تتراءى للعين بشارات كثيرة من أقطار المسكونة بازدياد أعداد المهتدين والداخلين في دين الله أفوجا، من مشارق الأرض ومغاربها، ومن شمالها وجنوبها، فالإسلام هو أعلى الديانات انتشارا حسب الإحصاءات الأخيرة، ويكاد يفوق الكاثوليكية بعد أعوام بحول الله تعالى، وذلك وعد لن يتخلف كما قال تعالى: ﴿هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدّين كله ولو كره المشركون﴾ [الصف، 9]
وهو أيضا تصديق للصادق المصدوق القائل في الحديث: “ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر، إلا أدخله الله هذا الدّين بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزًّا يعز الله به الإسلام، وذلًّا يذل الله به الكفر”[أحمد، 19675].
وقد تحقق الوعد وزحف الإسلام على الأصقاع كلها، ولم تبق بقعة من الأرض ليس فيها مسجد يصدح بذكر الله تعالى، ويعلن التوحيد، ويبشر البشر بالخير والصلاح في الحال والفلاح في المآل.
إن حاجات المهتدين للإسلام كثيرة، وتنوء بحملها الأثقال، ولكنها تقصر أمام همم الدعاة الذين ندبوا أنفسهم لإنقاذ البشرية من ضلالات الشيطان وأحزابه، ومن تلك الحاجات ما يأتي:
1. الدعم النفسي : فما أثقل وما أصعب المبارحة لميراث الآباء والأجداد، وما أعسر الانفصال عن المحيط الحاضن، ولهذا عظُم أجر الصحابة السابقين الذين حازوا الرضوان لانسلاخهم عن الماضي المشين للجاهلية، وكذلك يكون أجر الكتابيين الذين آمنوا بمحمد ﷺ وتركوا باطل أحبارهم ورهبانهم الذين زخرفوا دينهم لقرون بركام من الأضاليل والشبهات والبراهين الرائقة في أعين أصحابها، ونقرأ في القرآن الكريم: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [القصص، 52-54]
وفي الحديث: “ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين، رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه، وأدرك النبي ﷺ فآمن به واتبعه وصدقه، فله أجران… [مسلم، كتاب الإيمان، 154]
وهذا الدعم النفسي والمتابعة والرعاية تتطلب بذل جهود مضنية من المربين والدعاة وعلماء النفس المسلمين في تتبّع سلاسل المهتدين، ومعرفة حاجاتهم المعرفية، وأشواقهم الروحية لمزيد الطمأنينة بهذه الولادة الجديدة.
2. الدعم العلمي في العقيدة: وهو الهم الأكبر المناط بالعلماء الذين يتوجب عليهم المتابعة الدائمة لما في الساحة من أطاريح المذاهب الفكرية والتيارات الفلسفية المهمينة، هذا فضلا عن تجديد النظر في الدرس الكلامي وعلم مقارنة الأديان، وعلم الاجتماع الديني، والاستعداد الطارئ والمتوثب للإجابة عن التحديات العقدية بأقوى البراهين، وأمضى الأسلحة الفكرية، إذا الشك والتساؤل ملازم للطبيعة البشرية، وفي الحديث نقرأ:”جاء ناس من أصحاب النبي ﷺ، فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان” [مسلم، كتاب الإيمان، 132]، وإذا كان هذا في حقّ الراسخين، فكيف يكون الأمر مع الجدد المهتدين، وهنا يحسن تصميم برامج ومواقع راصدة للشبهات والتحولات وبمختلف اللغات والمستويات الثقافية للوفاء بما سلف.
3. الدعم الفقهي العملي: وذلك بتيسير التدين، واختيار أولى الأقوال في التعبّدات العملية للأصقاع الأخرى في ديار الشرق والغرب، بما يرفع الحرج عن المهتدين الجدد إلى أن يصلُب عودهم، ويستوى سوقهم، وهو ما يفتح الباب للقول الدعوي بإمكانيات التدرج في تنفيذ الأحكام، والتنزّل معهم لحين زوال الموانع، والخروج من شرنقة الحواضن السابقة، والأمر ليس منكورا لا في السنة النبوية، ولا الفقه الإسلامي، فالنبي ﷺ ألزم الجميع بأصول الدين من أركان الإيمان ومعاقد الأخلاق، ولكنه فرق بينهم في الالتزام بفروع الدين، إذ راعى حالات المسلمين الجدد من الأعراب وغيرهم، فلم يلزمهم بما ألزم به الطليعة المؤمنة من السابقين من المهاجرين والأنصار، وفي الحديث: “أن رجلا أتى النبي ﷺ فأسلم على أنه لا يصلي إلا صلاتين، فقبل ذلك منه، وفي لفظ “على أن لا يصلي إلا صلاة فقبل منه[أحمد، 20287]
وفي حديث حكيم بن حزام: “بايعت رسول الله ﷺ أن لا أخر إلا قائما”[النسائي، كتاب الصلاة، 1084].
والأكثر من ذلك أن النبي ﷺ تألف قبيلة ثقيف وهم آخر القبائل إسلاما عندما لم يلزمهم بالجهاد والصدقة، ففي حديث وهب قال: سألت جابرا عن شأن ثقيف إذ بايعت، فقال اشترطت على النبي ﷺ أن لا صدقة عليها ولا جهاد، وأنه سمع النبي ﷺ بعد ذلك يقول: سيتصدقون ويجاهدون” [أبو داوود، كتاب الخراج والإمارة، 3025]
وتعقيبا على هذا الفقه الدعوي قال ابن رجب: “وأخذ الإمام أحمد بهذه الأحاديث وقال يصح الإسلام على الشرط الفاسد، ثم يلزم شرائع الإسلام كلها، ولا يخفى أن هذا فيمن يراد تأليفه على الإسلام من غير المسلمين[جامع العلوم والحكم، ج 1 ص 229].
إنه فقه الدعوة الذي شرعه النبي صلى الله عليه ووسلم عندما فرق بين مراتب المهتدين، فلم يلزم اللاحق بما ألزم به السابق، واكتفى من البعض بالحد الأدنى، كما هو حديث الأعرابي الذي ذكر له أن سيقتصر على الفرائض فقط، فقال النبي ﷺ ” أفلح إن صدق”[مسلم، كتاب الإيمان، 11]
والأمر ذاته برز في فقه عمر بن الخطاب لما قبل تغيير اسم الجزية عن نصارى تغلب حتى لا يكونوا ظهيرا للروم، فضاعف عليهم الصدقة، وشرط عليهم عدم تنصير أولادهم أو تعميدهم، وهو ما جرّ إلى إسلام هذه القبيلة الكبيرة على مر الزمن بفضل الدعوة والجوار الحسن، والانخراط في عموم الأمة.
وتبعا لذلك قال فقهاؤنا المالكية بعدم إلزام المهتدين البالغين بالختان، لأنه سنّة فطرة لا تقابل فرض الستر للعورة إلا للضرورة، وليس منها، أو كان ختانه منفرا له من الإسلام، والأمر مترك لتقدير الفقهاء الراسخين في التعليم والتزكية والتدرج بالمهتدين في شعب الإيمان وأحكام الإسلام ومراتب الإحسان.
4. الدعم الاجتماعي والمالي: وهو ما يحتاجه البعض من المهتدين الذين تتعثّر أحوالهم الاقتصادية والمعيشية بسبب إسلامهم، أو لقصورهم في ذات يدهم، والوقائع في ذلك كثيرة، وهو ما يوجب إحياء سهم المؤلفة قلوبهم من مصارف الزكاة، ومن المعروف أن عديد العرب أسلموا نتيجة تألّفهم أو تألّف زعمائهم بالعطاء، ففي حديث أنس، عن أبيه، قال: “ما سُئل رسول الله ﷺ على الإسلام شيئا إلا أعطاه، قال: فجاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين، فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم أسلموا، فإن محمدا يعطي عطاء لا يخشى الفاقة[مسلم، كتاب الفضائل، 2312]، وفي حديث صفوان بن أمية بن خلف قال :”والله لقد أعطاني رسول الله ﷺ ما أعطاني، وإنه لأبغض الناس إلي، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي” [مسلم، كتاب الفضائل 2313]
وليس في الأمر ضير، فالناس مجبولون على حب الإحسان، والأخلاق تسمو بالعبد، وكم انتشرت المسيحية في عصرنا وابتلعت أراضي كثيرة بكسرة الخبز، ولا يضير الإنسان إن فُتح له الباب ليأكل، فإذا شبع اختمرت الفكرة واستقرت، وأقبل على الدين، وعرف محاسنه، ورسخ إيمانه، والإحسان سجية المسلم ابتغاء وجه الله أولا، والهداية من الله وحده: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ)[البقرة، 272].