِيَ السِّحْرُ الحَلالُ لِمُجْتَنِيهِ … وَلَمْ أَرَ قَبْلَهَا سحرًا حَلالا
ولابن الرومي:
وَحَدِيثها السَّحْرُ الحَـــــلالُ لَوَانَّهُ … لم يجِنْ قَتْلَ المُسْلِمِ المُتَحَرِّز
إِنْ طَال لَمْ يُمْلَلْ وإِنْ هِيَ أَوْجَزَتْ … وَدَّ المُحَدَّثُ أَنّهَا لَمْ تُوْجِــزِ
شَرَكُ العُقُوْلِ ونُزْهَةٌ مَا مِثْلُــــــهَا … لِلْمُطْمَئِنِّ وَعُقْلَةُ المُــسْتَوفِزُ
وروي عن عمر بن عبد العزيز أن رجلًا سأله حاجة فاعتاص عليه قضاؤها، فرفق له الرجل في القول، فقال: إن هذا هو السحر الحلال، وأنجزها له.[5]
وكان زيد بن إياس يقول للشعبي: يا مبطل الحاجات. يعني: أنه يشغل جلساءه بحسن حديثه عن حاجتهم.
قال ابن عبد البر: معلقا على قوله ﷺ:” إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا”
وفي هذا دليل على مدح البيان وفضل البلاغة والتعجب بما يسمع من فصاحة أهلها وفيه المجاز والاستعارة الحسنة لأن البيان ليس بسحر على الحقيقة وفيه الإفراط في المدح لأنه لا شيء في الإعجاب والأخذ بالقلوب يبلغ مبلغ السحر.
وأصل لفظة السحر عند العرب الاستمالة وكل من استمالك فقد سحرك وقد ذهب هذا القول منه ﷺ مثلا سائرا في الناس إذا سمعوا كلاما يعجبهم قالوا إن من البيان لسحرا ويقولون في مثل هذا أيضا هذا السحر الحلال …
قال: ومن هذا ما أنشدني يوسف بن هارون في قصيدة له …
نَطَقت بِسِحْرٍ بَعْدَهَا غَيْرَ أَنَّهُ … … مِنَ السِّحْرِ مَا لَمْ يُخْتَلَفْ فِي حَلَالِهِ”.[6]
[1] كشاف اصطلاحات الفنون لمحمد علي تهانوي: 1/926.
[2] فيض القدير للمناوي: 2/534.
[3] جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري: 1/ 14.
[4] التمهيد لابن عبد البر: 5/ 170.
[5] التوضيح لشرح الجامع الصحيح لابن الملقن: 24/450.
[6] التمهيد 5/174.