يقع متن الكتاب الصادر عام 2017 في 305 صفحات (منها 20 صفحة مقدمة ومدخل) وتم تقسيمه الى 3 ابواب و 11 فصلا، وحدد الكاتب – الاستاذ عزيز الحدادي – مهمة كتابه في مقدمته بأنها لكشف العلاقة بين السياسة والفلسفة عند ابن رشد، ومحاولة فهم لماذا غاب ابن رشد عن الساحة الفكرية العربية؟

وطبقا للكتاب فان ابن رشد ركز على ” الاقتصار على الضروري وترك الأفضل” في توجهه السياسي ، وهو- أي ابن رشد- بذلك يتجاوز النظرة الميتافيزيقية لعلم السياسة ( الذي هو فرع من العلم المدني الذي يضم الأخلاق والسياسة )، ولعل كتابه ” جوامع سياسة أفلاطون يتعارض في مضمونه مع ميثولوجيا الخلافة والآداب السلطانية ويسعى للقضاء على وحداني السلطة معتمدا في تحليله على البرهان والفضيلة ، واعتباره بأن الشرعية يجب ان تتأسس على ” العقلانية”.

ويناقش الكاتب كتاب ابن رشد ” الضروري في السياسة ” لكن هذه المناقشة تراعي المناخ الثقافي السائد يومها في الأندلس. وفي الباب الاول يناقش الكتاب في فصله الأول علاقة ابن رشد مع ابن تومرت (دولة الموحدين) مع تأكيده على تلاقيهما في نقطة النظر العقلي، أما الفصل الثاني فيناقش التاثير بين الفلاسفة بخاصة الفارابي وابن رشد ، وكيف افترقا في مواقفهما فمال الأول في موقفه من الفلسفة السياسية للعلم الإلهي بينما مال ابن رشد للعمل البرهاني، ليستعرض بعد ذلك مواقف ابن باجة وابن طفيل ليصل لتفسير علاقة ابن تومرت مع ابن رشد بأنها نتيجة ” للنزعة الإصلاحية التي كان ابن تومرت ينشدها ” مما دفع ابن رشد للاهتمام بتراث ارسطو في هذا المجال.

ويدير الكاتب في فصله الثالث مناقشة حول الثالوث: ابن رشد وافلاطون وارسطو وملابسات التداخل في أفكارهما ، ويكاد هذا الموضوع هو الأكثر حضورا في هذا الكتاب، كما يبدي ابن رشد اهتماما بما أسماه السياسة المركبة من مذاهب مختلفة لكنه لم يهتم بإشكالية الخلافة (صفحة 112 الفقرة 2) ، وفي الباب الثاني يحدد الكتاب المشروع السياسي لابن رشد في تفسير ارسطو وأفلاطون ونقد المجتمع العلمي الأندلسي واستبداد التجربة السياسية في الغرب الإسلامي ، ويجعل ابن رشد –الفصل الاول- من الخطابة مدخلا لعمل السياسة والعمل على فصلها عن ” السفسطة”، ويناقش أنواع الحكم وهي أربعة: السياسة الجماعية (الديمقراطية) وخساسة الرياسة ووحدانية السياسة وجودة التسلط (الارستقراطية)، وفي الفصل الثاني، يتحدد موقف ابن رشد الناقد لعلم الكلام إلى حد مطالبته بتحريم كتب المتكلمين (صفحة 163) على أساس أن خطر المتكلمين على المدينة في أنهم يحرضون الجمهور على الخوض في العلم والسياسة (صفحة 170).

ويدير الكتاب نقاشا حول موقف جمال الدين العلوي الذي اعتبر موقف ابن رشد من الغزالي بأنه “موقف ايديولوجي لا معرفي”. ويعود الكتاب لعرض أراء الفارابي وابن باجه لا سيما في المقارنة بين المدينة الفاضلة والمدينة الجاهلة، مع تكرار القول بأن آراء المتكلمين (الفصل الرابع) يشكل عائقا ابيستمولوجيا وسياسيا أمام قيام المدينة الفاضلة لأنهم ” يحاربون الفلسفة”.

ويقف ابن رشد في موضوع العلاقة بين الاقتصاد والسياسة إلى جانب أفلاطون في الفصل بينهما، وهو أمر مخالف لموقف ارسطو الذي ربط بينهما. ويبدأ الباب الثالث بسؤال حول إهمال ابن رشد في الآداب السلطانية وكتابات ابن خلدون قياسا لاهتمام الغربيين به؟ وبعد تحديد أسس قيام الفلسفة السياسية ( ذكرناها أعلاه) يعود الكاتب لمناقشة (مرة اخرى) علاقة ابن رشد بأدبيات أفلاطون وأرسطو،ليحدد بعدها مفهوم الفلسفة السياسية(العلم المدني) عند ابن رشد بانها ” الفضائل الأخلاقية من ناحية واستقرار هذه الفضائل في النفس البشرية”، وفي الفصل الثالث يناقش ” الحداثة المستحيلة” لابن رشد، لأنه كان يريد أن يكون ديمقراطيا في مجتمع منغلق، ولعل ذلك كان المدخل الذي استند له المؤلف لتفسير نكبة ابن رشد بخاصة خطابه عن الاستبداد الذي كان –حسب المؤلف- موجها للسلطة لا لنقد ما ورد عند أفلاطون كما اعتقد البعض في ظل ربط ابن رشد الاستبداد ” بالتبريرات الدينية له.

ويستمر الكتاب- الفصل الرابع- في مناقشة محنة ابن رشد ، ويستعرض الآراء المختلفة حول أسباب هذه المحنة ( مثل ورود لفظ او جملة قالها ابن رشد وتمس الدين ، أو نقده الحكم الاستبدادي ، أو لإرضاء العامة ، ويصل الكاتب الى تأثير ابن رشد عربيا وأوروبيا، ويرى أن أثر ابن رشد كأثر ماركس في أوروبا، بينما تأثيره العربي كان أقل من ذلك بكثير بعد أن يعرض آراء عربية فيه ، بل إن ابن خلدون -في رأي المؤلف- تأثر بابن رشد في موضوع العمران لكنه حتى لم يشر له بهذا الخصوص.

يقع هذا الكتاب في نطاق حقل الفلسفة بشكل عام وفرع الفلسفة السياسية بشكل خاص، ويحاول الكتاب التركيز على الفيلسوف العربي ابن رشد ، ووعد الكاتب أنه سيركز على قضايا جوهرية في دراسته مثل : العلاقة بين الفلسفة والسياسة عند ابن رشد، نقد تعويل السياسة على الدين ، مركزية “علم البرهان”(التحليل العقلي) عند ابن رشد ، الدعوة لتشييد مدينة فاضلة استنادا الى ” الضرورة” ، نقد ابن رشد ل ” وحداني السلطة “” (أي المستبد) ، غياب ابن رشد عربيا وحضوره أوروبيا ، الجدل حول تأثير افلاطون وأرسطو في توجهات ابن رشد ، مساجلات ابن رشد مع الفلاسفة المسلمين الآخرين (الفارابي وابن سينا وابن باجه وابن حزم والغزالي..الخ) وأسباب نكبة ابن رشد ونفيه..الخ.

ولو توقفنا عند موضوع الدراسة، فأنا أرى أن هذه الدراسة لم تضف ” أي ” جديد سواء لما كتبه نفس الكاتب (عزيز الحدادي وهو ما سأوضحه لاحقا ) أو ما كتبه الباحثون العرب الآخرون في هذا الجانب. فهذه الدراسة لا تشكل رؤية جديدة لأدبيات ابن رشد في أي بعد منها، ورغم أن المهمة التي أوكلها الباحث لنفسه وهي: دراسة العلاقة بين الفلسفة والسياسة ( صفحة 8) فإن مقارنة مضمون الكتاب في شقه السياسي لا يتسق الا بقدر ضئيل للغاية مع ما ورد في الكتاب من تحديد موضوعات علم السياسة ( انظر الكتاب صفحة 210 من السطر الاخير وما بعده)، فيقول الكاتب إن قيام الفلسفة السياسية يتم من خلال ” ارتباطها بمواضيع محددة نذكر منها على سبيل المثال: ظاهرة الدولة،علاقة الانسان بالمدينة، أنواع الحكم وأساليب الحكام وكيفية تقسيم السلطة والثروة وتفسير العدالة وإمكانية قيام المدينة الفاضلة وبيان أسس الشرعية وغيرها “.

ان الموضوعات التي حددها الكاتب لدراسة الفلسفة السياسية الرشدية – الموضوع الرئيسي للكتاب- لا تشكل من متن الدراسة أكثر من 25%، ولا يزيد ما ورد في باقي الدراسة عن كونه اجترارا لما ورد في العشرات من الدراسات ومن بينها دراسات الكاتب بل أحيانا نصا وروحا. فالموضوعات التي حددها للفلسفة السياسية لا ترد أي منها الا في سطر هنا او نصف فقرة هناك ، وبعضها غائب تماما ، فأين هي ظاهرة الدولة في هذه الدراسة ؟ واين هي أساليب الحكم، او ما حجم ما ورد عن انواع الحكم (لا يزيد كل ما ورد عن مجرد المقارنة بين تسميات اشكال الحكم عند ابن رشد وعند غيره( 3 فقرات صفحة 147-148) رغم أن هذا هو صلب الموضوع.. ثم أين هي أنماط توزيع السلطة والثروة في فلسفة ابن رشد السياسية…الخ.

لقد أدار الكاتب مناقشات جيدة تخص ابن رشد لكنها ليست في صلب المهام التي زعم الكاتب انه سينجزها في كتابه هذا. ثم مع أن الكتاب عن ابن رشد وبناء النهضة الفكرية العربية، لكني لم أعثر على طريق هذا البعد-النهضة العربية الفكرية- في صفحات الكتاب كلها.

وعليه لا أرى الكتاب يضيف أي جديد لا في منهجه ولا في مضامينه ، وأزعم انه أقرب لملخصات لدراسات اخرى سابقة للباحث نفسه عن ابن رشد اشرت سابقا –البند الاول- إن موضوع الفلسفة السياسية التي حددها الباحث هدفا لدراسته هي الأقل حضورا في الدراسة بخاصة ضمن حدود الموضوعات التي حددها الباحث لمضمون الفلسفة السياسية ، ثم إن عنوان الكتاب يقوم على أساس كشف دور ابن رشد في “بناء النهضة العربية” أو كيف يمكن أن يستفيد الفكر العربي من أدبيات ابن رشد؟

وفي تقديري أن الكتاب لم يجب على أي من هذين البعدين، ثم عن أي نهضة فكرية عربية يشير الكاتب؟ هل هي في فترة ابن تومرت أو الفترة المعاصرة؟ فإذا حسبنا مساحة ما خصصه الباحث لمرحلة دولة الموحدين (بخاصة مع ابن تومرت) قياسا لما خصصه للفترة المعاصرة فالفارق كبير للغاية لصالح الأولى، بل إن تكرار الباحث لعبارة غياب تأثير ابن رشد عربيا وحضوره أوروبيا دليل على أن ابن رشد لم يكن له أي تأثير في مشروع النهضة العربية المعاصرة المزعومة، فهل يقصد الكاتب أن يتوجه للمستقبل ليقول كيف نستفيد من ابن رشد لنشرع في بناء نهضة عربية فكرية؟ إاذا كان الأمر كذلك فعلينا أن نبحث الإجابة عن هذا السؤال في مكان غير هذا الكتاب.

إن حجم التكرار لموضوع الجدل حول علاقة ابن رشد الفكرية مع أفلاطون وارسطو وطرح افكار الباحثين عربا وغربيين من هذه القضية هو الأكثر من بين الموضوعات الأخرى ، يليه عرض الصلات الفكرية لابن رشد مع الفلاسفة المسلمين والعرب (ابن سينا والفارابي والغزالي وابن باجه وابن طفيل ..الخ) ثم مواقف الباحثين الأوروبيين والعرب المعاصرين أو ممن عاشوا في القرون الوسطى من هذه الموضوعات ، وغابت تماما موضوعات الفلسفة السياسية وغاب دور ابن رشد في النهضة إلا من فقرات متناثرة لا تساعد القارئ على تلمس طريقه لمعرفة كيف نوظف ابن رشد في هذا المشروع الطموح.

مرة اخرى أتساءل واستنادا لما جاء في الكتاب: حدد الباحث هدفه في دراسة الفلسفة السياسية لابن رشد (من صفحة 5- 14)، وفي صفحة 210 (آخرها) حدد موضوعات الفلسفة السياسية، فأين هذه الموضوعات في صفحات الكتاب؟ ثم هل الفلسفة السياسية هي ما حدده صفحة 210؟

بكل أمانة ، كان هذا الكتاب هو الأكثر ارهاقا لي من حيث تحديد الفكرة المركزية التي يريد الكاتب الوصول لها، فتداخل الموضوعات دون أي احترام لعناوين الفصول والأبواب امر ملفت للنظر، والعودة للفكرة الواحدة من فصل لآخر سمة طاغية، ويكفي أن نأخذ مثالا على ذلك (انظر من صفحة 113-116 التداخل في عرض الأفكار لابن رشد وافلاطون وابن سينا وابن طفيل والفارابي بشكل لا تعرف اين حدود ما قاله كل من هؤلاء) ، ولو أخذنا طغيان موضوع كتاب ” جوامع سياسة افلاطون” ودور ابن رشد فيه (شارحا او معلقا او مضيفا ) وهو الأمر الذي يقر الكاتب نفسه بسيطرة هذا الكتاب (انظر الفقرة الاخيرة صفحة11 وبداية صفحة 12)، ويبرر ذلك بأنه نتيجة لكون هذا الكتاب (الضروري في السياسة) هو النص السياسي الوحيد الذي ينتمي لتجليات العقل السياسي الاسلامي إذ أنه يتعارض مع تجليات ميثولوجيا الخلافة ..فهل هذا الزعم صحيحا؟ ثم انظر تكرار الاشارة لهذا الكتاب(جوامع السياسة..الصفحات 21-27).او الاشارة الى ان غياب كتاب السياسة لارسطو دفع ابن رشد لكتاب الجمهورية لافلاطون( تكررت هذه العبارة 17 مرة).

يبدو ان بعض الكتاب العرب المعاصرين يريدون العودة لثنائية ” تهافت الفلسفة-الغزالي مقابل تهافت التهافت-ابن رشد” ، ويبدو ان التيار المغاربي هو الاكثر حرصا على هذه العودة ، وكاتبنا هنا هو احد فرسان هذه المنازلة الفكرية التي اصبحت مالوفة وكأننا نشاهد فيلما سينمائيا للمرة العشرين.

ان الكتابات العربية في هذا المجال ومقارنتها بالكتابات الغربية في نفس السياق يشبه مقارنة ” الاجترار” بعملية التمثيل الكلوروفيلي، فالاولى هي عارض لخلل والثانية تحويل غير العضوي الى عضوي.النقطة الثانية هنا وهي نقطة مهمة ، اقصد موقع هذا الكتاب في انتاج المؤلف: نعم المؤلف من المتخصصين في هذا الميدانز

اما كتابنا هذا فأرى انه اعادة انتاج متعجلة لما كتبه باحثنا في:

1- صورة ابن رشد في الكتابات الأوروبية والعربية(عام 2000) ( في كتابنا هذا: الرشدية السياسية ومدى تأثيرها في الكتابات العربية الوسطوية والاوروبية: انظر من صفحة 276-305).

2- ابن رشد واشكالية الفلسفة السياسية في الاسلام: نكبة الفيلسوف ومحنة الفلسفة( عام 2010) ويعالج الكاتب في هذه الدراسة التي تقع في 357 صفحة، موضوعات مثل : العلاقة بين الواجب الأخلاقي والإصلاح السياسي ،الفلسفة العربية وسياسة التمدن، فلسفة إبن رشد والتحديثية المستحيلة، والفكر السياسي لإبن رشد والآخر، وقد تم تقسيم هذا الكتاب الى ثلاثة اجزاء كبرى هي: “أسس الفلسفة السياسية عند إبن رشد”، و”غايات الفلسفة السياسية” و”حضور إبن رشد في الفكر الأوروبي”..وهي في كتابنا هذا اعادة معالجة بنفس الطريقة . بل ان ما ورد عن اسباب نكبته وردت بعض فقراتها حرفيا( انظر كتاب ابن رشد واشكالية الفلسفة صفحة 254 مع ما ورد في كتابنا هذا صفحة 254 ايضا.)