عرفت المذاهب الإسلامية مدونات فقهية فارقة تركت آثارها في الدرس المنهجي والعلمي والتدويني، وكانت متفاوتة في الترتيب والمنهجية والمحتوى، فمنها ما هو للدرس العالي، ومنها المتوسط، ومنها ما هو للمبتدئين، فعند الشافعية كتب الغزالي الثلاثة: البسيط، والوسيط، والوجيز، ومنها المختصرات المعتصرة كمتن أبي شجاع، وعند الحنفية القدوري، وأما المالكية فكانوا على هذا السنن في التدريس والتلقين، فمختصر خليل في الفقه المالكي للصف الأعلى، والرسالة لابن أبي زيد القيرواني للمتوسطين، في حين حاز متن ابن عاشر ” المرشد المعين على الضروري من علوم الدين” قصب السبق في الدرس المبتدئ، حيث جرت عادة الكتاتيب والمحاضر أن يكون هذا المتن الرجزي أول ما يأخذه طالب العلم بعد حفظ القرآن الكريم، أو أثناءه بعد تجاوز أحزاب منزورة أو كثيرة حسب البيداغوجيا المتبعة في بلدان الغرب الإسلامي وإفريقيا جنوب الصحراء.

من هو صاحب متن ابن عاشر في الفقه المالكي؟

 وصاحب هذا المتن الرجزي المبارك هو عبد الواحد بن عاشر الأنصاري نسبا، الأندلسي أصلا، الفاسي منشأ ودارا وقرارا. ولد بفاس سنة (990ه-1582م)، وكانت فاس إذ ذاك كعبة العلم وموئل علوم الشريعة، فهي الحاضنة لجامعة القرويين العريقة العتيقة التي أمدت غيرها بأساطين العلم والمعرفة، ويكفي العودة إلى الكتاب الماتع للمؤرخ البحاثة عبد الهادي التازي الموسوم ب”جامع القرويين المسجد والجامعة”، وهو في ثلاثة أجزاء، للوقوف على السخاء العلمي لهذه الجامعة الراسخة، والتي كانت مرفودة بعديد المدارس الفاسية مثل المدرسة العنانية،  مدرسة الصفارين، العطاريين، الشطارين، والأندلسيين.

أخذ ابن عاشر الأنصاري عن جلّة علماء العصر، فحصّل القراءات عن أبي العباس الكفيف، والحديث عن محمد الجنان، والفقه عن علي بن عمران وابن القاضي المكناسي، وبعدما استوى عوده طمحت نفسه للرحلة، فحج ورحل إلى المشرق، وورد مصر فاستجاز من سالم السنهوري، والمحدث أبي عبد الله العزي، والشيخ بركات الحطاب، وابن عزيز التجيبي، وبعد عودته شهابا واريا من العلم انتصب للتدريس والتعليم بمدارس فاس فتخرج عنه أفذاذ أمثال: أبو عبد الله ميارة (ت 1072ه)، وهو شارح رجزه الفقهي في شرحين مختصر ومطول، وأحمد الزموري (ت 1057ه)، والإمام عبد القادر الفاسي (ت 1091ه)، ومحمد الزوين (ت 1040ه)، والقاضي محمد بن سودة (ت 1076ه). وبعد عطاء كبير في التدريس والتآليف والمشاركة العلمية توفي ابن عاشر بفاس رحمه الله سنة (1040ه-1631م).

برز ابن عاشر في علوم كثيرة، حيث كان مشاركا في بعضها، ومبرزا أستاذا في الآخر، ومن أهم العلوم التي انتهت له الرئاسة فيها الفقه والقراءات، ففي الأخيرة ترك مدونة مهمة في الرسم والضبط القرآني، وهو شرحه على مورد الظمآن في علوم رسم القرآن، ومورد الظمآن منظومة من (608ب يت) للإمام الشريشي الخراز (ت 718ه)، وقد ذيله ابن عاشر بمنظومة مكملة هي “الإعلان بتكميل مورد الظمآن في كيفية رسم القرآن لغير نافع من بقية السبعة”.

ومن العلوم التي برز فيه ابن عاشر فقه المذهب المالكي، فله شرح على خليل لم يكتمل، وطرر على شرح التتائي على خليل، ومنظومة في النكاح وتوابعه، وأشهر ما تركه رجزه الفقهي”المرشد المعين على الضروري من علوم الدين”، كما شارك في علوم أخرى تبعا لموسوعيته الفائقة، فله كتب ورسائل في العقيدة والقضاء والفلك والحساب، منها: حاشية على العقيدة الكبرى للسنوسي، ورسالة في عمل الربع المجيب.

صورة مقال ابن عاشر الأنصاري ومتنه الفقهي المالكي
كتاب متن ابن عاشر الأنصاري

ما هي مميزات متن ابن عاشر الأنصاري الفقهي؟

امتاز هذا المتن الرجزي البالغ ثلاثمئة وأربعة عشر بيتا تيمنا بعدد الرسل الكرام بميزات أهلته لارتياد تلك المنزلة السامقة في الدرس الفقهي المبتدئ، ومنها خطته المنهجية التي جعلته مقسما إلى أجزاء مفيدة مترتبة حسب الأولويات الضرورية المطلوبة، وعنوانه دال على ذلك” المرشد المعين على الضروري من علوم الدين” وقد حوى المتن على الآتي:
  1. مقدمة منهجية للعقائد، واعتصر فيها مقدمات الإمام السنوسي في الأحكام العقلية.
  2. مقدمة مختصرة في العقائد الضرورية مبتدأة بأدلة وجود الله تعالى، وما يجب وما يجوز وما يستحيل عليه من الصفات والأفعال، وكذا الرسل عليهم الصلاة والسلام، وتابع فيها مهيع العقائد السنوية المختصرة.
  3. مقدمة معتصرة في أصول الفقه تناولت الأحكام التكليفية الخمسة.
  4. أبواب الطهارة وتناول فيها أحكام المياه والنجاسة، والطهارة الأصلية المائية والبدلية.
  5. أبواب الصلوات وأحكامها وشروطها، والسهو فيها، وصلاة الجمعة والسنن المؤكدة وغيرها.
  6. أبواب الزكاة، ثم الصوم، وأخيرا الحج بترتيب جميل لأحكامه ومناسكه.
  7. باب خاتم في التصوف والأخلاق والتزكية، لربط المسلم بميدان الإحسان.

اعتمد ابن عاشر في متنه المشهور من أقوال المالكية، وما استقرت عليه الفتوى لدى المغاربة والأندلسيين، والذين كانوا في الغالب يتبعون المدرسة المصرية التي أسسها عبد الرحمان بن القاسم،  والتي تقابلها في الغالب المدرسة العراقية، وكان متن خليل بن إسحاق الجندي قد حوى معظم أقوال هذه المدرسة التي هيمنت على الدرس الفقهي بعد ذلك، إذ كانت أغلب المدونات المالكية تدور في فلك خليل شرحا وتحشية وتقرير ونظما وتدليلا، وفي هذا المضمار يحسن بنا أن نستدعي شهادة الفقيه النابغة الغلاوي الشنقيطي صاحب البوطليحة:” تتبعت ألفاظ ابن عاشر كلها منذ خمسة عشر سنة وشرحته شرحين كبيرا وصغيرا، وطالعت جملة شروحه ولم أجد قولا ضعيفا يخالف المشهور إلا قولين، قوله في فرائض الوضوء سبع والمشهور أنها ثمانية، وقوله في نواقض الوضوء إلطاف مرأة والمشهور عدم النقض مطلقا.” 

ويمكن تلخيص ميزات هذا المتن الرجزي الذي يحفظه أكثر طلبة العلم بالغرب الإسلامي وإفريقيا في ميزات التيسير المنهجي والمعرفي، وكذا رسم الخارطة الكلية لفقه العبادات عند الطالب المبتدئ بما يسير عليه الولوج إلى المطولات، والتدريب الفقهي وتكوين الملكة الفقهية العلمية بالتطلع للأعلى، ومن ميزاته الرائقة فكرة التعليم البيداغوجي العام للعوام الذين لهم مسيس الحاجة بأحكام الفقه وخاصة الصلوات التي يواظبون عليها، والأهم من كل هذا أن متن ابن عاشر يمثل شرحا مصورا مجسدا لحديث جبريل عليه السلام في أقسام الدين الإسلامي الثلاثة وهي الإيمان والإسلام والإحسان.