تعريف عمارة الأرض لغة: عُمر المنزل بأهله كان مسكونا بهم، فهو عامر، وعمَّر الأرض: بنى عليها وأهلها، واستعمره جعله يعمره، والعمارة نقيض الخراب، كما في الوسيط (1).

واصطلاحا: نسبة إلى التعمير والعمران، بمعنى استمرارية الوظيفة الإنسانية العامة للإنسان، الذي حمل الأمانة عندما استخلفه الله سبحانه وتعالى في الأرض كي يعمرها ويستخرج ما فيها بجهده وعمله، لتنعم بخيراتها الأجيال اللاحقة إلى أن يرث الله الأرض وما عليها يقول الله في كتابه العزيز { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} (سورة البقرة : 30) ، ويقول سبحانه {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها} (سورة هود : 61) كما يقول { ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم } ( سورة يونس : 14 )

ويتضح من هذه الآيات الكريمة كما ذهب الإمام ابن حزم الأندلسي أن حكم الإنسان وخلافته هما حكم من الله جلت قدرته الذي حكم وقضى بإستخلاف الإنسان في إقامة العمران، والنهوض بتكاليفه التي يعمر بها الكون؛ لتتحقق المصلحة الاجتماعية على الوجه المقرر شرعا { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } (الشورى:13)، وكان الدين بذلك سائدا للعمران، وبين الاثنين تقوم علاقة أشبه ما تكون بالعلاقة الجدلية في إطار الدين ترقى بالإنسان وبوضعه.

ويقدم الإسلام أروع صورة لعمارة الأرض في ظل ثقافة التوحيد لله والاستخلاف للإنسان، في داخل إطار المشروعية العليا الإسلامية، ألا وهي العدل المستمد من التوحيد فلقد شاءت إرادة الخالق عندما خلق الكون وسخره للإنسان { وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا } (الجاثية:13)، أن يحدد الطريق لإعمار الأرض ضمن إطار من الأحكام:

  • فهناك الأحكام المتعلقة بالضرورات وهذه ثابتة لا تتغير،
  • والأحكام المتعلقة بالحاجيات كرفع المشقة،
  • وبالتحسينات الملائمة للذوق، وهذه شديدة المرونة على حسب الأحوال،

وأرسى بذلك قواعد النظام الاجتماعي في المجتمع المسلم، ليكون هديا لبني الإنسان في كل مكان وزمان.

وليس من شك في أن عبادة الله هي الأصل والأساس إذ يقول سبحانه وتعالى {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (سورة الذاريات: 56). ولكن العبادة المقصودة بحكم النص القرآني أن الإنسان العابد لابد أن يكون عاملا منتجا، باعتبار أن العمل الجاد هو السبيل لإسعاد الفرد والجماعة، وفي هذا يقول سبحانه {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وأتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} (سورة الحج :41 )

كما يقول { وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين } (سورة القصص:77) ويقول {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا فى الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون} (سورة الجمعة :10).

وكما أن الدين دعوة للتراحم والمودة فإنه كذلك دين وسط يدعو للعمل والإنتاج، ليعمر الكون، ويعيش الإنسان في خير وسعادة عندما يعمر نور الإيمان قلبه، ويحصن نفسه ويهذب أخلاقه، فيحيا في عمله فالله سبحانه وتعالى يقول {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون} ( سورة التوبة: 105) ويقول {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا} ( سورة المائدة:87 )، وليس أبلغ من هذا موازنة بين المادة والروح وبين الدين والدنيا، فكما أن الالتزام العام بفروض الكفاية يؤدي إلى التضامن بين أبناء الأمة، كذلك فإن الإنسان بالعمل يكون قدوة للآخرين فقد روى أن رسول الله أنه قال: (ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده وأن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده) رواه البخاري (2).

فليس في الإسلام دعوة إلى الرهبنة أو نكران للمتع الحلال المباحة، وإنما هو دعوة صريحة للعمل الذي يتحقق به الإعمار الذي يعود بالخير على العالمين.