نتناول في عدة حلقات أشكال المواجهة الفكرية والحضارية فيما يتعلق بظاهرة الاستشراق ونتائجه وتداعياته الفكرية والثقافية على واقع الأمة، ونحاول الوقوف على “الوعي الحضاري” عند الأمة لهذه الظاهرة، والإسهامات النظرية والأبعاد التطبيقية في التعامل مع هذه، وموقع ومكانة هذا الوعي في خارطة الوعي الإسلامي العام بظاهرة الاستشراق.
ومنهجيتنا في هذا التناول تنقسم إلى قسمين، الأول: نهتم فيه بتحليل ظاهرة “الاستشراق”: مفهومًا، وأهدافًا وتاريخًا، ومجالات عمل، وجوانب تأثيرها في الواقع الإسلامي، والثاني نقوم فيه بتناول نماذج فكرية من الأمة لرصد وتتبع وتحليل “الوعي” بهذه الظاهرة”.
الاستشراق: مفهومًا
الاستشراق هو تلك الحركة البحثية التي أطلقها الغرب وجعل من الشرق وعقائده وعاداته وثقافته واجتماعه وأخلاقه موضوعًا لهذه الحركة البحثية، والناتج من هذه الحركة البحثية هو نتاج معرفي بالأساس ظهر في صورة دراسات وأبحاث ومؤتمرات وندوات ودوريات كلها تناولت موضوع “الشرق” تحديدًا “الشرق الإسلامي” بالدرس والبحث، وبأدوات بحثية غربية خالصة من ابتكار العقل الغربي وإيديولوجيته وتحيزاته الفكرية.
والاستشراق في اللغة العربية هو ترجمة لكلمة Orientalism في اللغة الإنجليزية. ويذهب معظم الباحثين المسلمين إلى تصنيف المستشرقين إلى نوعين رئيسيين ( من حيث الوجهة التحيزية):
النوع الأول: هم الفئة التي درست الإسلام دراسة هدفها النيل من المسلمين والحضارة الإسلامية، وكتاباتهم مملؤة بالحقد والتحامل على الإسلام والمسلمين.
والنوع الثاني: من المستشرقين هم الفئة التي توصف بالاعتدال.
الاستشراق: أهدافًا
يمكن تحديد أهم بواعث المستشرقين وأهدافهم من حركة الاستشراق فيما يلي: ([1])
1– العامل الديني: السبب المباشر الذي دعا الأوروبيين إلى الاستشراق هو سبب ديني في الدرجة الأولى : فقد تركت الحروب الصليبية في نفوس الأوروبيين آثارًا عميقة. وجاءت حركة الإصلاح الديني المسيحي فشعر المسيحيون: بروتستانت وكاثوليك. بحاجات ضاغطة لإعادة النظر في شروح كتابهم الدينية، فاتجهوا إلى الدراسات العربية الإسلامية، وبمرور الزمن اتسع نطاق الدراسات الاستشراقية ليشمل أديان ولغات وثقافات غير الإسلام وغير العربية.
2 – عامل التبشير: حيث التفتت مصلحة المبشرين مع الاستشراق فاقبلوا على الاستشراق ليتسنى لهم تجهيز الدعاة وإرسالهم إلى العالم الإسلامي.
3 – إضعاف الإسلام: لاسيما ما يتعلق بعمل المستشرقين اليهود فالظاهر أن هؤلاء أقبلوا على الدراسات الاستشراقية من أجل إضعاف الإسلام والتشكيك في قيمة بإثبات فضل اليهودية على الإسلام : بإدعاء أن اليهودية في نظرهم هي مصدر الإسلام الأولى، ولأسباب سياسية تتصل بخدمة اليهودية فكرة أولاً، ثم دول ثانيًا.
4 – خلق التخاذل الروحي: يهدف الاستشراق – أيضًا – إلى خلق التخاذل الروحي، وإيجاد الشعور بالنقص في نفوس المسلمين والشرقيين عامة، وحملهم على الرضا والخضوع للتوجيهات الغربية.
5 – الدافع الاستعماري: لما انتهت الحروب الصليبية بهزيمة الصليبيين وهي في ظاهرها حروب دينية وفي حقيقتها حروب استعمارية، لم ييأس الغربيون من العودة إلى احتلال بلاد العرب فبلاد الإسلام، فاتجهوا إلى دراسة هذه البلاد في كل شؤونها من عقيدة وعادات وأخلاق وثروات؛ ليتعرفوا إلى مواطن القوة فيها فيضعفوها، وإلى مواطن الضعف فيغتنموه، ولما تم لهم الاستيلاء العسكري والسيطرة السياسة كان من دوافع تشجيع الاستشراق إضعاف المقاومة الروحية والمعنوية في نفوسنا، وبث الوهن والارتباط في تفكيرنا وذلك عن طريق التشكيك بفائدة ما في أيدينا من تراث، وما عندنا من عقيدة وقيم إنسانية، فنفقد الثقة بأنفسنا، ونرتمي في أحضان الغرب نستجدي منه المقاييس الأخلاقية والمبادئ العقائدية، وبذلك يتم لهم ما يريدون من خضوعنا لحضارتهم وثقافتهم خضوعًا لا تقوم لنا من بعدة قائمة.
يرمى الاستشراق أيضًا إلى معاضدة الاستعمار في تفتيت وحدة الأمم والشعوب كما حدث في العالم الإسلامي حيث طرحوا نظرية وأفكار القوميات والوطنية “… أنظر إليهم كيف يشجعون في بلادنا القوميات التاريخية التي عفي عليها الزمن، واندثرت منذ حمل العرب رسالة الإسلام، فتوحدت لغتهم وعقيدتهم وبلادهم، وحملوا هذه الرسالة إلى العالم فأقاموا بينهم وبين الشعوب روابط إنسانية وتاريخية وثقافية ازدادوا بها قوة، وازدادت الشعوب بها رفعة وهداية، إنهم ما برحوا منذ نصف قرن يحاولون إحياء الفرعونية في مصر، والفينيقية في سوريا ولبنان وفلسطين، والآشورية في العراق وهكذا، ليتسنى لهم تشتيت شملنا كأمة واحدة، وليعرقوا قوة الاندفاع التحررية عن عملها في قوتنا وتحررنا وسيادتنا على أرضنا وثرواتنا ودعوتنا من جديد إلى قيادة ركب الحضارة، والتقائنا مع إخوتنا في العقدية والمثل العليا والتاريخ المشترك والمصالح المشتركة”.
الاستشراق: تاريخًا
وفيما يتعلق بتاريخ الاستشراق، يذكر البهي أن تاريخ الاستشراق يرجع في بعض البلدان الأوروبية إلى القرن الثالث عشر الميلادي. وربما كانت هناك محاولات فردية قبل ذلك ويكاد يجمع المؤرخون على أن الاستشراق انتشر في أوروبا بصفة جدية بعد فترة “عصر الإصلاح الديني” كما في هولاند والدانمارك وغيرهما([2]) وفي الغرب – كما يذكر إدوارد سعيد – يؤرخ لبدء وجود الاستشراق الرسمي بصدور قرار من مجمع فيينا الكنسي عام 1312م بتأسيس عدد من كراسي الأستاذية في اللغات : العربية، واليونانية، والعبرية، والسريانية في جامعات باريس وأكسفورد وبولونيا، وسلامنكا.([3])
ويرى مصطفى السباعي(4) أنه لا يُعرف بالضبط من هو أول غربي عني بالدراسات الشرقية ولا في أي وقت كان ذلك، ولكن المؤكد أن بعض الرهبان الغربيين قصدوا الأندلس في إبان عظمتها ومجدها، وتثقفوا في مدارسها، وترجموا القرآن والكتب العربية إلى لغاتهم، وتتلمذوا على علماء المسلمين في مختلف العلوم وبخاصة في الفلسفة والطب والرياضيات… ومن أوائل هؤلاء الرهبان، الراهب الفرنسي “جربرت” Jerbert الذي انتخب بابًا لكنيسة روما عام 999م بعد تعلمه في معاهد الأندلس وعودته إلى بلاده، “وبطرس ” 1092 – 1156 Pierrele Aenere “وجيرار دي كريمون” 1114 – 1187 Gerard de Gremone.
ويؤكد دور هؤلاء الرهبان الطليعي في التأسيس للاستشراق وفكرة الدرس الغربي للعرب والمسلمين” فبعد أن عاد هؤلاء الرهبان إلى بلادهم نشروا ثقافة العرب ومؤلفات أشهر علمائهم، ثم أسست المعاهد للدراسات العربية أمثال مدرسة “بادوي” العربية، وأخذت الأديرة والمدارس العربية تدرس مؤلفات العرب المترجمة إلى اللاتينية – وهي لغة العلم في جميع بلاد أوربا يومئذ – واستمرت الجامعات الغربية تعتمد على كتب العرب وتعتبرها المراجع الأصلية للدراسات قرابة ستة قرون”.
ولم ينقطع منذ ذلك الوقت وجود أفراد درسوا الإسلام واللغة العربية، وترجموا القرآن وبعض الكتب العربية العلمية والأدبية حتى جاء القرن الثامن عشر – وهو العصر الذي بدأ فيه الغرب في استعمار العالم الإسلامي والاستيلاء على ممتلكاته فإذا بعدد من علماء الغرب ينبغون في الاستشراق، ويصدرون لذلك المجلات في جميع الممالك الغربية، ويغيرون على المخطوطات العربية في البلاد العربية والإسلامية، فيشترونها من أصحابها الجهلة، أو يسرقونها من المكتبات العامة التي كانت في نهاية الفوضى، وينقلونها إلى بلادهم ومكتباتهم، وإذا بأعداد هائلة من نوادر المخطوطات العربية تنتقل إلى مكتبات أوربا، وقد بلغت في أوائل القرن التاسع عشر مائتين وخمسين ألف مجلدًا، وما زال هذا العدد يتزايد حتى اليوم.وفي الربع الأخير من القرن التاسع عشر عقد أول مؤتمر للمستشرقين في باريس عام 1873، وتتالي عقد المؤتمرات التي تتلقى فيها الدراسات عن الشرق وأديانه وحضاراته وما تزال تعقد حتى هذه الأيام.
وفي القرن الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين يأخذ الاستشراق منحنى مؤسسيًا جديدًا في حركته البحثية من خلال تأسيس الجمعيات الاستشراقية، وإصدار الدوريات، ونشر الكتب، وإقامة المؤتمرات. ومن وجود هذه المؤسسية في حركة الاستشراق المظاهر التالية: ([5])
1 – في عام 1787 أنشاء الفرنسيون جمعية للمستشرقين وألحقوا بها أخرى في عام 1820، وأصدروا “المجلة الأسيوية”.
2 – وفي لندن تألفت جمعية لتشجيع الدراسات الشرقية في عام 1823م. وأصدرت “مجلة الجمعية الأسيوية الملكية”.
3 – وفي عام 1842 أنشأ الأمريكيون جمعية ومجلة باسم “الجمعية الشرقية الأمريكية” وفي العام نفسه أصدر المستشرقون الألمان مجلة خاصة بهم، وكذلك فعل المستشرقون في كل من النمسا وإيطاليا والنمسا وروسيا.
4 – ومن المجلات التي أصدرها المستشرقون الأمريكيون في هذا القرن مجلة الدراسات الشرقية، وكانت تصدر في ولاية أوهايو، ولها فروع في كل من لندن وباريس وليبزج.
5 – ومن الدوريات التي لها طابع استشراقي سياسي أصدر المستشرقون الأمريكيون مجلة “شئون الشرق الأوسط” وكذلك مجلة الشرق الأوسط.
6 – ومن أخطر المجلات التي أصدرها المستشرقون الأمريكيون مجلة “العالم الإسلامي The Muslim World” أنشأها صموئيل زويمر في عام 1911 وتصدر من هارفورد بأمريكا.
7 – وللمستشرقين الفرنسيين مجلة شبيهة بمجلة العالم الإسلامي في إتجاهها العدائي التبشيري Le mon de Musulman
8 – أصدر – أيضًا- المستشرقون هو إصدار “دائرة المعارف الإسلامية” بعدة لغات، وكذلك إصدار موجز لها بنفس اللغات الحية التي صدرت بها. وتحمل تشويهًا متعمدًا لكثير من المناهج وأوجه التاريخ والعقيدة الإسلامية.
([1])انظر :
– محمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار، القاهرة، مكتبة وهبة، حـ131، 1997، ص430.
– مصطفى السباعي: الاستشراق والمستشرقون (ما لهم وما عليهم) , القاهرة, دار السلام للطباعة والنشر 1998, ص15 , وما بعدها.
([2]) محمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار, مرجع سابق، ص429..
([3]) إدوارد سعيد: الاستشراق: المعرفة، السلطة، الانتشار، ترجمة: كمال أبوديب، بيروت، مؤسسة الأبحاث العربية، ص80.
(4) انظر: مصطفى السباعي: الاستشراق والمستشرقون (ما لهم وما عليهم) , القاهرة, دار السلام للطباعة والنشر 1998.
([5])محمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار, مرجع سابق، ص432.