“لقد كان من الخطأ الكبير بالنسبة لي أن أحصل على درجة علمية في الأنثروبولوجيا، لأنني لا أستطيع تحمل الأشخاص البدائيين، فهم أغبياء للغاية” عبارة للكاتب الأمريكي الساخر “كيرت فونيغوت” Kurt Vonnegut ، ربما تلخص حقبة زمنية طويلة من رؤية الأنثروبولوجيا أو علم دراسة الإنسان، للمجتمعات غير الغربية.

منذ ظهور هذا العلم، اقترن بالظاهرة الاستعمارية الغربية، إذ كان الذراع الذي مكن الاستعمار من فهم المجتمعات قبل وأثناء إخضاعها، لذا وصفت الأنثروبولوجيا بأنها لا تتمتع بالبراءة أو الحيادية، كما أنها علم تتجسد في غايته وغالبية مناهجه وموضوعاته المركزية الغربية، التي جعلت الغرب معيارا حضاريا وإنسانيا، وأباحت له استغلال الآخرين وإخضاعهم.

يناقش العدد (26) من دورية “الاستغراب” ملفا بعنوان “الأنثروبولوجيا..النظر إلى الإنسان بعين النقص” ، فالأنثروبولوجيا تسللت إلى أغلب العلوم الإنسانية، كالفلسفة والاستشراق وعلم الاجتماع، ولعل ذلك يرجع إلى أن قضيتها هي الإنسان ذاته، والإنسان بماهيته وطبيعته، مازال مشكلة فلسفية ومعرفية كبيرة، أو كما قال أبو حيان الوحيدي” الإنسان قد أشكل عليه الإنسان“،  ولعل هذا الإشكال جعل الأنثروبولوجيا كعلم يجنح إلى العدمية والتشاؤمية، ولم يكن غريبا أن يشبه الفيلسوف “ألكسندر كوجيف” الإنسان بالليل، والعدم الفارغ الذي يحتوي كل شيء رغم خوائه.

هل الأنثروبولوجيا علم!

أشار الفيلسوف “يوهان شيلر” إلى مسألة إشكال الإنسان على نفسه إشكالا شاملا، وموضوع الأنثروبولوجيا هو الإنسان، الذي لم تُحدد ماهيته، ومازال غامضا، وهذا ينسحب على العلم الذي يُدرس ذلك الإنسان، فقد تعامل العقل الغربي مع الإنسان بوصفه ظاهرة مجهولة ومريبة، وربما هذا ما يُفسر نزوع العقل الغربي إلى المادية، وإنتاجه لمفاهيم لا ترى الإنسان إلا بوصفه كينونة مادية منزوعة من أبعادها الغيبية وآفاقها الروحانية.

والواقع أن هناك اختلافات واسعة ومتعارضة في تعريف الأنثروبولوجيا، وتحديد موضوعها وغايتها، فمثلا يعرفها معجم “لاروس الكبير ” Grand Larousse  بأنها “دراسة الإنسان باعتبارها جزءًا من السلسلة الحيوانيّة” ويلخص موضوعاتها، بأنها تعالج كلّ القضايا التي تعود إلى حاضر الإنسانيّة وماضيها، ومن ثم فهناك غموض في التعريف، ويرى آخرون أن الأنثروبولوجيا تتقاطع مع التحليل النفسي في قدرتيهما على “تفكيك” الإنسان، الذي لا تتوقّف العلوم الإنسانيّة عن تحليله تركيبه، لذا وصفا بأنهما “علوم مضادة”.

الإنسان ميزته الأساسية النطق والتعقل، ورأت الأنثروبولوجيا أن الإنسان كائن لا يعي ذاته إلا في إطار ماديته التاريخية، ولذا كان هناك إعراض عن الغيب والميتافيزيقيا، فاتجهت العقول نحو الطبيعة البشرية باعتبارها أرض الحقيقة الصلبة التي ينبغي رعايتها واعتماد سُننها الحاكمة، وهذا النزوع المادي يستمد جذوره من الإغريق، فالتأثر الحداثي الغربي بالإغريق حقن في الثقافة الغربية بالعنصرية والتعصب واستكراه الغير، وألقت الأساطير الإغريقية بظلالها في الفكر الغربي.

مركزية الفطرة ومركزية الغرب

تأسس العقل الحضاري الغربي على مركزية الإنسان، وانعكس ذلك في الأنثروبولوجيا التي تكاد أن تكون المحرك الجوهري لحضارة الغرب، فقد اهتمت الأنثروبولوجيا بدراسة الجماعات البشرية، ونشأتها ومعتقداتها، وربما هذا ما جعلها علما متحيزا في مناهجه وموضوعاته، حتى إن الفرنسي “جورج دولابوج” (المتوفى 1936) طور نوعا من الأنثروبولوجيا العنصرية ادعت التفوق العرقي للآريين الأوروبيين.

وقد شهدت أوروبا إبان الموجة الاستعماريّة وطغيانها، نوعًا من التضخّم في الذّات، أفضى إلى اعتبار التقدم والتّطوّر الذي وصل إليه الإنسان الأوروبيّ، يمثّل المسار الذي ينبغي أن تسير عليه الإنسانيّة، يشير الفيلسوف ” إيمانويل ليفيناس” أن “خطأ الإنسانيّة الغربيّة الأوّل أنّها جعلت الذّات دائمًا هي التي تحدّد الغير، ولم تنظر إلى الغير على أنّه هو الذي يحدّد الذّات”، لكن المشكلة الأكبر أن تلك الرؤية انتقلت إلى الحقل العلمي والأكاديمي، فأصبحت أصبحت المركزيّة الأوروبيّة تمثّل الأساس الأيديولوجيّ للعلوم الاجتماعيّة الحديثة، يقول المفكر الفرنسي “إيمانويل فالرشاين” :”كانت العلوم الاجتماعيّة مركزيّة أوروبيّة طيلة تاريخها المؤسّسيّ” أي منذ تأسيس أقسام خاصّة في المعاهد الجامعيّة لتدريس العلوم الاجتماعيّة، فالمركزيّة الأوروبيّة بغض النظر عن الزمان أو المكان أو الاشخاص ترى أنّ القيم والمؤسّسات الأوروبيّة متفوّقة على غيرها من غير الأوروبيّين.

لذا كان من الصعب النظر إلى علم الأنثروبولوجيا على أنه محايد، فرغم المحاولات الأوروبية لتخليصها من عنصريتها وعدم حيادها، لم تكن علما بريئا في السياق التاريخي للثقافة الغربية، فمنذ تأسيسها وصفت المجتمعات غير الغربية بـ”المتوحشة” و”البدائية” و”التقليدية” و”القديمة”، ولا تزال تتعامل مع العالم غير الغربي على أن أساس التصنيف البدائي، وهذا مشكل أخلاقي كبير، إذ أصبح الغرب هو المعيار للإنسانية، والتعبير الأرقى عن العالم، ولم يرى في الغير إلا تابعا أو مجالا للاستخدام، وهو ما أنتج نظريات الوصاية الغربية على بقية البشر، ومن معضلات علماء الأنثروبولوجيا أنهم لم يستطعيوا رفع التناقض بين الأنثروبولوجيا والاستعمار.

ومن المشكلات التأسيسية لعلم الأنثروبولوجيا، والتي أخذت في الظهور مع مستهل القرن الثاني عشر الميلادي، تقسيم الشخصية الإنسانية إلى بعدين معاكسين لا يستويان على صراط واحد، فكان الفصل بين المادة والروح، لذا صار الكثير من المسائل البديهية الواضحة تكاد تكون غير قابلة للإدراك، ومن أهم تلك المفاهيم “الفطرة” وهو منحة اختص به الإنسان عن سائر الموجودات، وبقدر ما تتصل الفطرة بالخالق سبحانه وتعالى، تتعمق صلتة الإنسان بالكون، لذلك يُطلق على الفطرة أنها “أم المعارف”.

قدمت نظرية التطور لـــ”شارلز داروين” الإنسان بوصفه امتدادا لمسار تطوري، أما القرآن الكريم فتحدث عن مسار مغاير في تطور خلق الإنسان من النطفة إلى العلقة إلى المضغة وصولا إلى الإنسان، كما تحدث القرآن عن مكون آخر للإنسان، وهو الروح، وأنها تدخل في صميم خِلقة الإنسان، بحيث لو تم تجاهل الروح فلن يبقى من تكريم الإنسان شيء، وربما تلك هي أحد الاختلافات الكبرى بين الرؤية القرآنية ونظرية التطور.

فالجانب الروحي تأسيسي لحظة خلق الإنسان، وليس نتاج تطور بيولوجي أو طبيعي، وتلك الروح هي التي يرتقي بها الإنسان على سائر الموجودات، والفطرة كلمة مفتاحية لفهم قضية خلق الإنسان وطبيعته، فهي تختلف عن الغريزة، التي تؤشر للمشترك مع الحيوان، أما الانسان فشيء آخر، أي “فطرة” مختلفة، فالإنسان منذ بداية وجوده، وهو مختلف عن الكائنات الأخرى، والفطرة هي التركيب الاتحادي الفريد بين النفس والبدن في الإنسان، وهو تركيب يؤشر لمسار تكاملي في الذات الانسانية، وهي رؤية غائبة عن الفكر المادي الذي يدرس الإنسان، وبالتالي فمن يفصل بين هذا التركيب التكاملي في الإنسان، فهو يعاند الفطرة التي خُلق عليها الإنسان، ويستحيل عليه الفهم الصحيح للطبيعة الإنسانية.

والحقيقة أن العلوم الإنسانية ومنها الأنثروبولوجيا لم تستوعب الفطرة كمفهوم تأسيسي في خلق الإنسان وفهم طبيعته، لذا انصرفت تلك العلوم إلى الجوانب المادية أو دراسة الغريزة وأغفلت الروح، وتجاهلت التكاملية المادية والروحية في تكوين الإنسان وخلقه، فالإنسان في الرؤية الإنسانوية لا يتمتع بكرامة خاصة، سوى أفضلية التطور حسب الرؤية الداروينية، بمعنى أنه تفوق على سائر الحيوانات الأخرى، أما في رؤية الفطرة فإن أهم حق للإنسان هو الحرية، وهو حق يرتكز في الرؤية الإسلامية على كرامة الإنسان وتكريمه منذ لحظة خلقه.