هل بات الدور الكبير الذي يقوم به الإنسان المعاصر في العالم هو الاستهلاك؟ وهل تحولت الحضارة المعاصرة إلى سوق واسع، تحكمه الأنظمة الانتاجية والاستهلاكية، و قانون الربح والخسارة؟ وهل الشره الاستهلاكي نتاج لأزمة وجودية من إنسان لا يعرف غايته، ولا إلى أين ينتهي مصيره؟
كان حكيم الصين القديم “كونفوشيوس” يقول:” السيد يفهم ما هو صحيح، والرجل الصغير يفهم الربح”، أصبح الإنسان صغيرا بعد أن تحكم فيه منطق الربح وتعظيم المكاسب، وبات كل من يوقظ حسه ووعيه للتساؤلات الوجودي مكروها منبوذا، لذا كانت الإعلانات الاستهلاكية ترفع شعار “لا تفكر..لا تُشغل عقلك”، لذا عادت النزعة الاستهلاكية كل ميل إلى القراءة وتنمية الوعي.
في بحثه “حضارة السوبر ماركت: الاستهلاكية المعادية للانسان”[1] يقدم الباحث والمترجم “عبد الرحمن أبو ذكري”، قراءة عن تأثير الاستهلاكية على الإنسان وقيمه، بعدما تحول الحضارة المعاصرة إلى الجانب الاستهلاكي، ويكفي أن نشير أن الولايات المتحدة، رغم أن عدد سكانها لايزيد عن 5% من سكان العالم فإنها تستهلك أكثر من 20% من الانتاج العالمي، إذ غابت معالم الحياة أمام هذا الاستهلاك، وأصبحنا أمام ما يمكن وصفه بـعصر السوبر ماركت Global Consumerism، إذ تسود نزعة لتقويم الأمور كلها بحسب قيمتها البيعية، في عصرٌ يُعيّنُ سعرًا لكُلِّ شيء، ولا يعرفُ قيمة لأي شيء.
لكل شيء سعر
تنامت النزعة الاستهلاكية بشكل مخيف في العالم المعاصر، فأصبح كل شيء قابل للتبادل والبيع، وكل شيء له قيمته السوقية، وبات الاستهلاك أقرب للوباء الذي أصاب البشرية، لكن وصول البشرية إلى تلك الحالة الخطرة من فقدان المعني، لم يأت بين عشية وضحاها، ولكنه كان نتاج عقود من التحفيز البشع على تنمية النزعة الاستهلاكية، وابتكار وسائل متنوعة لإرغام البشر، عبر الاقناع الموهوم، نحو الاستهلاك، ويتجلى ذلك في أن أكبر شركة من حيث قيمتها السوقية هي “وول مارت Wal-Mart التي تعد أكبر شركة تجزئة في العالم، بل أكبر شركة في تاريخ العالم، والتي تأسست عام 1969، ونمت نموا كبيرا منذ تأسيسها، والتي وصفها كتاب ” The Wal-Mart Effect ” لـ” تشارلز فيشمان” Charles Fishman بأنها “حقيقة من حقائق الحياة الحديثة”، وأن “قصة وول مارت هي قصة التحول في الاقتصاد الأمريكي خلال العقود الماضية”، غير أن شركة “وول مارت” أخذت بما تمتلكه من قوة في السعي لتغيير عادات الإنسان وأخلاقه، وتجلى ذلك في موقفها من الشواذ، ومحاولة الاستفادة من تفشي هذا المرض الأخلاقي المدمر للإنسان لتحقيق مكاسب اقتصادية بغض النظر عن الموقف الأخلاقي.
والحقيقة أن اعتبار الربح والمنفعة هي القيم الحاكمة لحركة الحياة له آثاره الكارثية على الإنسان، وأن فكرة “الخدمة الذاتية” Self-service والتي أصبحت سمة السوبر ماركت في أرجاء العالم، ما هي إلا تدعيم للشره الاستهلاك، لأنها فتحت شرها جديدا في أعماق الإنسان نفسه، وخلقت منه نفسا لا تشبع، إذ تشير الدراسات النفسية والتسويقية أن التعرض المباشر للسلعة له تأثيره المباشرة، إذ يحسم قرار الشراء في غالب الأحيان، حتى ولو لم يكن المستهلك في حاجة إلى تلك السلعة، وهذه النزعة حسب بعض الدراسات تشكل 70% من العائدات الضخمة للسوبر ماركت، لكن ذلك يتوقف على كيفية العرض، وطريقة إبراز السلعة، وخلق المحفزات لشرائها، وبذلك تنتفي الحاجة ويحل مكانها الرغبة في الشراء، لذا شغل الاستهلاك الحيز الحسي والنفسي للإنسان؛ وصارت الحواس، عند دخول السوبر ماركت، تشكل عبئا على الإمكانات الاقتصادية للشخص نفسه.
ثقافة السوبر ماركت
الطبقات محدودة الدخل يعتبر ولوجها للسوبر ماركت كارثيا، إذ تستبدل السلع التي تحتاج إليها من الغذاء الضروري نحو المنتجات الجديدة في عالم الموبايل أو مشروبات الطاقة، فظهر النمط اللاعقلاني في الاستهلاك، حتى إن بعض الفئات تستهلك البطاطس والعصائر المصنعة بشراهة رغم توافر الطازج منها بأسعار بسيطة.
والحقيقة أن الوضع الاجتماعي قد يغذي بعض الطبقات بمركبات من النقص قد تؤثر على أنماطها الاستهلاكية، وتدفعها نحو استهلاك سلع معينة، والاحجام عن سلع أخرى، فالهزيمة النفسية تفتح أبوابا للاستهلاك في النفس، وتغذيها بشهوة تقليد فئات اجتماعية بعينها.
ويلاحظ أن ثقافة السوبر ماركت تُعظم اللذة، فيخضع الشخص للذة وينقاد لمقتضيات الحصول عليها، فتغيب كل قيمة ومعنى للحياة، ويصبح تمركز الإنسان نحو الأشياء، وكما يقول “مالك بن نبي“:”إذا غابت الفكرة بزغ الوثن”، فالأوثان التي يوجدها عالم الاستهلاك يكون مستقرها في النفس، حتى وإن بدت معالمها على أرفف الأسواق.
ومن يتابع الأسواق الناشئة سيجد أن أغلبها متعلق بالرشاقة والحفاظ على الشباب والجاذبية والإثارة، ومع التوسع لتلك الأسواق يحتل جمال الشكل كل حيز لجمال للروح، ويصبح القوام أهم من القيمة، ونعومة البشرة أفضل من المعنى.
كان البائع أو (البقال) في السابق متغلغلا في النسيج الاجتماعي، ولا تخلو علاقاته الاجتماعية من الرحمة في بعض الحالات، كذلك كان البقال يسمح بتأجيل بعض مستحقاته لنهاية الشهر أو حتى مع موسم الحصاد في الريف، وهو ما حجم من الاستهلاك وقصره على الاحتياجات الضرورية، لكن في “السوبر ماركت” الإنسان يكون في مواجهة السلعة مباشرة، وعندما يمضي لدفع الثمن يكون أمام جهاز الكمبيوتر الذي يحسب الأسعار، فصارت العلاقة تعاقدية صارمة.
ثقافة السوبر ماركت لا تقف عند حيز المولات الضخمة، ولكن تتجول في جنبات المجتمع بأسره، لتعيد تفكيك المنظومة القيمية وتركيبها من جديد، بعد نزع الكوابح الأخلاقية للاستهلاك والاسراف وسيطرة اللذة على الحياة، ومن أهم الجوانب التي أصبحت مرتعا لثقافة السوبر ماركت، المجال الديمقراطي، الذي يعترف بنتائج التصويت بغض النظر عن كل قيمة أخلاقية أو دينية أو إنسانية في كثير من الأحيان، فمثلا تم إقرار حقوق للشواذ، بعد موافقة الأغلبية في بعض الدول الغربية، وعرفت تلك المجتمعات محاربة الاطلاقيات والثوابت، والمعيارية المتجاوزة للعالم الطبيعي والمادي، أو بمعنى أكثر وضوحا تم تنحية الغيب لصالح الخضوع لمنطق الأغلبية.
وساهم الإعلان في خلق وتشكيل النمط الاستهلاكي، وكانت فلسفة “الخدمة الذاتية” هي آلية تكريسه في النفس البشرية، ويقوم الإعلان بتغييب الوعي ليحرض على فعل الشراء والاستهلاك، لذلك تتكرر عبارة”لا تفكر” في الإعلانات الاستهلاكية، كما ربط الإعلانُ السلعةَ بقيمة إيجابية مثل: استهلاك السجائر لدعم الاقتصاد الوطني، وكثر اللجوء إلى المشاهير في الإعلانات لدفع الناس إلى الاستهلاك، وبذلك لعب الإعلان دورا محوريا باعتباره أداة قوية في إسقاط السمات الشخصية للإنسان، وتنميطه حتى يسهل التأثير في سلوكه، وصرنا أمام ما يمكن تسميته “القابلية للتنميط” أي ضعف المناعات الداخلية للفرد، بحيث يكون قابلا أن يوضع في القالب ويتم تنميطه، وهنا يفقد الإنسان خصوصيته وتميزه الفردي .
يؤدي التنميط إلى الجمود، فيصير النجاح محدودا في المجتمعات، بل قد يُحارب التجديد والنجاح من الممسكين بالأسواق، الذين حققوا مكاسب ضخمة من التنميط السلعي والخدمي، لذا فالتنميط ذو ضريبة مرتفعة على المستوى الاجتماعي والابداعي.
لجأت ثقافة “السوبر ماركت” إلى المرأة في عملية ترويج السلع، وكان مفتاح اللجوء هو الإثارة والاستخدام غير الأخلاقي، فتم التلاعب بالغرئز في العملية التسويقية، ومع تنامي الاعتماد على الصورة أصبحت المرأة وتعريتها أحد وسائل الترويج السلعي، فكان الجسد الأنثوي حاضرا في ثقافة السوبر ماركت.
وفي ظل هذه الروح المتنامية والساعية للربح أصبحت الشهرة والإنتاج غايات للإنسان، تُطلب لذاتها بغض النظر عن مردودها الاجتماعي والأخلاقي، وفي ظل هذا السعار الاستهلاكي يحتاج الإنسان المعاصر إلى الأخلاق التي تُلجم تلك النزعات، وترشدها، وتغذيها بالمعاني، وكما يقول “نعوم تشومسكي”: “هناك ضغط مستمر لجعل الناس يشعرون بأنهم عاجزون، وأن الدور الوحيد الذي يمكنهم القيام به هو التصديق على القرارات الاستهلاكية.”
[1] دراسة منشورة ضمن”سلسلة دراسات فكرية” صادرة عن مركز نماء للبحوث والدراسات، عام 2021 وتقع في (69) صفحة