ليست هناك “ثقافة عالمية”، قد تكون هذه الجملة صادمة للحس ولكنها -عند التنقير- حقيقة لا ريب فيها، هي مصطلح ماكر وكذبة لذيذة –إذا جاز التجاور بين الكذب واللذة-، “الثقافة العالمية” أحد المصطلحات المؤسسة لمشروع الهيمنة الحضارية الغربية الذي ابتزته أمريكا خالصا لها من دون الأمم بعد ما أصبحت القطب الواحد، هي تعني في الحقيقة الثقافة الغربية، لكن الغرب ذاته أصبح يطلق على أمريكا وحدها، “لقد أصبح العالم كله شرقا وأمريكا وحدها هي الغرب” -كما يقول عبد الله الغذامي في كتابه السيدة أمريكا-، توسعت الهيمنة الثقافية الأمريكية لتصبح كلمة أمريكا هي المرادف اللساني لكلمة العالم، من هنا تكون (الثقافة العالمية=الثقافة الأمريكية)، سأعود لشرح الفكرة أكثر.

(ليست هناك ثقافة عالمية) كما يقول محمود شاكر في كتابه النفيس “رسالة في الطريق إلى ثقافتنا”، وقد بين الهدف من إطلاقها بين الناس والأمم “يتعلق بفرض سيطرة أمة غالبة على أمم مغلوبة، لتبقى تبعا لها، فالثقافات متعددة بتعدد الملل، ومتميزة بتميز الملل، ولكل أسلوب في التفكير والنظر والاستدلال منتزع من “الدين” الذي تدين به لا محالة”.

عرض محمود شاكر للنمط الطبيعي للعلاقات بين الثقافات المتباينة والأمم المختلفة “فالثقافات المتباينة تتحاور وتتناظر وتتناقش، ولكن لا تتداخل تداخلا يفضي إلى الامتزاج البتة، ولا يأخذ بعضها عن بعض شيئا، إلا بعد عرضه على أسلوبها في التفكير والنظر والاستدلال، فإن استجاب للأسلوب أخذته وعدلته وخلصته من الشوائب، وإن استعصى نبذته واطرحته”، ويفرق محمود شاكر في هذا السياق بين “الثقافة” و”العلوم البحتة” لأن لكل منهما طبيعة تختلف عن الآخر، “فالثقافة مقصورة على أمة واحدة تدين بدين واحد، والعلم مشاع بين خلق الله جميعا، يشتركون فيه اشتراكا واحدا مهما اختلفت الملل والعقائد”.

ليست هناك “ثقافة عالمية” لأنه ليس هناك دين واحد يعتنقه كل البشر (لا يناقض هذا عالمية الإسلام على مستوى المنهج والأهداف)، ولأن أي سلوك أو ثقافة بشرية تنبع من خلفية دينية ما، سماويا كان ذاك الدين أو وضعيا، استطعنا معرفة الجذور الميتافيزيقة لذلك السلوك أو عجزنا عنها.

تأسيسا على هذا يصبح تعميم السلوك الثقافي لأي حضارة يعني في المحصلة محو رؤية دينية وإحلال أخرى موضعها، لنأخذ مثلا (ثقافة العري) في الغرب، إن كثيرين منا يحسبونها إحدى قيم التحرر الآتية مع الثورة الفرنسية وما يطلق عليه في الغرب (عصر الأنوار)، مع أنها في الحقيقة امتداد لرؤية المسيحية المحرفة للباس، كيف ذلك؟

في نصوص الإنجيل المحرف أن العري هو الصورة المثلى للإنسان، يقول: “كَانَا كِلاَهُمَا عُرْيَانَيْنِ، آدَمُ وَامْرَأَتُهُ، وَهُمَا لاَ يَخْجَلاَنِ”، جاء اللباس إذن بعد الخطيئة وعقابا عليها –كما تصوره المسيحية المحرفة-، مما يعني أن البيئات ذات الجذور الثقافية المسيحية ترى أن الله أراد الإنسان على صورته العارية، الآن يمكن أن نفهم أكثر تلك العاطفة الغاضبة تجاه اللباس في الغرب وذلك النزوع الدفين نحو “التعري”.

الدين الإسلامي يقوم على سردية مناقضة تماما فيما يتعلق بوضع آدم وحواء في الجنة، حيث يقرر القرآن الكريم أن العري (انكشاف السوأة) كان عقابا لهما على الخطيئة “فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ”، ولأن هذه رؤية مناقضة تماما لما تراه المسيحية المحرَّفة يمكن أن نفهم تلك العاطفة الغاضبة وذلك النزوع الدفين نحو (الستر)، الذي يعكسه النقاش الواسع في الفقه الإسلامي حول الملابس أنماطا ومقاسات (ولم يناقش الفقه الإسلامي لباس المرأة فقط، بل ناقش ملابس الرجل وفي مبحث هل الركبة عورة أم لا دليل ذلك).

هل يمكن بعد ما أوضحته لك أن نتحدث عن ثقافة عالمية في الأزياء مثلا! لا، لا يصح ذلك، لأن فلسفة قيمة الزي محكومة بالرؤية الدينية والثقافية للمجتمع، وهي مختلفة بالضرورة من مجتمع لآخر.

لنأخذ مثالا آخر، ليكن موضوع المصافحة بين الأجانب (المقصود الأجنبي والأجنبية بالمفهوم الفقهي)، لن أناقشها هنا من زاوية شرعية بل من زاوية ثقافية، أي هي كسلوك ثقافي يعبر عن رؤية حضارية معينة، ليس قناعة بعدم رجحان القول بالمنع، ولكن تفاديا لإعادة الحديث حول مسألة قتلت بحثا وأصبح حكمها جليا على المستوى النظري لدى الطرفين.

إن النظر إلى المصافحة باعتبارها “ثقافة عالمية” مندرج تحت الإشكال الذي يناقشه هذا المقال، والذي يحاول تفكيك هذه المقولة الخادعة، التي تحاول إيهام أحاسيسنا وعقولنا أننا على خطإ حين نمارس فعلا ما مخالفا للذوق الغربي الذي يساق على أساس أنه (ذوق عالمي)، وذلك لأن أمة غالبة هي (الغرب=أمريكا) جعلت قيمها معيارا للصحة والخطإ ولأن أمة مغلوبة هي أمتنا الإسلامية اعتمدت (بدافع تخلف حضاري نتاجه تبعية ثقافية) هذا المعيار الجائر.

إن “المصافحة” ليست فطرة بشرية يناقضها الإحجام عنها، هذا أولا، وثانيا فإنها من الناحية الثقافية السلوكية هي أسلوب في إلقاء التحية مثل الإيماء بالرأس أو باليد أو بتشبيك اليدين على الصدر أو بتقبيل الأنف، ولكل مجتمع طريقته الخاصة في أداء التحية التي ترجع عند البحث إلى سرديات ميتفايزيقية، وليست واحدة منها أكثر تحضرا في عمومها من الأخرى، وإنما هي تعبير عن خصوصية ثقافية أو ذوق اجتماعي.

في هذا السياق الثقافي العام تندرج المصافحة، فليس الاعتذار عنها بمجاف للذوق ولا للمدنية، كما أن فعلها ليس علامة تحضر ولا تمدن (بالمفهوم العام للحضارة والمدنية وليس بالمفهوم الغربي لها الذي يجعلها مرادفة لقيمه هو ولسلوكه)، إنها مسألة ثقافية بالدرجة الأولى، لكن يمكن النظر إليها في السياق الحضاري الإسلامي نظرة أخرى؛ ذلك بأنها ليست من الثقافة الحضارية للإسلام ولا من الذوق الحضاري له، وهنا لابد أن نستحضر الفرق بين الحكم الشرعي بالمفهوم الفقهي الفني الذي يحكم بناء على قراءة في النصوص الشرعية وبين الثقافة الحضارية التي تؤخذ من مجموع التراث (القرآن، السنة، السير، التاريخ، الأدب إلخ)، حيث تمثل الأولى الموقف الصارم للشارع وتمثل الثانية الصورة الحضارية العامة للأمة.

يتأسس هذا الذوق الحضاري للإسلام في مجانبة مصافحة الأجانب على رؤية الإسلام لعلاقة الرجل والمرأة، المنطلق من ثنائية الاعتراف بالتجاذب الغريزي بينهما القائم على الإغراء وبالدور المشترك لهما في عمارة الأرض المقتضي للالتقاء والتعاون، والذي من حكمته أيضا بقاء النوع البشري، لكن بقاءه وفق نظام مفصل يليق بكرامة الإنسان (أحكام النكاح) وليس بطريقة فوضوية كما الحيوان، وفي هذا السياق كانت النصوص الضابطة المفصلة لتلك العلاقة أقل تشددا بناء على الحاجة القائمة للتعاون والتعاضد، بينما كانت النصوص الزاجرة العامة أقسى أسلوبا (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء) حتى يظل هناك توازن يضبط المسار، هذه الرؤية الشاملة التي تنبثق عنها جملة من المسلكيات والعادات والتقاليد داخل الفضاء الحضاري الإسلامي تناقضها الرؤية الغربية لعلاقة الرجل بالمرأة التي تتأسس هي الأخرى على سردية دينية وثقافية مغايرة.

ختاما، أقول إن جعل ثقافة الآخر معيارا للصحة والخطإ في الشرع أو في الذوق هو هزيمة حضارية ونفسية يقع فيها كثيرون، لأن ما نسميه أحيانا “ثقافة عالمية” هو كذبة بلقاء، لأن لكل حضارة ولكل مجتمع ثقافة تخصه، وسيكون الآخر أكثر احتراما لنا حينما يكتشف أننا نحترم انتماءنا الحضاري ولا نقبل الذوبان بدون وعي في حضارة أخرى، عكس ما يظنه كثيرون منا بأنهم يعطون صورة سيئة للإسلام حينما يظهرون بأزيائهم أو يتصرفون وفق سلوكهم الذي يعبر عن حضارتهم.