تنتهج اليابان استراتيجيات تعليمية قوية تمنح الأجيال القدرة على الإبداع و الإسهام في عملية النهضة التي تشهدها البلاد في مختلف المجالات، وتسعي اليابان من خلال استراتيجيات التعليم المحكمة إلى الموازنة بين حاجيات السوق و عدد الخريجين من الجامعات والمعاهد اليابانية ، ولتحقيق هذه الأهداف يبدأ التركيز في سياسات التعليم على مختلف المراحل من المدرسة ثم التدرج حسب مراحل التعليم المختلفة ويتلقى الطلاب خلال هذه الفترة تكوينات و تدريبات ليس فقط في المنهج الدراسي المقرر بل في مجالات أخرى تشمل النشاطات الاجتماعية كالتطوع في عمليات الإنقاذ وعمليات مساعدة السكان في حالة الكوارث وغيرها.
من ضمن الاستراتيجيات التعليمية الجديدة في اليابان ما أطلق عليه : ”يوتوري كيوئيكو“ وهي استراتجية تعرف بـ “التعليم المريح” وتركز هذه الاستراتيجية الموجهة للتعليم الإبتدائي على منح الأطفال مرونة أكثر في التفكير الإستقلالي إضافة إلى تخفيض الحصص الدراسية وتبديلها بحصص أخرى في مجال خدمة المجتمع، وصممت السياسة الجديدة بما يدعم التفكير النقدي وحسن التمييز والتعبير عن الذات واكتساب المعارف والمهارات الأساسية.
سنحاول من خلال هذه المقالة تسليط الضوء على مميزات الاستراتيجية اليابانية للتعليم و مدى مساهمتها في تحقيق الأهداف التنموية وإنعكاسات نجاح هذه الاستراتجيات على الفرد الياباني.
المرونة في مراحل التعليم الأولى
مرحلة التعليم الابتدائي تتميز باهتمام كبير من الجهات المختصة بالتعليم في اليابان ، حيث تعتبر هذه المرحلة أهم المراحل وأكثرها دقة في بناء شخصية التلميذ و اكتشاف مميزاته و قدراته. في هذه المرحلة لا يخضع الطفل لأي إمتحان حتى يصل إلى المرحلة الرابعة (عشر سنوات) باستثناء اختبارات قليلة وسهلة.
ويعتبر اليابانيون أن السنوات الثلاثة الأولى من التعليم يجب أن تكون من أجل إختبار قدرات التلميذ المعرفية ، بل تكون سنوات تكوين للتلميذ والتركيزعلى زرع الأخلاق وحسن التعامل والإخلاص و العمل التطوعي وهي أمور ضرورية يجب على الطفل التزود بها ويجب أن تشكل جزءاً من شخصيته المستقبلية.
التربية والرعاية النفسية أيضا إحدى الركائز الأساسية في بناء شخصية التلميذ في اليابان حيث تحرص المؤسسات التعليمية على تطوير وبناء شخصية التلميذ بشكل يمنحه القدرة على الابداع وتحقيق طموحاته. السياسة المرنة التي يتعبها اليابانيون في المراحل الأولى من التعليم كان لها دور فعال ومهم في تشكيل وعي التلميذ و بناء شخصيته ليكون على قدر تحمل المسؤولية المستقبلية في المجتمع.
دور المناهج التعليمية
تلعب المناهج التعليمية دورا هاما في نجاح سياسات التعليم في اليابان ، حيث تصمم هذه المناهج بناء على معايير الجودة و الفعالية بحيث تمنح الطالب القدرة على الإبداع والابتكار من خلال التكثيف والتركيز على الخصائص المميزة لكل طالب ومحاولة تنميتها وتطويرها.
وقد انعكست قوة المناهج التعليمية اليابانية على قدرات الطلبة اليابانيين و تميزهم من خلال المسابقات الدولية والإقليمية التي يشاركون فيها.
ووفقا للتقرير الدولي The Program for International Student Assessment (PISA) وهو برنامج عالمي يهدف إلى تقييم المنظومة التعليمية وفعاليتها من خلال إطلاق مسابقات وإختبارات لقياس القدرات المعرفية للطلبة في سن 15 من مختلف دول العالم، حصل طلاب اليابان في سنة 2015 على المركز الثاني في العلوم الطبيعية و الخامس في الرياضيات ضمن 72 مشارك من مختلف دول العالم.
لا تنحصر نجاحات المنهجية التعليمية في اليابان في تحقيق المراكز المتقدمة في المسابقات الدولية في المواد العلمية فحسب بل انعكس هذا النجاح على مجالات أخرى أهم وأنفع للمجتمع الياباني منها تغطية السوق بجيل مميز قادر على تحقيق العديد من المزايا الاقتصادية للمؤسسات والشركات والمصانع والإدارات.
التعليم التكنولوجي
يعتبر التعليم التكنولوجي أحد أهم مجالات التعليم في اليابان حيث تسعى الحكومة اليابانية من خلال دعم هذا القطاع تحقيق التميز في مجال الصناعات التكنلوجية، ففي كل الولايات اليابانية البالغ عددها 47 يوجد مركز أو معهد خاص بالتعليم التكنلوجي حيث تقوم هذه المراكز بأدوار متعددة منها تأهيل الأساتذة وإعدادهم لتدريس المواد الخاص بالصناعات التكنلوجية ، كما تشكل هذه المعاهد مختبرات للطلبة للقيام بالتجارب العلمية الخاص بمشاريعهم البحثية.
ومن أجل رفع جاهزية هذه المراكز و زيادة فاعليتها قامت الحكومة اليابانية بتزويد هذه المراكز بكافة التسهيلات من أجهزة كمبيوتر و أجهرة المختبرات وغيرها من الوسائل الضرورية لعمل هذه المراكز، حققت اليابان من خلال التركيزعلى على التعليم التكنولوجي العديد من المميزات منها تربعها على عرش الصناعات التكنولوجية والالكترونية على المستوى العالمي وهو ما حقق لها منافع اقتصادية ضخمة من خلال شركات الصناعات التكنولوجية التى بدأت تغزوا العالم وتنافس عمالقة الصناعة الأمريكية والأوربية.
استراتيجيات التعليم هي المحرك الأساسي لأي نهضة اقتصادية ومجتمعية والتركيز على هذه الاستراتيجيات وتصميمها بشكل فعال ومميز هو الذي يخلق مجتمع عملي قادر على مواجهة تحديات النهوض والبناء ، اليابان من الدول التى يشكل التعليم فيها الحجر الأساس لعملية التنمية وتعتبر تجربتها في هذا المجال تجربة ملهمة لما فيها من مميزات وخصائص يمكن للدول الطامحة لتغيير وضعها الاستفادة منها ، وقد استفادت دول عديدة في شرق وجنوب شرق آسيا من التجربة اليابانية في التعليم وحققت هذه الدول تقدما كبيرا في تحقيق أهداف التنمية من تطوير المنظومة التعليمية.
خلال العام الجاري أعلنت الحكومة اليابانية عن ميزانية التعليم حيث تصل هذه الميزانية قيمة 4 تريليون ين ياباني أي ما يعادل قيمة 35.6 مليار دولار أمريكي وقد خفضت الحكومة هذا العام نفقاتها في القطاع العام بنسبة 10% من أجل تحقيق أهداف استراتيجية التعليم.