اقرأ أيضا:
ولذلك؛ يلحُ القرآن الكريم أشدَّ إلحاح على ضرورة إعْمال النَّظر العقلي، والتَّفكير والتذكُّر والتَّدبُّر، فلا تقرأ منه قليلا إلّا وتراه يَعْرض عليك الأكوانَ، ويأمرك بالنَّظر فيها واستخراج أسرارِها، واستجلاء حِكَم اتفاقها واختلافها. وضمن هذا السِّياق يقول الإمام، في معرض تفسيره للفظة “الأمر” في الآية الكريمة : {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّـهُ بِهِ أَن يُوصَلَ } الأمرُ نوعان: أمرُ تكوينٍ؛ وهو ما عليه الخلق من النِّظام والسُّنَن المحْكَمَة، وقد سمَّى اللَّه تعالى التَّكوينَ أمرًا بما عبَّر عنه بقوله: (كنْ). وأمرُ تشْريعٍ؛ وهو ما أوْحاه إلى أنبيائه وأمرَ النَّاس بالأخذ به. ومن النَّوع الأول : أمرُ التَّكوين، أو السُّنَن، ترتيبُ النَّتائج على المقدِّمات، ووصْلُ الأدلة بالمدْلولات، وإفضاءُ الأسباب إلى المسبِّبات، ومعرفةُ المنافع والمضارِّ بالغايات. فمنْ أنكر نبوة النَّبي بعدما قام الدَّليل على صدقه، أو أنكر سلطان اللَّه على عباده بعدما شهدتْ له بها آثارُه في خلْقِه، فقد قطع ما أمر اللَّه به أن يُوصل بمقتضى التَّكوين الفطري”.
ويقول الإمام محمد عبده أيضا في معرض تفسيره للآية الكريمة:{ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40] : “عَهْدُ اللَّه تعالى إليهم يُعْرَف من الكتاب الذي نزَّله إليهم، فقد عهد إليهم أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئا، وأن يُؤمنوا برُسله متى قامت الأدلة على صدقهم، وأن يخضعوا لأحكامه وشرائعه. ويدخلُ في عموم العهْد عهْدُ اللَّه الأكبر الذي أخذه على جميع البشر بمقتضى الفطرة؛ وهو التدبُّر والتَّروي، ووزن كلِّ شيءٍ بميزان العقل والنَّظر الصحيح؛ لا بميزان الهوى والغرور. ولو التفت بنو إسرائيل إلى هذا العهْد الإلهيِّ العام، أو إلى تلك العهود الخاصَّة المنصوصة في كتابهم، لآمنوا بالنَّبي ﷺ واتّبعوا النُّور الذي أُنزل معه وكانوا من المفلحين”.
يتحصَّل مما سبق، أنَّ حديث القرآن الكريم المتكرِّر عن أخبار الأمم السَّابقة ومصائرها يؤكِّد بما لا يدع مجالا للشكِّ أنَّ سُنَن اللَّه تعالى التي أوْدعها في الكون لا تتغيِّر أو تتبدَّل. فقد “علَّمنا اللَّه تعالى هذا بما قصَّ علينا من أخبار الأمم، وأنعم على أمتنا – التي لا تختصُّ بشعبٍ ولا جنس- بهذا القرآن الكريم، فكان لهم به نِعَمٌ لا تُحْصى من الكتاب والسُّنَّة؛ منها : أنَّهم كانوا مُسْتضعفين فمكَّن لهم في الأرض وأوْرثهم أرضَ الشُّعوب القوية وديارهم وجعل لهم السُّلطان عليهم. ومنها : أنَّه جعلهم أمَّة وسطا لا تفريط عندها ولا إفراط؛ ليكونوا شهداء على النَّاس الذي غلُّوا وأفرطوا، والذين قصَّروا وفرَّطوا. ثمَّ لما كفرتْ بأنعُم اللَّه أنزل بها ألوانا من البلاء والنِّقم … ثمَّ إنَّ الفتن لا تزال تحلُّ بديارها، وتُنْقِصُهَا من أطرافها، وسوطَ عذاب اللَّه يصبُّ عليها، وقد مرت عليها قرونٌ وهي لا تعْتبر بما مضى، ولا تتربَّى بما حضر؛ بل جهلت الماضي فحارتْ في الحاضر، لا تعْرف سببه ولا المخْرج منه! أليس من العجيب أنَّ الجمهور الأعظم من المشتغلين بالعلم منها هم أجهلها بتاريخها؟ … ويعتذرون بالقضاء والقدر عن معرفة الأسباب، ويكلون إلى القضاء والقدر النَّجاة منه، أو البقاء فيه؟!”.
ويعْرض الإمام محمَّد عبده لأوجه عناية أمَّة الإسلام بعلم التَّاريخ، وصولا إلى العلَّامة ابن خلدون، ثمَّ يقول : “فالتَّاريخ هو المرشد الأكبر للأمم العزيزة اليوم إلى ما هي فيه من سعةِ العُمْران، وعِزَّة السُّلطان.
وكان القرآن هو المرشد الأول للمسلمين إلى العناية بالتَّاريخ ومعرفة سنن اللَّه في الأمم منه. وكان الاعتقاد بوجوب حفظ السُّنَّة وسيرة السَّلف هو المرشد الثاني إلى ذلك. فلما صار الدِّين يُؤخَذُ من غير الكتاب والسُّنَّة أُهْمِلَ التَّاريخ، بل صار ممقوتا عند أكثر المشتغلبن بعلم الدِّين، فإن وُجد من يلتفت إليه فإنَّما يكون مُتَّبِعًا في ذلك سُنَّة قوْمٍ آخرين”.
المواد المنشورة في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي إسلام أون لاين