يحرص الإسلام على نشر قيمة الجمال في المجتمع، ويحث الإنسان على الاستمتاع بالحياة والتجمل بأحسن الثياب، فالملابس الرثة ليست دليل تقوى وورع وزهد في الدنيا كما يفهم البعض، والاستمتاع بما في الكون من جمال يهيئ الإنسان لمزيد من العمل والإنتاج..ولذلك ليس صحيحا ما يعتقده بعض المتدينين من أن الأناقة والتجمل من مظاهر التفاخر والتباهي التي حذر منها الإسلام.
مما لا شك فيه أن الكثير من المؤرخين قد دونوا تراجمَ العلماء ومناقبَهم وأذواقهم، فذكروا لنا ما كان يفضله كبار الأئمة والفقهاء من الألبسة والألوان والمآكل والمشارب والأثاث والمراكب، ونقلوا مذاهب العلماء في “الأناقة” واختياراتهم في شتى المقتنيات المادية، بالدقة نفسها التي ذكروا بها أقوالهم في الدين والفقه والآداب.
من هنا ترفض شريعتنا وتدين سلوك هؤلاء الذين يهملون قيم النظافة والأناقة والجمال في ملابسهم وحياتهم الشخصية.. فهؤلاء بعيدون عن تعاليم وتوجيهات ديننا العظيم، والمؤمن الحق جميل المظهر، كما هو جميل الباطن، وتعاليم الإسلام تحث المسلم على أن يرتدي أنظف الثياب وأكثرها جمالا وجاذبية.. والله سبحانه وتعالى أمرنا في كتابه العزيز أن نتزين بأفضل صور الزينة، وأن نرتدي أفضل ثيابنا عندما نذهب إلى المساجد لنؤدي عبادة الصلاة فقال سبحانه:{يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين }( الأعراف- 31 )، ورفض الحق سبحانه سلوك هؤلاء المتنطعين الذين يحرمون الزينة والجمال فقال عز وجل: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق}(الأعراف- 32)... ورسول الله ﷺ – وهو القدوة والمثل – كان يعنى عناية بالغة بنظافة بدنه وثوبه ومكانه، وكان يهتم بحسن هيئته وطيب رائحته.
الجمال والطب النفسي
ويؤكد الطب النفسي ضرورة تربية أولادنا منذ الصغر على الاهتمام بأنفسهم، والحرص على اختيار ملابسهم بعناية، والظهور بمظهر طيب أمام أقرانهم، وليس في ذلك تربية على التكبر والتعالي على الآخرين كما يفهم البعض، فالتكبر والتعالي على الناس شيء، والحرص على ارتداء ملابس أنيقة والظهور بمظهر حسن شيء آخر.
ويؤكد الدكتور علي جمعة عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر ومفتي مصر السابق حرص الإسلام الشديد على جمال الإنسان مظهرا ومخبرا، ويرى أن “المسلم الفاهم جيدا لتعاليم دينه تراه جميلا، مهذب السلوك، راقي التعامل، أنيقا في ملابسه حتى ولو كان بسيط الحال”. ويضيف: “لا شك في أن الإسلام يشيع قيمة الجمال في المجتمع ويرفض سلوك هؤلاء الذين أنعم الله عليهم بالخير الوفير ولكنهم يهملون مظهرهم ويكتفون بأبسط الثياب، فإهمال المظهر والهيئة الحسنة ليس دليل زهد في الدنيا بقدر ما هو علامة إهمال وعدم اكتراث من الإنسان.. والاهتمام بالملبس والإنفاق عليه من دون إسراف من باب الاستمتاع بنعم الله ولا حرمة في ذلك”.
زهد هنا وإسراف هناك
كما يوضح الكثير من الشيوخ العلماء أن اهتمام الإسلام بالنظافة والجمال يرجع لحرصه الشديد على الارتقاء بسلوك الإنسان والإسهام في تحقيق حياة طيبة له.. ولذلك فإن جمال البيئة المحيطة بالإنسان مطلب شرعي لكي يسهم ذلك في توفير بيئة جيدة تنعكس على حياته وتضفي عليها مزيدا من البهجة والجمال.
لكن – للأسف- بعض المتدينين يرون الاهتمام بالثياب من باب التنعم غير المرغوب شرعا وهذا مفهوم خاطئ للتنعم بنعم الله، والاستمتاع بالطيبات، وهؤلاء الذين يهملون ثيابهم ويظهرون في صورة منفرة من باب الزهد في الدنيا نراهم ينفقون بشراهة على الطعام والشراب وتعدد الزوجات ويركبون أفخم السيارات ويقيمون في أضخم البيوت.. فلماذا زهد هنا وإسراف هناك؟
لذلك يرفض كثير من الدعاة سلوك هؤلاء الناس الذين أنعم الله عليهم بالخير الوفير ويهملون مظهرهم ويكتفون بأبسط الثياب، ويؤكد أن إهمال المظهر والهيئة الحسنة ليس دليل زهد في الدنيا بقدر ما هو علامة إهمال وعدم اكتراث من الإنسان.
هل اهتم الإسلام بزي المسلم؟
مما لا شك فيه أن الإسلام اهتم بأناقة المسلم، لكنه حث على ألا تقتصر على المظهر الخارجي للملبس فحسب، وإنما تمتد إلى أناقة النفس. وقيل إن الحسن البصري جذب يعقوب السبخي فأخذ بكسائه وقال له: يا فرقد، يا فريقد يا ابن أم فريقد، إن البر ليس في لبس هذا الكساء، إنما البر ما وقر في القلب وصدقه العمل.
وهذه ليست دعوة إلى التبذل والظهور بمظهر غير لائق طالما أن الإنسان قادر على ارتداء أحسن الثياب، فالإسلام يريد من المسلم أن يكون شامة بين الناس. قال ابن عبدالسلام الدمشقي: لا بأس بلباس شعار العلماء ليعرفوا بذلك فيسألوا، وقال العلماء: يكره لبس الثياب الخشنة لغير غرض شرعي.
وأناقة النفس وجمالها لا يكون بالإغراء والتصنع والوقوف ساعات أمام المرآة، وإنما بإضفاء الصيغة الإيمانية التي تعلو سماء الوجوه، وفرق بين الأناقة والتأنق، فالتأنق الزائف لا يؤدي إلى أناقة، لأنه صنعة زائفة ومبالغة ثقيلة وعلينا ألا نكون أسرى التأنق وأسرى بيوت الأزياء التي تطالعنا كل وقت بصرعاتها المجنونة وإقبال الناس عليها بشره يحير عقول العقلاء، فالإسلام حين أمرنا بالزينة والتجمل وحسن المنظر أراد منا ألا نخرج عن حد الاعتدال والواقعية حتى لا تضيع المال والوقت سدى كما يفعل بعض الرجال والنساء الذين عندهم وفرة من المال.
وجميل بالإنسان أن يستغل وقته فيما هو مفيد، فلا يضيعه في السفر إلى أرقى بيوت الأزياء لشراء أحدث ما أنتجته الموضة، فخير لباس المرء التقوى. قال تعالى: {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم وريشاً ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون} (الأعراف 26). إن بيوت الأزياء ليست هي التي تحدد لنا الأناقة، فالإسلام العظيم سبقها في ذلك، فقد حث المسلم على أن يتجمل ويرتدي أحسن ما عنده إذا خرج للصلاة أو إذا أراد أن يقابل أخاه.
أناقة العالم والفقيه
المتتبع للعالم الفقيه المغربي، سعيد الكملي – كمثال معاصر فقط – وعبر سلسلة دروس شرحه للموطأ، وكذا بعض المحاضرات، وبعض الخطب، يلمس بوضوح جملة من الملاحظات، التي ميّزته ضمن لفيف من العلماء والفقهاء، ولعلّ من هذه الملاحظات ..
حفظه العجيب والفريد، فهو يحفظ كل شيء عن ظهر قلب. اعتماده على بعض النكت، التي تضفي على الجالس والسامع، قدرا من الراحة، تمكنه من فهم الصعب من المسألة، والملاحظة الثالثة هي أناقة الفقيه سعيد الكملي الحاضرة دوما، من خلال اللباس المغربي التقليدي، الذي يحرص على تنويعه في كل حصة، وبما يناسب الفصول الأربعة.ولهذه الأسباب يبدو هذا الفقيه في جميع دروسه أنيقا. فهو ينوع في اللباس، ويحسن اختيار الألوان، وإذا أضفت لها العلم والفقه والحفظ والأدب، كان مميّزا في الصفات، وفريدا في الخصال.
إن التطرق للمظهر الخارجي للعالم أو الفقيه، يعبّر عن شخصيته وآفاقه. فالأناقة والبراعة في مزج الألوان، تدل على الانسجام في الأفكار، والتناسق في الداخل، وقد ظهر ذلك جليا في هذا العالم الفقيه المغربي. لكن هل ينطبق هذا الحال على العصر الحالي فقط أم إنه يمتد أيضا إلى بعض علماء الإسلام في التاريخ؟
أبوحنيفة..إمام عطِرُ وثوب ب5000دولار!!
يبدو أن ما جاء في آداب اللباس والتأنق والتمتع بعموم الطيبات في الإسلام عند هؤلاء الأئمة لم يخرج عن الروح العام للتشريع الإسلامي، الذي يرجّح أن الأصل في الأشياء الإباحة وأن الممنوعات استثناء، وهذا ما يلخصه القول المأثور عن الصحابي الجليل عبد الله بن عباس (ت 68هـ) الذي رواه ابن أبي شيبة (ت 235هـ) في ‘المصنَّف‘: “كُلْ ما شئتَ والْبَسْ ما شئتَ ما أخطأتْك خصلتان: سَرَفٌ ومَخِيلَةٌ (= خيلاء)”.
وهذا التوجه للأخذ بأسباب التزين والتأنق إنما يعكس عدة حقائق، في مقدمتها التوازن الكبير الذي أقامه الإسلام بين المادة والروح، والوقوف على أسباب الحياة والتعامل مع الأنصبة من سعة الرزق وضيقه بمنطق التحدث بالنعم وإظهارها، دون إسراف ولا مباهاة.
وهكذا، لم تكن رثاثة الملبس أو إهمال الاعتناء بالشكل والمسكن من الطقوس التي يحبّها الإسلام، وهو الذي دعا إلى الأخذ بالنصيب الدنيوي وفق ما قسَم الله تعالى، بعكس ديانات أخرى.
وقد جاء في “التفسير الكبير” للفخر الرازي (ت 606هـ) أن الزينة المأمور -في سورة الأعراف– باتخاذها عند المساجد تشمل “جميع أنواع الزينة، فيدخل تحت الزينة جميع أنواع التزيين، ويدخل تحتها تنظيف البدن من جميع الوجوه، ويدخل تحتها المركوب، ويدخل تحتها أيضا أنواع الحلي، لأن كل ذلك زينة. ولولا النص الوارد في تحريم الذهب والفضة والإبْريسَم (أجود الحرير) على الرجال لكان ذلك داخلا تحت هذا العموم”.
فماذا عن “أناقة” أئمة المذاهب الفقهية المتبوعة، وماذا عن بعض مظاهر تطبيقاتها لدى الصحابة والتابعين؟ فلئن كان غلب على الصحابة الزهد في الدنيا فإنه قد عُرف عن بعضهم اعتناءٌ بالأناقة، وأحصِيت أثواب بعضهم ولا سيما الخلفاء الراشدين.
ومن طريف اعتناء علماء الإسلام -في الصدر الأول- بالأناقة وحثهم عليها أنهم ربطوها بمقتضيات الرقي الإنساني المعبَّر عنه في عصرهم بـ”المروءة”، وقرنوها بزيادة الذكاء وطرد الهموم. ومن لطيف اهتمام مؤرخي الإسلام بالأناقة أنهم رصدوا بدقة تواريخ بدء استعمال بعض الأزياء وأول من سنّ “موضتها” في الجزيرة العربية والأمصار الإسلامية؛
وقد كان لأخبار أناقة الإمام أبي حنيفة (ت 150هـ) حضور مطَّرد في جُلّ الكتب التي سجلت مناقبه، ومن طريف اهتمام تلاميذته بنقل تفاصيل أناقته إخبارُهم عن عدد ملابسه وأسعارها، فقد نقل ابن البزاز الكردري (ت 827هـ) في “مناقب الإمام الأعظم”عن تلميذ أبي حنيفة القاضي أبي مطيع البلخي (ت 199هـ) أنه قال: “رأيتُ عليه (أبو حنيفة) يوم الجمعة قميصا ورداء قوّمتُهما بأربعة مئةٍ دراهمَ”، أي ما يعادل اليوم 500 دولار أميركي تقريبا.
وفي قصة طريفة تنقل لنا أجواء ذلك العصر وعلاقة علمائه فيما بينهم؛ يقول النضر بن محمد (ت 183هـ) وكان صديقا لأبي حنيفة: “قال لي [أبو حنيفة] وقد أراد الركوب: أعطني كساءك وخذ كسائي، ففعلت؛ فلما رجع قال لي: أخجلتني بغلظ كسائك! وكان بخمسة دنانير، ثم رأيت عليه كساء قوّمته بثلاثين دينارا (5000 دولار أميركي تقريبا)، وقُوّم رداؤه وقميصه بأربعمئة درهم..
تركة مالك..500 حذاء و100 عمامة
من جهته، الإمام مالك عُرف بتأنقه في الملبس والمسكن وكانت مقتنياته الثمينة غالبا ما تأتيه هدايا، واهتمَّ الآخذون عن مالك وزواره كثيرا بوصف أناقته وملابسه وطيبه ومتاع بيته ورأيه وذوقه في مختلف الألبسة وألوانها، مما يوحي بتبريزه في ذلك. فقد نقلوا أنه كان “جميل الوجه، نقي الثوب رقيقه، يكره أخلاق اللباس”، أي البالية منها. وكانت ثيابه في غاية النظافة فما رأى أحدهم “في ثوب مالك حِبراً قَطّ”، رغم أن طلابه يعدّون بالمئات.
ومن مظاهر أناقة مالك التي سجلها مترجمو سيرته أنه كان “يُكثر اختلاف اللبوس”، فكان “يغيّر ثيابه يوم الجمعة حتى نعله”، وقد نقل تلميذه بشر الحافي (ت 227هـ) ثمنا لأحد أثوابه، فقال: “دخلت على مالك فرأيت عليه طليساناً يساوي خمسمئة درهم، قد وقع جناحاه على عينيه أشبهَ شيء بالملوك! وكان يؤثر البياض و”يقول: أحب للقارئ أن يكون أبيض الثياب”.
ومن التفاصيل الدقيقة التي أتحفنا بها أصحاب مالك موقفه الرافض للكحل، وأنه كان “إذا اكتحل لضرورة جلس في بيته وكان يكرهه إلا لعلة”. أما العطر، فذكروا أنه كان “يستعمل الطِّيب الجيد: المسك وغيره”. كما نقلوا لنا خبر خاتمه ونقشه، فخاتم مالك “الذي مات وهو في يده فَصُّه حجرٌ أسود نقشه سطران فيهما: {حسبنا الله ونعم الوكيل}.
ولعل التركة التي خلّفها إمام المدينة تنبئنا عن مجمل مقتنياته وطبيعتها، وكانت في معظمها من هدايا الأمراء والتجار والأثرياء من إخوانه العلماء، فقد رحل “عن مئة عمامة فضلا عن سواها”، وكان “جميع ما في منزله -يوم مات رحمه الله تعالى- من منصات (الكراسي) وبرادع وبُسُط ومَخاد محشوّة بريش وغير ذلك، ينيف على خمسمئة دينار”. ولعلنا لا نستغرب عدد العمائم -وهي محورية في أناقة مالك- إذا علمنا أنه ترك وراءه عند وفاته “خمسمئة زوج من النعل”!.