يعدُّ الإيمان بالقدر ركنا من أركان الإيمان التي يكتمل بها إيمان المسلم، فهو في المقام الأول أحد أركان الإيمان الستة الواردة في حديث جبريل المشهور، كما أنه من تمام توحيد الربوبية، وهو موجب لصدق الاعتماد على الله تعالى والتوكل عليه، وتفويض الأمور إليه، مع القيام بالأسباب الصحيحة النافعة، وأنه موجب لحصول الطمأنينة للإنسان في حياته كلها، خاصة عندما يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.

الإيمان بعلم الله عزَّ وجل المحيط بكل شيء من الموجودات والمعدومات والممكنات والمستحيلات، فعلم الله ما كان وما يكون ومالم يكن لو كان كيف يكون، وأنه علم ما الخلق عالمون قبل أن يخلقهم، وعلم أرزاقهم وآجالهم وأحوالهم وأعمالهم في جميع حركاتهم وسكناتهم وشقاوتهم وسعادتهم ومن هو منهم من أهل الجنة ومن هو منهم من أهل النار من قبل أن يخلقهم ومن قبل أن يخلق الجنة والنار، علم دق ذلك وجليله وكثيره وقليله وظاهره وباطنه وسره وعلانيته ومبدأه ومنتاه، كل ذلك بعلمه الذي هو صفته ومقتضى اسمه العليم الخبير عالم الغيب والشهادة علّام الغيوب.

أولا – الأدلة على مرتبة العلم من القرآن الكريم

1 ـ قوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي  الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ  فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 59 ].

ومفاتح الغيب فسرها رسول الله بأنها خمس لا يعلمها إلا الله وهي المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34 ] .

والآية دلت على أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ محيط علمه بجميع الموجودات بريها وبحريها وما تسقط من ورقة إلا يعلمها فهو يعلم حركة الجمادات، ومن باب أولى غيرها من الحيوانات وبني الإنسان المكلفين.

وقد أحاط علمه ـ سبحانه وتعالى ـ بكل حبة كائنة في ظلمات الأرض من الأمكنة المظلمة أو النبات الذي في بطن الأرض قبل أن يظهر .

2 ـ وقوله تعالى: { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } [الحشر: 22]، أي: السر والعلانية، أو الدنيا والآخرة، أو المعدوم والموجود.

3 ـ وقال تعالى: { لِتَعْلَمُوا أَنَّ  اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } [الطلاق: 12]، فلا يخرج عن علمه شيء منها كائناً ما كان ، فإحاطته سبحانه بكل شيء علماً يدل على ثبوت صفة العلم لله المتصف به أزلاً والشامل لكل شيء.

الآية دلت على أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ محيط علمه بجميع الموجودات بريها وبحريها وما تسقط من ورقة إلا يعلمها فهو يعلم حركة الجمادات، ومن باب أولى غيرها من الحيوانات وبني الإنسان المكلفين

4 ـ وقال تعالى: { إِنَّمَا  إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا } [طه: 98].

فبعد أن أحرق موسى ـ عليه السلام ـ العجل، ونسفه في البحر، فبطل أن يكون إلهاً كما زعموا، فلما فعل ذلك وتبين لهم بطلانه، أخبرهم بمن يستحق العبادة وهو الله سبحانه وتعالى، المتوحد بالألوهية، والذي قد أحاط علمه بجميع الأشياء.

5 ـ وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ  شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ  وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَتَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] . فعواقب الأمور لا يعلمها إلا الله.

6 ـ وقال تعالى: مجيباً الملائكة ـ بعد اخبارهم أنه جاعل في الأرض خليفة واستفهامهم ـ قال تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [البقرة: 30 ]، أي: أنه سيكون في تلك الخليقة أنبياء، ورسل، وقوم صالحون، وساكنو الجنة ، فعلمه محيط بكل شيء.

7 ـ وقال تعالى: {عَالِمِ الْغَيْبِ لَايَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ  ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ  وَلَا أَكْبَرُ} [سبأ: 3]. الجميع مندرج تحت علمه فلا يخفى عليه شيء، فالعظام وإن تلاشت وتفرقت وتمزقت فهو عالم أين ذهبت؟ وأين تفرقت؟ ثم يُعيدُهَا كما بدأها أوّل مرّة فإنه بكل شيء عليم .

8 ـ وقال تعالى: { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ  وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ  بِمَنِ اتَّقَى } [النجم: 32 ]. أي: هو بصير بكم عليم بأحوالكم وأفعالكم وأقوالكم التي ستصدر عنكم وتقع منكم، حين أنشأ أباكم آدم من الأرض، واستخرج ذريته من صُلبه أمثال الذّرّ، ثم قسمهم فريقين فريقاً للجنة وفريقاً للسعير، وكذا قوله{ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أمهاتكم } قد كتب الملك الذي يُوَكُّلُ به: رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد.

9 ـ وقال تعالى: { أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ } [العنكبوت: 10 ]. أي: أوليس الله بأعلم بما في قلوبهم وما تكنه ضمائرهم وإن أظهروا لكم الموافقة ؟

10 ـ وقال تعالى: { وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا } [الجن: 28].

ثانيا – الأدلة على مرتبة العلم من السنة النبوية

1 ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال: سئل النبي عن أولاد المشركين فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين.

2 ـ وعن أبي هريرة رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله : ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه، كما تنتجون البهيمة هل تجدون فيها من جدعاء، حتى تكونوا أنتم تجدعونها؟

قالوا: يا رسول: أفرأيت من يموت وهو صغير؟

قال: الله أعلم بما كانوا عاملين. والشاهد قوله: ” الله اعلم بما كانوا عاملين” بالنسبة لأولاد المشركين والمسلمين، ومعنى ذلك أنهم لو عاشوا فإن الله عالم بأعمالهم خيرها وشرها، فالله يعلم ما كان، ومالم يكن لو كان كيف يكون .

3 ـ وعن علي ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله ذات يوم جالساً، وفي يده عود ينكت به، فرفع رأسه فقال: ما منكم من نفس إلا وقد عُلم منزلها من الجنة والنار. قالوا: يا رسول الله، فلم نعمل؟ أفلا نتكل؟ قال: لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له ثم قرأ { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ *  فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } [الليل: 5 ـ 10].

والشاهد قوله:” ما منكم من نفس إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار”، فالله علم أهل الجنة وأهل النار بعلمه القديم، فالحديث يدل على ثبوت العلم الكامل لله تعالى.

4 ـ وعن عائشة أم المؤمنينأن نبي الله قال: اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، أهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاءإلى صراط مستقيم.

5 ـ وقال : بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، فاسم الله “العليم” يقتضي أنه سبحانه عالم بأرزاق العباد وآجالهم وأعمالهم وجميع

حركاتهم وسكناتهم والشقي منهم والسعيد قبل أن يخلقهم.

إنَّ علم الله السابق بالأشياء علم أزلي، والله سبحانه وتعالى عِلْمُهُ صفة ذاتية له، فما شاء الله عز وجل أو أراد أن يُوقِعَهُ في ملكوته، مُوَقَتاً بوقته، مُقَدَّراً بزمان وصفته، فإنه سبحانه وتعالى عَلِمَ ذلك على وجه التفصيل لكمال علمه وأنه سبحانه بكل شيء عليم، فهو علم سبحانه ويعلم ما يخلق، وما الخلق عاملون من قبل خلقهم، ومن بعد خلقهم إلى يوم القيامة وإلى أبد الآبدين، ويجب أن نؤمن بذلك كله إيماناً جازماً كما صرحت الآيات القرآنية وكذلك الأحاديث النبوية.

 

 


مراجع البحث

1 – د. علي محمد محمد الصّلابيّ، الإيمان بالقدر، دار ابن كثير، بيروت، ص (43: 46).

2 – البخاري، صحيح البخاري ، دار الفكر، دمشق، الطَّبعة الأولى، 1411هـ- 1991م، رقم 2660، رقم 2658.

3 – حافظ الحكمي، معارج القبول، دار ابن القيم، ط3، 1415 – 1995م، (1 / 920) .

4 – السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (تفسير السعدي)، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1420هـ -2000 م، (5/ 185) .

5 – صديق حسن خان القنوجي، فتح البيان في مقاصد القرآن ، المكتبة العصرية، بيروت، 1412 -1992م، (3/ 172) ،(9/ 474).

6 – عبد الرحمن بن صالح المحمود، القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة ومذاهب الناس فيه، دار الوطن، ط2، 1418 – 1997م، ص 56 – 57 – 58 -59.

7 – علي الكيلاني، المباحث العقدية المتعلقة بالأذكار، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة, 2007م، (2 / 880).

8 – محمد ناصر الدين الألباني، صحيح سنن ابن ماجة، مكتبة المعارف، 1417 – 1997م، (2 / 332) .

9 – مسلم، صحيح مسلم، تحقيق محمَّد فؤاد عبد الباقي، دار إِحياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان، الطَّبعة الثانية 1972م، ك الصلاة، رقم 770.

10 – مصطفى بن العدوي، صحيح تفسير ابن كثير، دار ابن رجب للطبع والنشر والتوزيع, 2006 (3/ 605) ، (4/ 318) ، (3/ 457) .