يحتل التاريخ مكانا متميزا بين حقول المعرفة الإنسانية، وقد قدرت نسبة مؤلفاته بما يوازي خمس الإصدارات العالمية من الكتب، ومع ذلك فما زال موضوع علم التاريخ -والكتابة التاريخية – وغايته ومناهجه ونظرياته ومذاهبه موضع جدل بين المؤرخين؛ يشهد بذلك التطورات المتلاحقة التي طرأت على علم التاريخ في القرنين الماضيين في دوائر البحث العالمية.

نشأة علم التاريخ الغربي وأهم مدارسه

كثر التأليف في الغرب حول علم التاريخ وموضوعه وتفسيراته منذ نهايات القرن الثامن عشر، ولم يكن التاريخ قبل ذلك سوى فرع ثانوي قليل الأهمية لا يعنى به سوى الرهبان وندماء الملوك، حيث كان هم الرهبان موجها إلى شؤون الدين وتواريخ باباوات الكنيسة وأخبارها، أما ندماء الملوك فكان همهم ذكر سير ملوكهم وما قاموا به من أعمال، وهكذا لم يكن هناك علم للتاريخ في أوروبا بالمعنى المتعارف عليه اليوم وإنما كان هناك ما يسمى بالمدونات، وعندما نشر فولتير كتابه الأول في التاريخ عام 1730 رأى الناس فيه لونا جديدا من الكتابة التاريخية لم يألفوه من قبل ومدحوه، فأغراه هذا بالتفكير في كتابة تاريخ للعالم، وهو ما دفع البعض لأن يعده المؤسس الفعلي لعلم التاريخ في الغرب رغم صعوبة القول أن فولتير كان مؤرخا.

ويرجع تعاظم الاهتمام بالتاريخ بصورة أساسية إلى قيام القوميات والدول الكبرى، فمؤسسو هذه الدول شعروا بالحاجة إلى صنع تاريخ  لها أو البحث عن روابط تؤلف بين مواطنيها وإيجاد مشترك معنوي بينهم، ومن هنا برز مؤرخين من أمثال “نيبوهر” و”دراكفه” و”بوركهارت” واهتمت الدول بتسيير عملهم، وافتتحت من أجلهم دور المحفوظات حتى يستطيعوا استخراج ما يستطيعون من حقائق الماضي[1]، وقد أثمر هذا بمضي الوقت وتعاقب العقود عن ظهور تيارات ومدارس متعددة في الدراسة التاريخية خلال القرن التاسع عشر ولعل أشهرها:

  • المدرسة المثالية: وخير من يمثلها الفيلسوف الألماني هيجل، وهو صاحب فلسفة للتاريخ تستند إلى أن الفكرة أو الروح هي قوام التاريخ وأساس كل ما هو موجود، وإلى جانب ذلك كان هيجل ثنائيا في نظرته إلى التاريخ حيث آمن بوجود عنصرين متمايزين يختلف كل منهما عن الآخر، هما الروحي والمادي اللذان يجتمعان في العقل المطلق، ولكنهما في تطور دائم “ديالكتيكي” ليصلا إلى العقل أو العلم المطلق الذي يعتبره مثالا يحتذى به، ولقد وفق هيجل إلى جعل الناس يضعونه في مصاف المؤرخين بفلسفته العميقة لكنه ما استطاع قط أن يفسر لنا من خلال هذه الفلسفة الوقائع التاريخية وكيف ولماذا تحدث، وتركنا عاجزون تماما أمام فهمها.

  • المدرسة المادية: حفزت مثالية هيجل وتعاليه على الواقع نفرا من المؤرخين إلى إعادة الاعتبار للمادة (الواقع) وإنكار أثر العوامل الروحية والفكرية في تسيير التاريخ، وقد تمثل هذه الأفكار نفر من المؤرخين الذين نظروا إلى التاريخ وكأنه فرع من فروع التاريخ الطبيعي حيث كانت مؤلفاتهم أكثر واقعية فتركوا الجانب الروحي وقصروا همهم على الجانب المادي ولذلك عرفوا باسم “الواحديين” تمييزا لهم عن المثاليين الذي آمنوا بثنائية المادة والروح. كما تمثلها الماركسيون الذين فطنوا إلى أن التاريخ لا يسيره العقل المطلق كما ذهب هيجل، ولا يصنعه الأبطال ببطولاتهم، وإنما تصنعه عملية تطور اجتماعي في كل أمة وصراع الطبقات من أجل السيطرة على وسائل الإنتاج والثروة، ولكنهم كانوا عرضة للنقد الذي يتلخص في غموض مفهوم التغيير الاقتصادي عند ماركس، واحجامه عن تقديم تفسير لما أسماه التفسير الاقتصادي للتاريخ في مؤلفاته[2].   

 اتجاهات الكتابة التاريخية المعاصرة

ومع تنوع المدارس اختلفت طرائق الكتابة واتجاهاتها، وتفاوتت مداخل الاهتمام والتركيز فبعضهم ارتأى أن  الأفراد أو الأبطال العباقرة هم من يصنعون التاريخ  وبعضهم آمن أن العوامل الاقتصادية هي التي تسير حركة التاريخ، وأخيرا ظهرت فكرة التأريخ للحضارات العالمية كأساس لكتابة التاريخ العالمي، وفيما يلي نقدم نماذج مختارة لهذه الاتجاهات.

  • تاريخ الأبطال : وهو اتجاه أصيل وقديم في الكتابة التاريخية يرى أن التاريخ صنيعة العظماء الذين ينبغي حفظ سيرهم وتقديمها للأجيال اللاحقة، وممن صنف فيه من المعاصرين توماس كارلايل في كتابه (الأبطال) والفكرة المركزية في الكتاب هي أن البشر غير متساوين لأن بعضهم له مواهب وقدرات عظيمة والبعض الآخر خلو منها، والتاريخ صنيعة هؤلاء العظماء الذين يطلق عليهم الأبطال، والبطل حسب رأيه ليس هو القائد العسكري المظفر بل قد يظهر في صورة إله عبده الأقدمون أو نبي أو مصلح اجتماعي أو شاعر أو كاتب أو حاكم، وهكذا وقع اختياره على أحد عشر بطلا تناولهم في كتابه كان بينهم النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو بطل على هيئة نبي، ومما ذكره في حديثه عنه أنه رغم ما يتردد من مزاعم باطلة من أنه لم يرد بقيامه سوى الشهرة الشخصية والجاه والسلطان، إلا أن فؤاده كان يضم أفكارا عظيمة من قبيل من أنا، وما هي طبيعة الكون الذي نحيا فيه، وما الحياة وما الموت.  وعلى الرغم من الانتقادات التي وجهت إلى كارلايل من إهماله دور البشر في صنع التاريخ،  وعدم إيمانه بالمساواة  الإنسانية إلا أن نظريته عن البطل ودوره في التاريخ تأثرت إلى حد بعيد بالمدرسة الألمانية في التاريخ، وخاصة أسماء فيتشه وهيجل وهردر[3].

  • تاريخ الحضارات: وهو اتجاه طغى على الكتابة التاريخية مع بدايات القرن العشرين، ويعد المؤرخ الألماني كارل لامبرخت من أوائل من فكروا في البحث عن تطور التاريخ عن طريق تحليل عدد من الحضارات وذلك في كتابه (منهج التاريخ الحضاري) الصادر عام 1900، واقتفى أثره مواطنه شبنجلر الذي بسط آراءه في كتابه (أفول الغرب) الذي صدر في جزئين خلال عامي 1918-1922، وقد درس خلاله سبع حضارات كل واحدة تتميز بطراز معين من الناس ما بين رجال دين أو عسكريين أو فلاسفة، وحاول أن يستكشف أسباب صعودها وسقوطها وانتهى إلى أنها مرت بعصور نمو ونضج ثم انحدار وهي في هذا تتشابه مع الكائنات الحية التي تمر بهذه الدورات الثلاث، ولما كان الغرب قد بلغ مرحلة النضج فلم يبق أمامه سوى الانهيار، ومن جملة من كتبوا في تاريخ الحضارات المؤرخ البريطاني الذائع الصيت توينبي في مصنفه (دراسة للتاريخ) الذي درس إحدى وعشرين حضارة من بين الحضارات العالمية كل على حدة، وظهر له أن الحضارات تواجه تحديات وأن بقاءها مرتهن بالاستجابة لهذه التحديات مثلها في ذلك مثل الكائن الحي سواء بسواء.

  • التاريخ من منظور العوامل الاقتصادية : وقد ساعد على ظهور هذا الاتجاه سيادة المدرسة المادية وانتشار الفكرة الماركسية، وهناك عدد كبير من المصنفات في هذا الباب استهلها كارل ماركس وفريدريك إنجلز وتبعهم آخرون مثل المؤرخ الأوكراني ليف برونشتاين في كتابه (تاريخ الثورة الروسية) وتومسون في كتابه (نشأة الطبقة الإنجليزية العاملة)[4]، والمؤرخ البلجيكي هنري بيرين الذي اعتنى بالناحية الاقتصادية لا بوصفها عامل محرك للتاريخ كما افترض ماركس، ولكن بوصفها جزء من الإطار العام للحقائق التاريخية.

الخلاصة أن علم التاريخ قد تطور في الغرب الأوروبي خلال القرنين الماضيين وأصبح علما قائما بذاته له مناهجه وتفسيراته ومذاهبه التي عبرت عنها الكتابات التاريخية المختلفة.


[1] شكري نجار، تطور فكرة التاريخ عند المؤرخين، بيروت: مجلة الفكر العربي، مج 4 ع 27، يونيو 1982.

[2] نفس المرجع السابق، ص 32-34.

[3] علي أدهم، الأبطال لتوماس كارلايل، القاهرة: تراث الإنسانية، مج 1 ع 1 ، 1966.

[4] Matt Perry, The Second Generation and the Philosophy and Writing of History, Palgrave, 2002, pp.70-88.