تمثل الدعوة إلى إحياء التراث التربوي الإسلامي عاملاً مهما من عوامل الإحياء الشامل الأمة الإسلامية ـ إن لم سكن العامل الأول ـ حيث إن النهضة التربوية المنتظرة هي المؤثر الفعال في جوانب النهضة العلمية والاجتماعية والسياسية … الخ ، ومن ثم فإن الاعتماد على النظريات والقواعد التربوية الغريبة في نظامنا التربوي أمراً بات من الخطورة على نهضتنا أن يستمر هذا الاعتماد، لأنه مؤشر على استمرار حالة الترغيب الشامل الذي مازالت مجتمعاتنا تعاني منه ـ حتى الآن ـ والدعوة إلى إحياء التراث التربوي تقوم على مسلمة رئيسية وهي ” أن لنا تراثاً هائلاً يشتمل بدون شك على آراء في التربية وعلم النفس وتجارب سابقة في هذا الميدان إذ لا يمكن أن تقوم تلك الحضارة الزاهرة بغير دعائم تربوية ومؤسسات ونظم تعليمية … وعودتنا إلى هذا التراث إنما تكون بقصد أن نستلهمه ونسترشد به وليس لنقف عنده ، كما أن هذه العودة تشعرنا بأننا لا نبدأ من فراغ أو تقليد أو نبدأ عالة على الغير وإنما نبني على تجارب أجيال ورصيد أمة وبذلك تزداد ثقتنا بأنفسنا وتتعمق المفاهيم التربوية والنفسية لدينا وتتحول إلى أجزاء أصيلة من ثقافتنا ” (1).

والتراث بذلك يتحول من وظيفة تقوم بنقلها التربية للأجيال الناشئة باعتباره ماضياً وانتهي أمره إلى مصدر أساسي -نأخذ منه ما هو صالح من مبادئ وأفكار وقيم- نبني عليه التربية نظامها التربوي نظامها التربوي وتحدد من خلاله برامجها وخططها وأهدافها.

ويعد البحث في مجال إعداد المعلم أحد مجالات البحث المهمة في التراث التربوي، خاصة في ظل الأوضاع المعاصرة لبرامج إعداد المعلم ولمكانة المعلم وكذلك أحوال المتعلمين وسلوكياتهم المعاصرة والتي ابتعدت في كثير من جوانبها عن “السوية الإسلامية” والتي تحدد معها مسئولية المعلم باعتباره أهم سبل العلاج، ولن يقوم المعلم بتربية أبنائه على “السوية الإسلامية” إذا افتقدها هو وإذا لم تتم تربية عليها في برامج إعداده.

والإمام “الغزالي” (450 هـ – 505 هـ / 1058م – 1111م) من رواد التراث التربوي الإسلامي(2) الذين دارت حول أفكارهم دراسات وأبحاث عديدة وحلقات نقاش وعمل كثيرة نظراً لما تتمتع به هذه الآراء من حيوية وتفاعل من ناحية التربية المعاصرة إلى هذه الآراء من ناحية أخرى. ورسالة ” أيها الولد ” ضمن مجموعة الرسائل التي كتبها الإمام الغزالي(3) والتي تبلغ ستة وعشرين رسالة، وهذه الرسالة ـ موضوع البحث ـ اختارها الباحث لأنها تمثل رسالة مزدوجة الهدف للمُتعلم والمُعلم  على السواء، كما أنها تحتوي على العديد من الأفكار والآراء التربوية التي يحتاجها نظامنا التربوي المعاصر، وتتضمن  أيضاً الحلول لعدد من مشكلاتنا التربوية المعاصرة مثل : الأزمة الأخلاقية، وأزمة البحث العلمي ، وأهداف وفلسفة التعليم .

معنى التربية

يحدد الغزالي أولا معنى التربية ، فيرى أنها تلك العملية التي ” تشبه فعل الفلاح الذي يقلع الشوك ويخرج النباتات الأجنبية من بين الزرع ليحسن نباته ويكمل ريعه ” (7) ، ويتضح من هذا المعنى إشارة الغزالي إلى مرونة الطبيعة الإنسانية للفرد فهي ليست جامدة لا تتغير بل تكتسب من الصفات ما ليس فيها ويمكن تغيير ما بها من صفات وإضافة أخرى “فالإسلام يقف موقفا وسطا فالطبيعة الإنسانية ليست خيرة وليست شريرة وإنما هي استعدادات وقدرات قابلة للتشكيل والصياغة ومن خلال تفاعلها يتحدد صفتها بالخير أو بالشر ، فليست هناك طبيعة إنسانية خيرة أو شريرة فبقدر ما تحقق الطبيعة الإنسانية من نجاح وتوفيق بقدر ما تكون خيرة وبقدر ما تفشل وتخفق بقدر ما تكون شريرة ” (8)، يقول تعالى ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ﴾[الإنسان : 3]، ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ،  وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ﴾[الشمس : 9ـ10].

وتؤكد إحدى الدراسات حول النظام التربوي العربي أن “نظم التعليم العربية غير قادرة بوضعها الحالي على تلبية الاحتياجات والمتطلبات الحالية للمجتمعات العربية ، وبالتالي فهي غير مستعدة بوجه عام لمواجهة متغيرات وتحديات المستقبل ، فتعلم المستقبل في الدول العربية يحتاج إلى تصور جديد ، وهاما يتطلب ضرورة التحرك نحو تقديم إطار عام ومستقبلي لمواجهة تحديات القرن القادم ، وما سيشهده من ثورات ، يصعب أن يقف النظام التعليمي منعزلا عنها (9) .

ويتضح- أيضا – من معنى التربية عند الغزالي في قوله ” ليحسن نباته ويكمل ريعه ” ، أن التربية إنما هدفها النهائي هو إعداد الإنسان الصالح ويجب أن تبنى التربية منهاجها ونظمها وتقوم فلسفتها من أجل تحقيق هذا الهدف ، وإعداد هذا الإنسان الصالح في نظامنا التربوي المعاصر لا يزال يعاني من أزمة تتمثل في غياب الفلسفة العامة التي تحكم هذا النظام وغياب ما تتضمنه هذه الفلسفة العامة من قيم وتصورات ومفاهيم تنطلق من مركزية “التوحيد” أو العقيدة التي يؤمن بها المجتمع ، بالإضافة إلى غياب الخطط والاستراتيجيات والأهداف التي تتفق واحتياجات المجتمع العربي والإسلامي المعاصر من جهة والمتغيرات العالمية المعاصرة والمستقبلية من جهة أخرى.

 جوانب التربية

 الجانب العقدي من التوجهات الغالبة في رسالة ” أيها الولد ” الجانب العقدي ، ويهدف الغزالي في هذا الجانب إلى تكوين ” … اعتقاد صحيح لا يكون فيه بدعه ” (10)  فالإعداد العقدي للطالب / المعلم أهم ما أكدت عليه هذه الرسالة.

وقد أشارت في تكوين هذا الاعتقاد الصحيح إلى مفاهيم مهمة ، مثل العبودية والتوكل فيقول الغزالي ” … ثم تسألني عن العبودية ، وهي ثلاثة أشياء : أحدهما محافظة أمر الشرع ، وثانيها الرضاء بالقضاء والقدر وقسمة الله تعالى ، وثالثها: ترك رضاء نفسك في طلب رضاء الله تعالى . وسألتني عن معنى التوكل: هو أن تستحكم اعتقادك بالله تعالى فيما وعد يعنى تعتقد أن ما قدر لك سيصل إليك لا محالة وإن اجتهد كل من في العالم على صرفه ، وما لم يكتب لك لن يصل إليك وإن ساعدك جميع العالم ” (11).

ومن مظاهر التوكل التي ذكرها الغزالي أن لا يذل الإنسان نفسه لكائن من كان بغية الرزق ، فيذكر في هذا ما حاكاه الشبلي بقوله ” … إن رأيت كل أحد يسعى ويجتهد بمبالغة لطلب القوت والمعاش بحيث يقع به شبهة وحرام ، ويذل وحرام ، ويذل نفسه ، وينقص قدره ، فتأملت في قوله تعالى : ﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [هود : 6] ، فعلمت أن رزقي على الله تعالى ، وقد ضمنه فأشتغلت بعبادته وقطعت طمعي عمن سواه “ (12)، أما عن التقوى فيشير ـ  الغزالي ـ إلى ما حكاه الشبلي ـ أيضاً ـ قوله ” ..إني رأيت بعض الخلق ظن شرفه وعزه في كثرة الأقوام والعشائر فاغتر بهم ، وزعم أخر أنه في ثروة الأموال وكثرة الأولاد فافتخروا بها ، وحسب بعضهم أن الشرف في غضب أموال الناس ظلمهم وسفك دمائهم ، واعتقد طائفة أنه في ائتلاف المال وإسرافه وتبذيره ، وتأملت في قوله تعالى :﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات : 13] فاخترت التقوى واعتقد أن القرآن حق صادق وظنهم وحسبانهم كلها باطل زائل “. (13)

حقيقة العقيدة

ويؤكد الغزالي على حقيقة العقيدة وأنها لا تتحصل إلا بالمجاهدة الصادقة حتى يطهر الإنسان نفسه وقلبه ويكونان خالصين لله تعالى فيقول في رسالته : ” أيها الولد اجعل الهمة في الروح، والهزيمة في النفس، والموت في البدن ، لأن منزلك القبر ، وأهل المقابر ينتظرونك في كل لحظة متى تصل إليهم ، إياك إياك أن تصل إليهم بلا زاد ، وقال أبو بكر الصديق ـ  رضي الله عنه ـ هذه الأجساد قفص الطيور ، واصطبل الدواب ، فتفكر في نفسك من أيهما أنت ؟ إن كنت من الطيور العلوية فحين تسمع طنين طبل : ارجعي إلي ربك تطير صاعداً إلي أن تقعد في أعالي بروج الجنان كما قال رسول الله ـ ” اهتز عرش الرحمن من موت سعد بن معاذ ” ، والعياذ بالله إن كنت من الدواب كما قال تعالى : ﴿أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ﴾[الأعراف : 179] فلا تأمن انتقالك من زاوية الدار إلى هاوية النار ” (14) .

ويرشد ـ الغزالي ـ الطالب / المعلم ـ إلى طريق المجاهدة ومنه الصلاة بالليل والاستغفار في ذلك ” أيها الولد : ومن الليل فتجد به : أمر ، وبالأسحار هم يستغفرون شكر ، والمستغفرون بالأسحار ذكر ، قال عليه السلام : ثلاثة أصوات يحبها الله تعالى : صوت الديك ، وصوت الذي يقرأ القرآن ، وصوت المستغفرين بالأسحار . ” (15)


(1) عبد الرحمن النقيب : بحوث في التربية الإسلامية ، الكتاب الأول ، ( القاهرة ، دار الفكر العربي 1983 ) ص (7 ، 9) .

(2) هو أبو حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي ، ولد بمدينة طوس سنة 450هـ ـ 1058م وتوفي سنة 505هـ ـ1111م .

ومن أهم مؤلفاته : إحياء علوم الدين : إحياء علوم الدين ـ المنقذ من الضلال ـ تهافت الفلاسفة ـ معيار العلم ـ ميزان اعمل ـ مشكاة الأنوار ـ الاقتصاد في الاعتقاد ـ المستصفى ـ المقاصد ـ المنتحل في علم الجدل … وغيرها أنظر : عبد المتعال الصعيدي : المجددون في الإسلام من القرن الأول إلى الرابع عشر ، ( القاهرة : مكتبة الآداب ، 1996م ) ص (138) .

(**) ومن هذه الدراسات والبحوث :

ـ محمد نبيل نوفل ، ” أبو حامد الغزالي ، فلسفته وآراؤه في التربية والتعليم ” ماجستير ، كلية التربية ـ جامعة عين شمس 1967م .

ـ محمد عبد الظاهر الطبيب ” الآراء النفسية عند الإمام الغزالي ” ، صحيفة التربية ، رابطة خريجي ومعاهد وكليات التربية ، ع2 ، يناير 1982م .

ـ يوسف عبد الصبور عبد الله ، ” الصحة النفسية عند الإمام الغزالي ” دراسة نقدية تحليلية ، مجلة كلية التربية ـ جامعة عين شمس 1967م .

ـ محمد عبد الظاهر الطيب ” الآراء النفسية عند الإمام الغزالي ” دراسة نقدية تحليلية ، مجلة كلية التربية بسوهاج ، جامعة أسيوط ، ع5 ، ج1 ، يناير 1990م ، ( هذه الدراسات والبحوث نقلاً عن : محمد وجيه الصاوي : البحوث والدراسات التي تناولت التربية الإسلامية حتى عام 1994م ، كلية التربية ، جامعة الأزهر ، 1994م ـ 1415هـ ) .

ـ أحمد عرفات القاضي ، خصائص التربية عند الإمام الغزالي ، ملحق مجلة الأزهر ربيع الأول 1416هـ .

(3) أبي حامد الغزالي : مجموعة رسائل الإمام الغزالي ، ( بيروت : دار الكتب العلمية ، 1994م ) .

(4) رشدي طعيمة : تحليل المحتوى في العلوم الإنسانية ، ( القاهرة : دار الفكر العربي ، 1987م ) ص (40) .

(5) سمير حسين : تحليل المضمون ، ( القاهرة ، عالم الكتب ، 1983م ) ص (79)

(6) أنظر رشدي طعيمة : مرجع سابق ، ص (178) .

(7) الغزالي ، مرجع سابق ، ص (108) .

(8) أحمد عبد الفتاح شعلة : مبادئ التربية الجسمية في السنة النبوية دكتوراه غير منشورة ، كلية التربية ببنها ـ جامعة الزقازيق 1996م ، ص (40) .

(9) جمال الدهشان : ” ملامح إطار جديد للتعليم في الدول العربية في ضوء المتغيرات العالمية والإقليمية ” بحث منشور في : ” العولمة ونظام التعليم في الوطن العربي ، ” رؤية مستقبلية ، كلية التربية ـ جامعة المنصورة 1998م .

(10) الغزالي ، مرجع سابق ، ص (106) .

(11) المرجع السابق ، ص (109) .

(12) الغزالي : مرجع سابق ، ص (108) .

(13) الغزالي : مرجع سابق ، ص (107) .

(14) المرجع السابق ص (105) .

(15) الغزالي : مرجع سابق ، ص (105) .