قال تعالى: (وَإذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بَالَّذِى هُوَ خَيْرٌ) البقرة 61.

المقصود بالطعام الواحد هو المنّ والسلوى (انظر الآية 57 من سورة البقرة نفسها)، والمنّ ضرب من الحلوى، والسلوى لحم طائر. والمعنى: أتأخذون الذي هو أدنى، وتتركون الذي هو خير؟![1]، فالباء تلحق المتروك، والاستفهام في الآية يقصد به الإنكار عليهم والتعجب منهم، أي: هو استفهام إنكاري.

والمنّ والسلوى هما من مشمولات الموارد الحرة الطبيعية، والبقل وغيره مما ورد ذكره هو من قبيل الموارد الاقتصادية. والموارد الطبيعية هي التي تكون هبة من الخالق عزّ وجلّ، أي ليس فيها عمل إنساني ولا كلفه إنتاج، بخلاف الموارد الاقتصادية التي ينتجها الإنسان بسعيه واكتسابه، مع استفادته في إنتاجها من الموارد الطبيعية.

– قال الرازي (606هـ): المنّ والسلوى متيقّن الحصول، وما يطلبونه مشكوك الحصول، والتيقّن خير من المشكوك، أو أن هذا يحصل من غير كدّ ولا تعب، وذلك لا يحصل إلا مع الكدّ والتعب[2].

– وقال القرطبي (-671هـ):  ما أُعطوا من المنّ والسلوى لا كلفة فيه ولا تعب، والذي طلبوه من البقل والقثاء وغيره لا يجيء إلا بالحرث والزراعة والتعب[3]

– لقد وبّخهم الله سبحانه وتعالى على سوء اختيارهم، وعدم رشدهم، أو قله رشدهم[4].

ففي هذه الآية أمران اقتصاديان:

الأمر الأول: يتعلق بالموارد الحرة والموارد الاقتصادية.

والأمر الثاني: يتعلق بالرشاد (لأنه هنا يتعلق بالعمل)، كما في قوله تعالى: (سبيل الرشاد) غافر 29 و38.

فإذا اجتمع أمران: أحدهما نافع، والآخر أنفع (خير) منه، فيجب اختيار الأنفع، إذا لم يمكن الجمع بينهما، وإلا لم يكن الإنسان رشيدًا، أو كان قليل الرشد. ولهذا يجب اختيار أنفع المنفعتين، إذا تعارضتا ولم يمكن الجمع بينهما، واختيار أهون الشرّين، إذا لم يمكن اجتنابهما معًا[5]. وهذا ما يُعرف بمبدأ تعظيم المنافع، أي البحث عن أعظم منفعة، بافتراض بقاء الأشياء الأخرى على حالها، أي إذا استوى خياران في كل شيء إلا المنفعة، تم الأخذ بالخيار ذي المنفعة العظمى.

يقول ابن تيمية: إنّ الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإنها ترجح خير الخيرين، وشرّ الشرّين، وتحصّل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال (بارتكاب) أدناهما[6].

ألم يطلب منا سبحانه وتعالى أن نقول وأن نفعل الأحسن، ولم يكتفِ منا بالحسن فقط؟ قال تعالى: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَتِي هِيَ أَحْسَنُ) الإسراء 53، (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) الزمر 18، (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا) الأعراف 145، (وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) النحل 125.

إنّ (تعظيم المنافع) هو أهم ما يُعنى به علم الاقتصاد، والقرآن لا يتعارض معه في هذا الباب، بل يؤيده، على ألا تكون هذه المنافع دنيوية فحسب، بل دينية أيضًا، ولا خاصة فحسب، بل عامة كذلك، ولا قصيرة الأجل فقط، بل طويلة أيضًا، ولا هي من وضع البشر وحدهم، بل هي بمعونة الله ورسوله، أو بكلمة مختصرة أن تكون هذه المنافع الدنيوية والخاصة مؤيدة بالدين ومقيّدة به.

فإذا كانت هناك منفعتان دنيويتان، لا يمكن الجمع بينهما، وكانت إحداهما أنفع من الأخرى، أخذنا بالأنفع، وكذلك إذا كانت هناك منفعتان أخرويتان، أو منفعتان عامّتان، أو قصيرتان، أو طويلتان…إلخ، كل ذلك بشرط أن تستوي الأمور الأخرى، لكن إذا كانت هناك منفعتان متعارضتان، إحداهما عامة، والأخرى خاصة، قُدّمت العامة على الخاصة، أو منفعتان إحداهما أخروية والأخرى دنيوية، قُدّمت الأخروية، أو منفعتان إحداهما متعدية والأخرى قاصرة، قُدّمت المتعدية.

قال تعالى: (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) الأنعام 152، والإسراء 34، قال الماوردي (-450هـ): أموال اليتامى يجب أن تكون محفوظة الأصل، موفورة النماء[7] أي أن يكون نماؤها موفورًا أعظم ما يكون.

وقال الرازي (-660هـ):  يسعى في تنميته، وتحصيل الربح به، ورعاية وجوه الغِبْطة[8]. والغِبْطة مصطلح فقهي بمعنى: المنفعة القصوى.

وفهم الفقهاء من هذه الآية وجوب ترتيب الولاية على مال القاصر ترتيبًا يُقصد منه تعظيم مصالح القاصر، فالأب أولى بالولاية من غيره، قالوا: لحرصه على مصالح ابنه، ووفور شفقته عليه، واهتمامه بجلب أعظم ما يمكن من المصالح له، ودرء أقصى ما يمكن من المفاسد عنه. كما فهم الفقهاء من هذه الآية أيضًا وجوب الحرص على منافع اليتيم، بالسعي إلى أعظم ثمن ممكن، إذا بيع ماله مثلاً.

فقد تحدث الماوردي في باب تصرف الوصي بمال اليتيم، عن: الاجتهاد في توفير (تعظيم) الثمن حسب الإمكان، فإن باعه بثمن هو قادر على الزيادة فيه لم يجز (…)، لأن ترك الزيادة، مع القدرة عليها، عدول عن الحظّ (النفع العظيم) لليتيم[9].

كما أوجب الماوردي: أن يكون البيع عند انتهاء الثمن (أي وصوله إلى النهاية العظمى)، وكمال الربح، من غير أن يغلب على الظن حدوث زيادة فيه، لما في بيعه قبل كمال الربح من تفويت باقيه، فإن باعه مع غلبة الظن في حدوث الزيادة في ثمنه لم يجز، لعدم الحظ لليتيم في بيعه[10].

ولا يقتصر هذا على مال اليتيم، بل يمتد إلى مال الوقف، والمال العام، وإلى كل ولاية على مال الغير، كولاية الوكيل والمضارب، ولكن نص في القرآن على اليتيم لضعفه.

وأشير هنا إلى أن مصطلح (التعظيم)، في مجال تعظيم المنافع أو الأرباح أو الأجور…، لا حرج في استعظامه؟ قال تعالى: (وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا) الطلاق 5. ولا فرق بين (إعظام) من (أعظم) وبين (تعظيم) من (عظّم). ونحن المسلمين نقول في العزاء: عظّم الله أجركم. واستخدم هذا المصطلح ابنُ نجيم (- 970هـ) بمناسبة كلامه عن أسباب التملك، قال: الغاصب إذا فعل بالمغصوب شيئًا أزال به اسمه، وعظّم منافعه، مَلَكَه[11].

وقال ابن خلدون: (- 808هـ): اعلمْ أن التجارة محاولة الكسب بتنمية المال، بشراء السلع بالأرخص، وبيعها بالغلاء، أيًا ما كانت السلعة، من دقيق أو زرع أو حيوان أو قماش، وذلك القدر النامي يسمى ربحًا. فالمحاول لذلك الربح إما أن يختزن السلعة، ويتحيّن بها حوالة (تغيّر) الأسواق من الرخص إلى الغلاء، فيعظم ربحه، وإما بأن ينقله إلى بلد آخر، تنفق (تروج) فيه تلك السلعة أكثر من بلده الذي اشتراها فيه، فيعظم ربحه[12].

يقول العلماء: إن المقصد العام للتشريع الإسلامي هو جلب المصالح ودرء المفاسد[13]. وهذا يقتضي تعظيم المصالح إلى أعظم حد ممكن، وتدنية (تقليل) المفاسد إلى أدنى حد ممكن. وتدنية المفاسد إنما تعني قيدًا على تعظيم المصالح ضمن الحدود المباحة.

هذا نموذج واحد فقط من نماذج الإعجاز الاقتصادي للقرآن الكريم، نجد فيه أن القرآن قد سبق علم الاقتصاد الحديث بقرون طويلة، في مجال الرشد الاقتصادي وتعظيم المنافع والأرباح. وقد وجدنا أثر ذلك على علماء المسلمين الذين فسروا هذه الآيات، كل منهم بقدر علمه، مع ما قد يظهر من أن هذه الآيات يمكن أن يفهمها في الظاهر كل أحد.

فمن علّم النبي الأمي صلى الله عليه وسلم أصول علم الاقتصاد؟

عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: من أراد العلم فعليه بالقرآن، فإن فيه علم الأولين والآخرين. قال البيهقي: يعني أصول العلم[14] ، وبين الغزالي أن في القرآن مجامع علم الأولين والآخرين، ورموزًا ودلالات يختص أهل العلم بإدراكها، وأن في معاني القرآن متسعًا لأرباب الفهم[15].