تمر تركيا منذ أسابيع بأزمة مالية، انعكست على سعر الليرة التركية أمام الدولار، فقد سجل سعر الليرة تراجعا بلغ قرابة 19% أمام الدولار، كان ذلك التراجع عقب قرار ترامب بزيادة التعريفة الجمركية علىى واردات الولايات المتحدة من الحديد والألومنيوم من تركيا، بحيث تصبح رسوم استيراد الألومنيوم 20% ، والصلب 50%.

تراوحت آراء المحللين لتراجع الليرة ففي الوقت الذي يرى بعضهم أن الأسباب سياسة بحتة، يرى آخرون أن الأسباب اقتصادية، ويتوسط الفريق الثالث عازيا الأسباب إلى السياسة والاقتصاد معًا.

جذور الأزمة

من أبرز من عزا الأزمة إلى الاقتصاد الدكتور سامي السويلم، معتبرا أن الأزمة تعود إلى سنة 2008 م.

فعقب الأزمة المالية العالمية عام ٢٠٠٨م انخفض سعر الفائدة على الدولار وعلى اليورو إلى قريب من الصفر، بسبب ضخامة السيولة ؛ وذلك لأن البنك المركزي الأوربي والاحتياطي الفيدرالي قاما بضخ تريلوينات الدولارات واليورو لإنقاذ المؤسسات المالية.

هربت هذه السيولة الضخمة من الأسواق الأوروبية والأمريكية متجهة إلى تركيا وغيرها من الأسواق الناشئة.

لم تتردد الشركات التركية في هذا الاقتراض المنخفض التكلفة.

الفيدرالي يرفع الفائدة

لكن هذا الانخفاض لم يدم طويلا،  فقد وجد الاحتياطي الفيدرالي أن معدلات التضخم في الغرب بدأت في الصعود، ولا بد من رفع نسبة الفائدة للسيطرة عليه. وكذلك الشأن في الفائدة على اليورو. وصاحب ذلك تباطؤ لنمو الاقتصاد التركي.

رفع أسعار الفائدة الأميركية يعني زيادة تكلفة الاقتراض لتركيا، ومن ثم تقييد وصولها الائتماني إلى الأموال الخارجية، وهو شيء يمكن له أن يتسبب وبنسبة معقولة في انهيار الاقتصاد التركي وبمتتالية سريعة، يكفي لذلك فقط تقييد الائتمان الخارجي وعرقلة الوصول إلى أسواق رأس المال الخارجية. وفي قلب تلك المشكلة توجد ديون الشركات وهي مصدر الخطر الأكبر، فعلى مدار العقد الماضي التهمت الشركات التركية غير المالية ديونا ضخمة بالعملات الأجنبية -وعلى رأسها الدولار- بمعدلات قياسية، معدلات احتلت بها تلك الشركات المرتبة الثانية لأكبر ديون شركات غير مالية في العالم بعد الشركات الصينية.

هذا الاقتراض بالليرة بدوره  أدى إلى زيادة تدهور قيمة الليرة أمام الدولار. ما أدى إلى أن غدت الوارادات أكثر كلفة على الشركات التركية.

وهذا ما اضطر هذه الشركات لمزيد من الاقتراض الذي يؤدي لمزيد من تدهور الليرة، وتنشأ بذلك حلقة مشؤومة (vicious circle).

وهنا وجدت الشركات التركية  نفسها بين فكي كماشة. فصارت تلجأ للبنوك التركية لكي تقترض لتمول عملياتها وتسدد ديونها بالدولار .

من الرمضاء إلى النار

الاقتراض بالفائدة  لا علاقة له  بنجاح المشروعات التي حصل الاقتراض لأجلها، فالفوائد تسجل وتستحق على القروض بمجرد الزمن ،  وإذا تعثر المقترض عن سداد الديون والفوائد، كان الإفلاس في انتظاره؛ لذلك يرى السويلم  أن عدداً كبيراً من الشركات التركية مهدد بالإفلاس، وهو ما ينذر بخسارة غير يسيرة في الوظائف وانخفاض كبير في أسعار الأصول.

ليس الدكتور سامي السويلم وحده هو الذي يعزو الأزمة إلى أسباب اقتصادية، فمن قبله نشر أشرف إبراهيم دراسة ذكر فيها  أن البنك المركزي التركي أعلن أواخر عام 2016، أعلن أن ديون الشركات التركية بالعملة الأجنبية بلغت نحو 210 مليار دولار، بينما بلغ معدل التدوير (rollover ratio) أكثر من 160%، وهذه النسبة معناها أن الشركات التركية غير قادرة على التوقف عن الاقتراض وإلا فإنها ستواجه الإفلاس، لأن معدل التدوير يعني أن كل 100 دولار مستحقة على تلك الشركات تم اقتراض 100 دولار أخرى لتمويل دفعها، بالإضافة إلى 60 دولارا أخرى إضافية عليها.

فالسبب الرئيس في تراجع الليرة أمام الدولار، هو الاقتراض الربوي الذي أقدمت عليه الشركات التركية في أعقاب 2008م، ولا زالت تدور في فلكه لسداد الديون والفوائد.

ومدللا على أن الأزمة اقتصادية بالأساس يذكر أشرف إبراهيم أن إدارة الأصول العالمية “جام” (GAM) السويسرية، والتي تدير أصولا قدرها 186 مليار دولار، استشعرت حدوث الأزمة ، فأعلنت عن تصفية محفظة استثماراتها وجميع أصولها في تركيا في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني عام 2017، مع توقعها بحدوث أزمة مالية في تركيا في أقرب وقت من بداية عام 2018 بسبب التضخم المرتفع والمرشح للزيادة بسبب ارتفاع أسعار الطاقة، وبسبب الارتفاع الكبير في الاقتراض الخارجي لبنوكها المحلية أيضا.

التمويل الإسلامي

وهنا يذكر السويلم أن التمويل الإسلامي هو الحل؛ لأنه لا يسمح بانفصال التمويل عن الاقتصاد، بل يربط بينهما.

فبهذا الربط لا يمكن للديون أن تصبح أضعاف الثروة؛ لأن نسبة الديون إلى الثروة الحقيقية في الاقتصاد الإسلامي محدودة.

فمبادئ التمويل الإسلامي تؤكد على ارتباط التمويل بالنشاط الاقتصادي، ومن ثم ارتباط الأصول بالالتزامات. هذا بدوره يضيق نطاق الخطيئة الأصلية إلى أبعد حد. بالإضافة إلى ذلك فإن اقتصاديات المشاركة تسمح للقطاع الخاص بالتكيف مع التغيرات الاقتصادية بطريقة سلسة ومرونة عالية، بخلاف الديون التي تجعل أي تخلف عن السداد سبباً للإفلاس.

أما الاقتراض بالربا،  فهو الذي يسمح بالفصل التام بين الأصول والالتزامات، ومن ثم يمثل أسهل طريق يؤدي إلى الاختلال بين أصول الشركة والتزاماتها الناتج عن الاقتراض قصير الأجل في حين أن المال يُستثمر في مشاريع عائدها طويل الأجل، وهو ما يمكن تسميته بالخطيئة الأصلية.