لا شك أن مشاهد عديدة من حالات الإفلاس الحقيقي أو حياة المفلسين ستأتي تباعاً ليزدحم ذهنك بها ما أن تتحدث عن عالم الإفلاس ومن فيه، بمعنى أن الصور الذهنية للإفلاس عند كثيرين منا، يكون منشؤها من عالم المال والاقتصاد، بمعنى آخر؛ الإفلاس يكون غالباً في نطاق عالم المال والتجارة وما يرتبط بهما، وهذا صحيح دون شك، لكنه ليس دوماً.

المشاهد التي ترد إلى الذهن حين الحديث عن الإفلاس، تكاد تتشابه الفكرة حين نتحدث عن أمر آخر مثل الفقر، فلو طرحت عليك سؤالاً من قبيل: من هو الفقير؟ فإن إجابتك لن تختلف عن كثيرين ممن لو سألتهم هذا السؤال، حيث سيقول لك من فوره: الفقير هو من لا يملك المال. هذا تعريف صحيح أيضاً لا غبار عليه، لكن مع ذلك، نقول إنه ليس دوماً هذا هو التعريف الوحيد، فمن يتعمق ويتشعب في تعريف الفقر، سيدرك أن الفقر أو الإفلاس ليسا في قلة المال، بل لن يكون تعريفاً دقيقاً لهما. لماذا؟ لأن المفاهيم تغيرت، والمدارك توسعت، وصار تعريف مثل تلك الحالات دقيقاً أكثر، وبالتالي ليس التعريف المالي سوى واحد من تعريفات عدة.

فهل تتفق معي على ذلك؟

ألا تتفق معي أن الفقر كما يصيب الجيب أو الوضع المادي للفرد بشكل عام، يمكنه أن يصيب الروح أيضاً؟، ألا ترى أن الفقر يمكن أن يصيبك في مسألة بناء العلاقات، فتكون النتيجة قلة أصدقاء وأصحاب وقلة محبين؟، هل تخالفني لو قلت إن الفقر الحقيقي ربما يكون في فقدان الصحة والتمتع ببدن سليم معافى، أو فقدان الأمن والطمأنينة، سواء في بيتك أو عملك أو مجتمعك بشكل عام، أو تكون فقيراً في عدم الإقبال على الكتاب والقراءة والتعلم بشكل مستمر.. بل لم لا يكون الفقر الحقيقي الموجع متمثلاً في الابتعاد عن الله، وقلة الطاعات وكثرة المنكرات؟ القائمة طويلة.

إنه بالمثل يمكن الحديث عن الإفلاس، الذي أبدع في وصفه، سيدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين سأل صحابته الكرام ذات يوم – وهو يدري الإجابة – قائلاً: “ أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع؛ فقال: المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام، وزكاة؛ ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا؛ وضرب هذا؛ فيعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته؛ فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطُرحت عليه، ثم طُرح في النار”.

ذلكم هو الإفلاس الحقيقي، وليس أن تكون بلا مال. الإفلاس كما في الحديث هو أن تخوض مع الخائضين في أعراض الناس، تغتاب هذا، وتأفك ذاك، وربما تتعمق أكثر فتجد نفسك تبهت تلك، أي الحديث عنها بما ليس فيها من أوصاف أو سلوكيات، وهذا شر فعل قد يقودك شيطانك إلى ارتكابه.

في زحمة الأحاديث والمجالس ووسائل التواصل، تحلو الأحاديث التي تكثر فيها الغيبة و النميمة والإفك والبهتان، خاصة إن كانت تلك الأحاديث تدور حول أناس بينك وبينهم بغض أو خلاف أو عدم مودة، فتجد في نفسك نوعاً من الراحة النفسية وأنت تستمع إلى من ينتقدهم أو يغتابهم أو يبهتهم، هكذا تكون النفسية حين تكون الصلة بالله غير متماسكة قوية، وبالتالي يكون الإفلاس أكبر وأعمق.

الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – دعانا إلى ما يسمى بـ كفارة المجلس حين يكثر اللغط فيه، فقال عليه الصلاة والسلام: “من جلس في مجلس، فكثر فيه لغطُه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك؛ إلا غُفر له ما كان في مجلسه ذلك”.

واللغط كما فسره العلماء، هو ذلك الحديث الذي فيه من الهزل الشيء الكثير، أو ليست من ورائه فائدة تُرتجى، أو الذي ربما يحصل فيه مُؤاخذة، لكن لا يتعلّق به حقٌّ للغير. فإذا كنا مطالبين بـ الاستغفار من مثل هذه المجالس، فكيف الوضع بمجالس الغيبة والنميمة والإفك والبهتان؟، لا شك أن كفارة المجلس تلك، لا تخص مثل هذه المجالس. لماذا؟ لأنها تتعلق بحقوق الآخرين، الحقوق التي لا تُمحى هكذا بالاستغفار فقط، بل وجوب التحلل ممن تم التعرض لهم أو اغتيابهم، فالتوبة من تلك الأقوال، ثم يذكر من اغتابهم بخير في كل مجلس، فلعل كل ذلك يمنع من الإفلاس يوم القيامة.

حصائد الألسن

يقول الحسن البصري رحمه الله: “ذكرُ الغير بما يكره ثلاثة: الغِيبة، والبهتان، والإفك، وكلٌّ في كتاب الله عز وجل، فالغِيبة: أن تقول ما فيه، والبهتان: أن تقول ما ليس فيه، والإفك: أن تقول ما بلغك عنه”، لاحظ معي أن تلكم الأفعال الثلاثة من آفات اللسان ، و الأداة الرئيسية فيها هو اللسان، الذي إن لم يتم ضبطه وكبح جماحه، فهو يدفع بصاحبه إلى نهايات غير محمودة.. وهل يكبُ الناسَ في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم، كما قال الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام.

من هنا يأتي فضل قلة الكلام إلا لحاجة، والتوجيهات النبوية الكريمة في هذا الصدد عديدة ومتنوعة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت.. وقوله: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده.. وقول ثالث: ليس المسلم بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش. وغيرها من أقوال شريفة، فأين نحن من هذه الأقوال، ووسائل التواصل اليوم على سبيل المثال لا الحصر، تعج بالسب واللعن والطعن وكل فحش وبذيء كلام؟

مثل هذا الانفلات اللساني إن لم يردعه إيمان وخشية من الله، فلا شيء يردعه، ولعل ما يحصل الآن في تلك الوسائل، هو نتيجة واضحة لضعف الإيمان في القلوب، ومزيد ابتعاد عن صراط الله المستقيم، وهو في المجمل، أمر غير سار ولا محمود، وتنبيه الغافلين ها هنا، واجب كل داعية وكل حكيم وكل عاقل.