عندما كان علماء الغرب من رومان وإغريق ويونانيين يتبارون في تفسير أسباب الزلازل بمعتقدات أسطورية خرافية، كان علماء العرب والمسلمين يجتهدون في الكشف عن أسرار هذه الظاهرة الطبيعية، اعتمادا على العلم وقوانين الطبيعة وماجاء في القرآن الكريم فقد كانت علاقة ابن سينا والزلزال لا تبعد كثيرا عن علاقته بالطب والفلك والجيولوجيا.

فكر حكماء وفلاسفة الحضارات القديمة في كل القارات في ظاهرة الزلزال، وعزا كثير منهم وقوع الزلازل لأسباب عديدة، بعضها دينى، وبعضها أسطوري والبعض الآخر بسبب التغيرات الجوية الحادة أو الأمطار الغزيرة والسيول، أو بفعل القمر في حالاته المختلفة والمد والجزر، أو بسبب تحرك الكواكب، أو بفعل المياه الجوفية.

بيننا وبينهم .. مسافة الخرافة والعلم

يقول المؤرخ المشهور بلينى الكبير (23- 79 م) أن الرومان كانوا يعتقدون أن الزلازل هي عقاب من ربة الأرض للبشر، بسبب حفرهم في بطنها وأخذ كنوزها من الذهب والفضة والمعادن الأخرى. وهو نفس تفسير علماء حضارة الأزتك في المكسيك الذين كانوا يعتقدون أن الزلازل هي عقاب الآلهة لأهل الأرض، فيما قال اليابانيون القدماء أن هناك حيتان ضخمة تسبح في الماء تحت الأرض، هي التي تسبب الزلازل عندما تتحرك وتتظاهر تارة بالحب وتارة أخرى بالعراك.

ويعتقد النيوزيلنديون في أساطيرهم القديمة أن هناك إلها للزلازل والبراكين مدفون تحت الأرض (إله ميت!!) وعندما يتحرك في قبره تهتز الأرض ويحدث الزلزال.

ولعل أقرب التفسيرات إلى المنطق والعلم، وأشهرها أيضا، حيث ظلت سائدة حتى القرن التاسع عشر الميلادى، فيتمثل في الاعتقاد بوجود نار وغازات في جوف الأرض، وأن حركة الغازات بفعل النار هي التي تسبب الزلزلة. وأشهر من تمسك بهذه الفرضية الفيلسوف اليونانى المشهور فيثاغورس (580- 497 قبل الميلاد).

علماؤنا من فسروا الزلازل

انطلق العلماء المسلمون في التاريخ الإسلامي في تفسيراتهم لظاهرة الزلزال أو وقبل كل شيء من القرآن الكريم. فمن صاعقة قوم عاد وثمود، وطوفان سيدنا نوح عليه السلام، و من مطر النار والحجارة على قوم سيدنا لوط عليه السلام، إلى أول زلزال في العالم عام 597 للهجرة والذي حدث أيضا بأجزاء كبيرة من العراق وتركيا سوريا ولبنان وقد دوَّنه المؤرخ ابن كثير في كتابه “البداية والنهاية”..منذ تلك الحقبة اجتهد علماء الإسلام في تفسير ظاهرة الزلازل كل حسب اختصاصه واهتمامه.

وجاء في عدة دراسات أن إخوان الصفا وابن سينا وابن حيان والقزويني أول من قدموا تفسيرات لتحليل ظاهرة الزلازل ومعالجات لدرء مخاطرها. وجاء في دراسة اعدها الدكتور داود شاكر البدراني مدير قسم الرصد الزلزالي في الهيئة العامة للانواء الجوية والرصد الزلزالي العراقية أن العلماء العرب تقدموا بفترة طويلة على العلماء الآخرين وعلى والنظريات الأجنبية في جوانب كثيرة تخص الزلازل والهزات الأرضية.

وبينت الدراسة أنه تم اغفال الكثير من الحقائق العلمية للعلماء العرب، والتي سبقت نظريات حديثة بمئات السنين فإخوان الصفا وليس العالم الفيزيائي ريد من كان لهم الفضل في وضع الأسس الفيزيائية، لتفسير عملية حدوث الزلازل التي اسماها عام 1910 نظرية الارتداد المرن لمصدر الهزة الأرضية. وقال البدراني أن ابن سينا سبق العلم الحديث في نظرية تكتونية الصفائح، وتطرق إلى ما يسمى حديثا بالزلزالية المحتثة.

كما بين الباحث أن ابن حيان كان يقول بأن الزلازل تحدث من استبطان رياح في باطن الأرض وانحصارها وكان القزويني يشبه الزلازل بالإنسان المصاب بالحمى الذي يهتز ويرتعد عند خروج الرطوبات العفنة المحتبسة خلال أجزاء البدن.

ابن سينا والزلازل .. البداية

يقول ابن سينا (371- 428 هـ / 980- 1036 م): “إن الزلزلة حركة تعرض لجزء من أجزاء الأرض بسبب ما تحته. ويذكر أيضا أن للزلازل بعض المنافع، أهمها تفتيح مسام الأرض للعيون، وإشعار قلوب فسقة العامة رعب الله تعالى، وهذا اعتقاد قديم، فالناس إذا فاجأتهم الزلازل والكوارث الطبيعية عادة ما كانوا يفسرون ذلك بغضب إلهي على عباده أو حكامهم. يقول جلال الدين السيوطى في كشف الصلصلة: “وفي أيام الحاكم بن معز الفاطمي (386- 411 هـ، 996- 1021 م) زلزلت مصر حتى رُجفت أرجاؤها، وضجت الأمة لا تعرف كيف نجاؤها..”. وتروى كتب التاريخ عن هذا الحاكم أنه كان ظالما وجبارا ومستبدا، وشاع بين الناس وقتذاك أن هذه الزلزلة من غضب الله سبحانه وتعالى من هذا الحاكم الفاسد.

في كتابه “المعادن والآثار العلوية” في قسم “الطبيعيات” في موسوعته العلمية – الفلسفية الكبرى، “الشفاء”، يرجح ابن سينا أن أكثر الزلازل تحدث ليلا. فالليل، في الواقع، يعطي للزلزال قدرة رعب وتدمير أكبر، بصرف النظر عن انعدام الصلة السببية هنا. اللافت أن ابن سينا يقلل من احتمالات حصول الزلازل في الشتاء والصيف، إلا إذا كانت درجة الرطوبة في الشتاء أعلى من درجة البرد، أو تمادى الجفاف صيفا.

في علاقة ابن سينا والزلزال يخالف الشيخ الرئيس آراء من سبقه ممن أحال الزلزلة إلى حركة الهواء، أو إلى تدفق المياه الجوفية، ولا يأتي على حركة الكواكب إلا من باب أنه “ربما كانت الكسوفات سببا للزلازل”. فقد كان الأساس عنده أن “أكثر أسباب الزلزلة هي الرياح المحتقنة” في باطن الأرض. “بخار ريحي أو ناري قوي يتحرك فيحرك معه الأرض”. وهو يزكي “البخار الريحي”.

الزلزال بين رياح الأرض ورياح البدن

ابن سينا كان فيلسوفا وطبيبا، لذلك فقد أنصت إلى رياح تموج في البدن كما في باطن الأرض. فحاول علاج الأرض كما يعالج البدن. بتشخيص ما بها من رياح محتقنة.

وفي دراسة للدكتور والباحث الكويتي عبد الله يوسف الغنيم “أسباب الزلازل وأحداثها في التراث العربي تناول فيها الجوانب التاريخ والخغرافيا وقدم في دراسته نماذج متعددة من التفسيرات العربية للزلازل والبراكين مثل: التفسير الديني وما

جاء في القرآن الكريم ضمن أشراط الساعة، ونذائر اليوم الأخير، قوله تعالى: {إذا زلزلت الأرض زلزالها  وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان ما لها يومئذ تحدث أخبارها }.(الزلزلة 1-4)

ومن ثم يدخل التفسير العلمي والديني لهذا الحدث الجيولوجي المدمر.. حيث دفع به عدد من العلماء المسلمين الأقدمين إلى خانة الآيات المنذرة، والعلامات المحذرة {وما نرسل بالآيات إلا تخويفًا} (الإسراء -59)، ولكن الثابت عند علماء المسلمين القدماء والمحدثين، أن ضحايا الزلازل شهداء، ومرتبة الشهادة لها مكانة عظيمة في الرؤية الإسلامية.

ففي التفسير العلمي للزلزال، الكهوف والمغارات والأهوية الموجودة في جوف الأرض والجبال، إذا لم تكن متوافرة منافذ تخرج منها المياه، تكون المياه محبوسة زمانا، سخنت تلك المياه وتحللت وصارت بخارا، وارتفعت وطلبت مكانا أوسع. ومن الممكن أن تنشق الأرض في موضع منها، وتخرج تلك الرياح مفاجأة، ويُسمع لها دوي وزلزلة. وعند ابن سينا، الزلزال يمكن تسميته بالضغط الجوي بسبب خروج الرياح المحتبسة أو بدخول الهواء في الأرض. وأكثر ما تكون الزلازل عند فقدان الرياح.. وفي أكثر الأوقات قد يتبع سكون الزلازل ريح تهب، لأن السبب ينفصل ويخرج إلى الخارج. وكثيرا ما يكون وقت الزلازل غمامات راكدة في الجو ويكون الجو ضبابيا.

من جهته يقول شيخ الإسلام ابن تيمية أن من أسباب الزلازل “انضغاط البخار في جوف الأرض، كما ينضغط الريح والماء في المكان الضيق، فإذا انضغط طلب مخرجا، فيشق ويزلزل ما قرب منه من الأرض. ويقول تلميذه ابن القيم “لما كانت الرياح تجول فيها (الأرض) وتدخل في تجاويفها، وتحدث فيها الأبخرة، وتخفق الرياح، ويتعذر عليها المنفذ.. أذِن الله سبحانه لها في الأحيان بالتنفس فتحدث فيها الزلازل العظام، فيحدث من ذلك لعباده الخوف والخشية والإنابة والإقلاع عن معاصيه والتضرع إليه والندم.

حفر الآبار وشق القنوات يقلل الزلازل

في علاقة ابن سينا والزلزال، لا يكتفي ابن سينا بتفسير ظاهرة الزلازل، بل يضع مقترحات لتقليل حدوث هذه الظاهرة. فقد اقترح ابن سيناء لتقليل مخاطر الزلازل في المناطق التي تشتهر فيها، أن الأراضي التي تكثر فيها الزلازل إذا كثر فيها حفر الآبار وشق القنوات، قلل ذلك من خطر رجفات الزلازل، لأن تلك الغازات المحتقنة، وجدت مسارب للخروج إلى ظاهر الأرض والتسرب في الهواء، وذلك وفق ما قدم ابن سينا في موسوعته العلمية الموسومة بالشفاء.