وردت كلمة الإحسان في القرآن الكريم وفي السنة المطهرة مرات عديدة، في آيات إما مؤكدة على محبة الله للمحسنين، كقوله تعالى { إن الله يحب المحسنين } (1) وقوله تعالى {والله يحب المحسنين } (2) العبارتان الواردتان في سورة البقرة وفي سورة آل عمران وفي سورة المائدة (3) ، أو مؤكدة على معية الله للمحسنين في قوله تعالى : { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } (4) أو على ثبوت الأجر لهم في قوله تعالى: { إن الله لا يضيع أجر المحسنين } (5) أو آمرة ومخبرة بأن البشرى للمحسنين في قوله تعالى { وبشر المحسنين} (6) وقوله { بشرى للمحسنين..} (7)
أما في سنة رسول الله، فقد وردت كلمة الإحسان في حديث رسول الله ﷺ ” إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه ” (8) ، وقوله ” إن الله كتب الاحسان على كل شيء “(9)، إضافة إلى ما جاء في حديث جبريل عليه السلام الوارد في صحيح مسلم الذي يفصل فيه الرسول الأكرم ﷺ مراتب الدين الثلاث : الإسلام والإيمان والإحسان، بحيث تنتقل علاقة العبد بربه تدريجيا من مسلم إلى مؤمن { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } (10)، ثم الى محسن ” تكون علاقته بربه إحسانية إن حافظ على ذكره لا يفتر عن مراقبته وخشيته ورجائه ودعائه ومناجاته، وبهذا الإحسان في عبادة ربه يطيب قلبه وتجمل أخلاقه وتصلح نواياه وأفعاله، فيكون للخلق رحمة يعم نفعه العالم الأقرب فالأقرب … نفعه للمجتمع وللناس كافة لايتوقف على حسن النية وجمال القصد والإسراع إلى الفعل فقط ، بل يتوقف أيضا ، وبالمكانة المؤكدة ، على خبرته ومهارته وقدرته على اتقان ما هو موكول إليه من أعمال “(11).
كان لأمير المومنين عمربن الخطاب رضي الله عنه فهما مستوعبا لما ينبغي أن تكون عليه شمولية التربية الايمانية الاحسانية وتوازنها، ومن مقتضيات هذا الفهم الموفق السديد رؤيته لضرورة توظيف مفهوم الاحسان بمعنييه الإتقاني الخدماتي والتربوي السلوكي الرباني في تدبير شؤون الدولة والحكم، لذلك أثناء توليه أمر الخلافة أتى بخيرة الصحابة من أهل التقوى والإحسان والخبرة من الأمصار، فجمعهم في عاصمة حكمه (المدينة المنورة)، وجعلهم أهل مشورته، لكنه في نفس الوقت ـ في حالات عجز الثقة وجلد الفاجرـ كان لا يرى مانعا من إعطاء الأسبقية في تكليف المحنك القادر بإدارة بعض مهام ووظائف الدولة التي تتطلب اختصاصا وخبرة، حتى ولو كان جلدا فاجرا، عوض تكليف التقي المسَبِّحِ العاجز الذي لا خبرة له في المجال، عملا بمشورة الصحابي الجليل، داهية العرب، المغيرة بن شعبة رضي الله عنه الذي قال له : «يا أمير المؤمنين! إن التقي الضعيف له تقواه وعليك ضَعفُه، وإن القويَّ الفاجرَ لك قوته وعليه فجوره “(12).
بهذا المنطق الإحساني الموفق وبهذا الفهم “الواقعي” السديد سير الخلفاء الراشدون الدولة، وبهذا الفهم الراشدي الراشد وجب أن تدبر أمور الحكم الإسلامي الراشد كما أسس له الرسول ﷺ، رحمة في القلوب و حكمة في العقول، وسار عليه الخلفاء الراشدون حديثو عهد بالنبوة، فمارسوه في حكمهم الذي يشكل النموذج البشري العملي الموفق لتنزيل مقتضيات شريعة الإسلام في دنيا الناس بعد النبوة، قبل الإنكسار التاريخي على أيدي الشخصيات المخربة في تاريخ الأمة من حملة السيف، وحملة الدواة ( 13)، في قرون العض والجبر، الذين على أيديهم ذهبت الخلافة والشورى والعدل، وذهب معهما الإحسان من سياسة الحاكم المستولي بالسيف فخفت تأثير التربية الإحسانية في حياة الناس، لما انزوى علماء التربية والسلوك إلى الهامش فرارا بأنفسهم وصفاء قلوبهم أن تظلم نورانيتها معاشرة الحاكم العاض وبذخه وتبذيره وسفاهته، رغم ما عرفته بعض الحقب التاريخية بين الفينة والأخرى من ظهور سلاطين عادلين في الأمة، شكلوا استثناءات مضيئة ضمن السياق التاريخي لظلمة ومنظومة الملك العاض (14) ، إلا أنهم رغم عدلهم لم يكونوا يمثلون نموذج الحكم الإسلامي الراشد، لغياب الشورى في توليهم للحكم، ووعدم قطعهم مع استمرارية بدعة الملك الوراثي باسم الدين، الذي انت الامة من مخلفاته وستظل، إلى أن يحقق الله وعد نبيه ﷺ وبشارته للأمة بمجيء الخلافة الثانية على منهاج النبوة، لتخليصها من إرث قرون الوصاية والتحجير الجبريين، متى تحقق العمل بشروط الأمر الشرعي و القدري الإلهيين طبعا ، فقد روى الإمام أحمد عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال :” تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت”(15).
لفظ الإحسان في القرآن الكريم وفي السنة المطهرة سواء في مجال الخلاص الفردي للإنسان وعلاقته بربه، الكادح اليه كدحا فملاقيه “16، أو في مجال واجب عمل المؤمن لتحقيق مشروع خلاص أمة الاسلام وتحقيق موعودها التاريخي ، جاء دالا على ثلاثة معان هي :
أولا : الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فان لم تكن تراه فانه يراك.
ثانيا : الإحسان إلى الناس كالوالدين والأقربين واليتامى والمساكين والمسلمين وسائر الخلق أجمعين .
ثالثا: إحسان العمل واتقانه سواء العمل العبادي أو العادي أو المعاملاتي .
مجموع هذه الدلالات الثلاث الواردة في القرآن وفي السنة يعطينا “مواصفات المومن الصالح في نفسه وخلقه وتعامله مع المجتمع كما يعطينا الوصف المرغوب لعلاقات العبد بربه وبالناس وبالأشياء”(17).
الإحسان إذن ليس مجرد معنى عام الدلالة بعموم المدلول اللغوي، بل هو رتبة عالية في الدين، يبلغها العبد إن وجد وليا مربيا يوقظ همته لطلب وجه الله، وينقله من حال الغفلة إلى حال الذكر ليحيي في قلبه ويسكن فيه هم مصيره عند مولاه، وشروط ترقي المِؤمن ليكون من المحسنين كما أجمع عليها علماء التربية أطباء القلوب هي صحبة أهل الله الدالين عليه، وذكر الله الكثير، والصدق في طلب وجه الله، ولمكانة هذه القضية في سلوك المومن وأهميتها اقتضى المقام أن يرسل الكريم الوهاب سبحانه أمين الوحي جبريل عليه السلام معلما سماويا مساعدا على صورة بشر، يجلس إلى رسول الله ﷺ أمام الصحابة، ليعلمهم ويعلم المسلمين من بعدهم درجات دينهم: بدءا بالإسلام ثم الإيمان، ثم الإحسان، في مشهد يتحاور فيه أمين الأرض مع أمين السماء، يراه الصحابة رضي الله عنهم و يسمعونه، يسأل عن مراتب الدين التي أعلاها الإحسان”، لب الدين وجوهره .
يحكي سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا المشهد المهيب فيقول : “بينما نحن عند رسول الله ﷺ ذات يوم، اذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس الى النبي ﷺ فأسند ركبتيه الى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه وقال: ” يامحمد أخبرني عن الإسلام” فقال رسول الله ﷺ ” الاسلام أن تشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت ان استطعت اليه سبيلا، قال “صدقت”، قال فعجبنا له يسأله ويصدقه ، قال : ” فأخبرني عن الإيمان”، قال ” أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله و واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره ، قال “صدقت “، فأخبرني عن الإحسان ” قال : “أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ” …. فأخبرني عن الإحسان قال الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك، قال: ثم انطلق مليا ، ثم قال لي ” يا عمر أتدري من السائل ؟” قلت : “الله ورسوله أعلم “،قال فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ” (18) .
وفي ختام هذا المشهد يجمل صاحب الرسالة محمد ﷺ دلالات ومغزى هذا الحدث الاستثنائي الفريد من نوعه في تاريخ الرسالة والوحي, ليعطي للمسلمين خلاصة هذا الحوار المتبادل بين ملك مرسل ونبي مرسل، فيقول النبي ﷺ : ” أتدرون من السائل؟ ” فيقول عمر رضي الله عنه: “الله ورسوله أعلم”، ثم يجيب رسول الله ﷺ ” إنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم “(19)، فماهو الدين يارسول الله؟ وماهو كماله وكمالاته؟
إنه الجواب عن الأسئلة الثلاث التي طرحها جبرل عليه السلام : ما الإسلام؟ ما الإيمان؟ ما الإحسان؟ لكل من هذه الأسئلة الثلاث جواب مختلف، مما يدل على أن الإسلام ليس هو الإيمان، ولا الإيمان هو الإحسان، كما يدل على أن الإحسان درجة فوقهما، لكنها لا تنال قفزا بل بناء عليهما وتأسيسا، لأنه لا إيمان بدون إسلام ولا إحسان بدون إيمان، إنها تربية تنتقل بالعبد من حال إلى حال ترتقي به يد القدر الإلهية إن سبقت له سابقة عناية ربانية فقيض الله له يدا حانية تربيه وتطهره وتزكيه ـ إن كان في القلب صدق طلب ومجاهدة ـ { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين } (20)، كما تربي وتطهر وتزكي الصحابة المحسنون في حضن الصحبة النبوية التي ارتقت بهم في سلم كمال مادون النبوة، في مدارج ومعارج السالكين بين منازل إياك نعبد واياك نستعين (21)، إنها طباع بشرية تهذب بالتربية، وعقبات تقتحم بصحبة الإخلاء العارفين بالله المسلكين، المأمورون شرعا بالبحث عنهم وصحبتهم إذ “المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل “(22)، و ” الطباع سراقة والصحبة مؤثرة في إصلاح الحال وإفساده .. و مجالسة الحريص ومخالطته تحرك الحرص ومجالسة الزاهد ومخاللته تزهد في الدنيا ;لأن الطباع مجبولة على التشبه والاقتداء بل الطبع يسرق من الطبع من حيث لايدري” ، كما يقول حجة الاسلام أبي حامد الغزالي رحمه الله (23) ، وقد حث القرآن الكريم على باب السلوك ووسيلته العظمى، صحبة العارفين بالله الموصلين إليه، وطلب اتباع الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصديفين ، والتتلمذ على أيديهم، قال الله تعالى { الرحمن فاسأل به خبيرا } (24).
اللهم ارزقنا خلة فيك تدلنا عليك، وارزقنا الأدب والصدق في الطلب، واجعلنا من المحسنين رحمة منك وفضلا وكرما، وارزقنا حبك وحب من أحبك وحب من يقربنا حبهم عندك، آمين .