“عند النوم، تعودُ أحاسيسُ الناسِ من الغربةِ إلى موطنها”[1] عندما يضع الإنسان، المتيقظة روحه، رأسه على الوسادة، تلح عليه الأفكار، وعلى قدر صمتها، يكون إزعاجها، فالإنسان المعاصر، يعيش حالة من الاغتراب، تلف كيانه، اغتراب ينغص عليه كثيرا من مضاهر البهجة في حياته، فالمادية الطاغية، جعلت الروح مغتربة، والحدود الفاصلة بين الدول، حولت الجنسية إلى أحد مفردات الاغتراب، وتعملق دور الآلات في الحياة، فصلت الإنسان عن الكون، وحجبته عن الطبيعة، كما أن تنامي تكنولوجيا الاتصال والرقمنة، جعلت البشر جزرا منعزلة؛ وإن كانوا تحت سقف واحد، ولم تجد كلمات الشاعر التركي”ناظم حكمت” لابنه من ينتصح بها، إذ يقول: ” لا تحيا على الأرض كمستأجر بيت، أو زائر ريف وسط الخضرة…ولتحيا على الأرض كما لو كان العالم بيت أبيك”.

اغتراب المُصلح

كان المفكر “علي شريعتي” يقول “إن كل من يوقظ الناس من سباتهم على امتداد التاريخ، هناك من يريد قطع رأسه”، الواقع قطعة من صخر، والفكرة طاقة متوهجة، وهنا يجد أصحاب الأفكار الكبيرة أنفسهم أمام خيارات صعبة، إما النجاة من المواجهة، من خلال الاغتراب، أو الاصطدام، ومن ثم فالاغتراب مراوغة، وحيلة عبقرية، لمن أرادوا ألا يطفئوا ذواتهم، أولئك الذين رفضوا أن يقهرهم الواقع، وهذا هو نهج كثير من المصلحين والمبدعين والأحرار.

وقد صاغ قانون ذلك الاغتراب، “ورقة بن نوفل“، عندما التقى بالنبي-- عند بدء نزول الوحي، فتحكي السيرة النبوية، أن النبي-- قص عليه ما رآه في غار حراء لحظة نزول الوحي أول مرة، فقال له ورقة ” هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك.

فقال رسول الله -- : أومخرجي هم؟

 قال: نعم. لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي”.

وفي حديث الإمام “مسلم” قال النبي –-:” إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء”، وهناك أحاديث متعددة تصف حال هؤلاء الغرباء، لكن كلها تشير إلى اختلاف هؤلاء الأشخاص عن غيرهم، لما يؤمنون به أو يدعون إليه أو يتميزون به من منهج ورؤية وصلاح، واستشهد شيخ الإسلام “إسماعيل الهروي” في كتابه “منازل السائرين” بقوله تعالى: “فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ” [2]، على الغربة، وأنها قديمة، وتكاد تكون لصيقة بالأشخاص الراغبين في الإصلاح، والذين يقومون بدورهم في توعية مجتمعاتهم.

ولكن لماذا ذاق هؤلاء المصلحون ألم الاغترب؟

كثير من الناس يستريحون لأوطان الجهل والذل والتقليد، ويعشقون الجمود، ومن يسعى لإخراجهم من تلك الأوطان الموهمة، التي تمنح يقينا كاذبا، فإن هؤلاء الغافلين يتطاولون عليهم بأساليب شتى، ويذيقون المصلحين طعم الغربة، سواء بالاخراج من أراضيهم، أو كبت روحهم الاصلاحية.

الاغتراب مدلول واسع، يعبر عن أزمات متعددة، ومعقدة، وهذا يدفعنا إلى القول، بأن اغتراب الطين يختلف عن اغتراب المعاني، وفي الفكر المسيحي، كان حجب الإنسان عن ربه من خلال واسطة رجال الدين أو الإكليروس هو اغتراب عميق، أبعد الإنسان عن السماء بقدر الحُجُب التي وضعها الإكيلروس، لذا كان المصلج ” جون كلفن” يرى أنه “لن يتحرر الانسان من اغترابه الروحي إلا إذا حطم عقدة الوساطة” ولعل هذه الفكرة، كانت إحدى الأسس التي قامت عليها حركة الاصلاح البروتستانتيني.

لكن الاغتراب مع بدايات التنوير والثورة الصناعية، واحتلال العلمنة لمساحات واسعة من حياة البشر، وسعي المادية لتكون مركز الإنسانية، نزل الاغتراب من السماء إلى الأرض، وسكن الدولة الحديثة، فصار  مرضا عضالا ودائما في جسدها وروحها.

كانت بداية ذلك الاغتراب مع تنازل الإنسان عن جزء كبير من حريته ، وسعى الفيلسوف الفرنسي “جان جاك روسو” للقول بأن هذه المقايضة جاءت من خلال عقد اجتماعي، تنازل فيه الإنسان عن جزء كبير من حقوقه الطبيعية، ونقلها إلى المجتمع ، فكان ذلك بداية لتأسيس الدولة الحديثة، التي ولدت  مسكونة بالاغتراب، فنثرت كثيرا من بذور الشقاء .

وكان الفيلسوف الألماني “هيجل” من أوائل من اهتم بظاهرة الاغتراب في كتابه  ” ظاهريات الروح” ، ثم جاء الفيلسوف “إيرك فروم” ليمنح الاغتراب صيتا واسعا، بعدما اعتبره مدخلا لفهم أزمات الإنسان المعاصر، وقال: “إن هذا الإنسان تُخلق له أوثان ويطلب منه أن يسجد لها، الخضوع للصنم هو جوهر الاغتراب”، وهو قول يتوافق مع ما ذهب إليه فيلسوف القوة “نيتشة” في تاثير الحداثة على الإنسان، بأن “الحداثة حررت الإنسان اقتصاديا وتقنيا، لكنها لم تمنحه القدرة على أن يحرر ذاته”.

بين العزلة والاغتـراب

كان “ابن القيم” في كتابه “مدارج السالكين” يؤكد أن الاغتراب أمر محمود، بل مستحب ومطلوب، لأن الاغتراب باعتباره حالة وجدانية عميقة للعابد، ستجعله يغترب عن الناس، ليمهد طريقا إلى ربه سبحانه، فكان يقول: “فإيّاك أن تستوحش من الاغتراب والتفرّد .. فإنّهُ والله عينُ العِزّة، الصادق كُلَّما وجدَ مسّ الاغترابِ، وذاقَ حلاوتَه، وتنسّم رُوحه؛ قال: اللّهم زِدني اغتراباً، ووحشةً مِنَ العالَم، وأُنساً بِك”، ومن ثم فالاغتراب هو ضرورة للوصول إلى الحقيقة والغاية، وأ يأنس المؤمن بربه، سبحانه، لذلك قيل للحارث المحاسبي:” ما علامة الأنس بالله؟ قال: التوحش من الخلق، قيل له: فما علامة التوحش من الخلق؟ قال: الفرار إلى مواطن الخلوات، والتفرد بعذوبة الذكر، فعلى قدر ما يدخل القلب من الأنس بذكر الله يخرج التوحش”، ومن هنا فالمؤمن اغترابه يكاد يكون محصورا في أمر واحد، وهو البعد عن خالقه، ولهذا كان “أبو بكر الكلاباذي” يصف حال الصوفية بأنهم ” هم قوم قد تركوا الدنيا فخرجوا عن الأوطان وهجروا الأخدان وساحوا في البلاد.

اغتراب المؤمن-إذن- هو اغتراب عن خالقه، سبحانه تعالى، لذا يقول الإمام الجنيد:”ما أطيب ساعات الألفة، وما أمر ساعات الفرقة والوحشة، لا أزال أحن إلى أول إرادتي وشدة حرصي، وركوبي الأهوال طمعا في الوصال، وفارحمتاه للمحب إذا قصد الديار فوجدها بلقع، فناشدها وقلبه من خلوها يتصدع”.

وكان بعض المتعبدين يرى أن المؤمن دائم الاغتراب، لأن وطنه لم يكن أرضيا، قبل نزول آدم من الجنة، فهناك حنين دائم للعودة إلى المكان الأول الذي عاش فيه آدم-عليه السلام-، يقول “جلال الدين الرومي”: “استمع إلى صوت الناي كيف يبث آلام الحنين يقول: مُذ قُطعت من الغاب وأنا أحنُ إلى أصلي”، الحنين إلى هناك يظل صفة تلازم المؤمنين، فهناك في الجنة، لا هـــم، ولا نصب، ولا ظلم ولا مرارات، فالإشراقات هناك أبدية، والانوار أزلية، والحاجات مكفية، ومن جعل وطنه الآخرة، سيعش في الدنيا اغترابا لا ينقطع.

في كتاب “تدبير المتوحد” لـ “ابن باجة الأندلسي” حديث عن نوع مختلف من الغربة في الرؤية الإسلامية، وهي “غربة العقل”، فتحدث “ابن باجة” عن النخبة المغتربة، والتي أسماها “النوابت”، معليا شأن العقل كسبيل للسعادة، يقول عن “النوابت”: “هم غرباء، وإن كانوا فى أوطانهم وبين أترابهم وجيرانهم، لأنهم سافروا بأفكارهم إلى مراتب أخرى صارت لهم أوطانا”، ولا شك أن النخبة قد تعيش نوعا من الاغتراب، عندما ترى أفكارها مهجورة، وربما تحارب، غير أن “ابن باجة” رأى أن الاغتراب مخرج لتلك الأزمة، وهو أن يرحل ذلك الإنسان بعقله عن ذلك الواقع البئيس.

وقد وصف “أبو حيان التوحيدي” مشاعر الغرباء، في صورة قلمية بديعة، تحرك القلب وتثير الوجدان، فقال: “وأغرب الغرباء من صار غريبا في وطنه… يا رحمتا للغريب طال سفره من غير قدوم، وطال بلاؤه من غير ذنب… نهارهُ لَهَفْ، وغداؤه حَزَنْ، وعشاؤه شَجَنْ، وآراؤه ظِنَنْ، وجميعه فِتَنْ، ومفرَقُهُ مِحَنْ، وسِرُّهُ عَلَنْ، وخوفه وَطَـنْ..أين أنت عن غريب لا سبيل له إلى الأوطان، ولا طاقة به على الاستيطان”.

العزلة كانت في بعض مراحل الفكر الإسلامي، نوعا من التعاطي مع الاغتراب، فرفضها البعض كسبيل للتربية، مثل المفسر”أحمد بن عجيبة” في كتابه “البحر المديد” ورآها حيلة الضعيف، فيقول: “العزلة عن الناس عزلة الضعفاء، العزلة بين الناس عزلة الأقوياء”، وكذلك “أبو سليمان الخطابي” الذي يقول:” الاستئناس بالناس من علامات الإفلاس ” و” الْعُزْلَةُ إِنَّمَا تَنْفَعُ الْعُلَمَاءَ الْعُقَلَاءَ وَهِيَ مِنْ أَضَرِّ شَيْءٍ عَلَى الْجُهَّالِ”، أما “ابن عطاء الله السكندري” فرآها سبيل لنقاء الروح فقال: ” ما نفَعَ القلب مثلُ عزلة يدخل بها ميدان فكرة”.

والحقيقة أن المؤمن كلما زادت معرفه، انحصرت غربته وهمه، حتى يصير هما وحدا، هو النجاة في الآخرة، والعودة إلى وطنه الذي جاء منه، وهو الجنة، لذا فرق “أبو العباس المرسي” بين الزاهد في الدنيا، والعارف بحقيقتها، فقال:”الزاهد جاء من الدنيا إلى الآخرة والعارف جاء من الآخرة إلى الدنيا، العارف لا دنيا له لأن دنياه لآخرته وآخرته لربه”، وكان “أبو اليزيد البسطامي” يقول:”العارف همه ما يأمله، والزاهد همه ما يأكله “، لذا كان بعض الصالحين لا يخشى الموت، بل يستبطئه، لأن الموت ينهي اغترابه، ويفتح له الأفق للخلود الدائم في الجنة، وكان “ذو النون المصري” يقول: “الشوق أعلى الدرجات، وأعلى المقامات، فإذا بلغها الإنسان استبطأ الموت شوقا إلى ربه”.


[1] مقولة لـ”جلال الدين الرومي”

[2] سورة هود: الآية 116