تعتبر الظاهرة الجنسية في ارتباطها بالوظيفة التوالدية للكائن الحي، قاسما مشتركا بين جميع الكائنات الحية، التي تشترك في سمات بيولوجية موحَّدة في ارتباطها بالغذاء، والماء، والهواء، والحركة، والتوالد ضمانا لاستمرار النوع الإحيائي وبقائه على كوكبنا الأرضي.

ولقد اقتضت مشيئة الباري سبحانه النافذة ألا يكون الإنسان شاردا عن سنن الله تعالى في الآفاق، ليندرج بنو البشر في الطابع البيلوجي لجميع الكائنات الحية، وعلى رأسها غريزة بقاء الجنس الإنساني، وبصورتها التوالدية.

ولم تكن الغريزة الجنسية سوى مظهرا من مظاهر الطابع الإحيائي ذي الصبغة التوالدية الضامنة لبقاء النوع البشرية واستمراريته. لذلك، فلقد استأثرت التربية الجنسية باهتمام الفكر الإنساني على مرّ الأزمنة والعصور، واختلاف البيئات والأمكنة.

والإسلام، بحكم خصائصه المميزة له، كخاصية العالمية والإنسانية والكونية والرحمة، المتمثلة في نصوص شرعية متكاثرة؛ من أبرزها قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} الآية [سبأ، 28]، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء، 107]، لم يكن ليخرج عن هموم الإنسان وقضاياه الجوهرية والمصيرية على حد سواء.

إلا أن ما يميز التربية الجنسية من منظور الشريعة الإسلامية، هو سيرها على منهج القرآن الكريم، في اعتدال ووسطية رشيدة جسّدها قوله تعالى: {وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} الآية [البقرة، 143]. على أن وسطية المنهج الإسلامي، وشهادة المسلمين على الناس، لا تنفكان عن هموم البشرية وقضاياها الكبرى، عن طريق كشف مظاهر التحيزات الضيقة، بصفة عامة، وفي ارتباطها بالتربية الجنسية بوجه خاص.

التربية الجنسية والتحيزات الفكرية البشرية: لقد اقتضت حكمة الباري سبحانه، أن يكون الإنسان كلما ابتعد عن منهج الإسلام الذي ارتضاه للبشرية، كلما كان مؤهلا لأن تتجاذبته رياح التحيزات الفكرية والتصورية، فضلا عن الانحرافات العملية والسلوكية، تصديقا لقوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الحزاب، 72].

تبعا لذلك، فبظلم من الإنسان، وبجهل منه أيضا، وبابتعاده عن الوسطية الرشيدة للوحي ومقاصده، لم تستطع البشرية التنظير للتربية الجنسية بشكل متوازن، مما جعلها تسقط في كثير من مظاهر التحيزات المتعددة والمتنوعة.

ومن أبرز مظاهر التحيزات في علاقتها بالتربية الجنسية ما نلاحظه من دعاة الانحلال في الأوطان الإسلامية، بتقليدهم الوافد الغربي، وما التصق به في بعده الجنسي، من خلال النظر إلى أنه أرقى النماذج التي عرفتها البشرية في تعاملها مع الظاهرة الإنسانية عموما، وفي تصورها التربوي الجنسي خصوصا.

لذلك فلا غرابة أن ينادي حذاقهم بالاختلاط في المنتديات العامة والخاصة، وبالتبرج والسفور، فضلا عن استغلال المنابر الإعلامية (كالتلفاز والقنوات الفضائية، والجرائد والمجلات الورقية والإلكترونية، بالإضافة إلى الإنترنيت وخدماتها المتنوعة، وشبكات التواصل الاجتماعي…)، بغية إزهاق ما فَضُل من الحياء من قيم المسلمين، رغبة في تربية جنسية للنشء والمجتمع، بعيدة عن الإسلام وأخلاقه.

وأما التحيز المقابل، المحكوم بتصور تمجيدي لتقاليد الآباء وإرث الأجداد، مكبلا بأغلال العصبيات العرقية والطائفية، فإنه يسعى إلى قتل التربية الجنسية في جيل الغد ورواد المستقبل، ظنّا من حذاقهم بأن هذا النوع من التربية حرام كله شرعا، وأن الحياء الذي دعا إليه المصطفى عليه السلام في قوله: (الحياء لا يأتي إلا بخير)[رواه الشيخاه][1]، يدعو إلى التكتم على الظاهرة الجنسية، والبعد بها عن ساحة النقاش العلمي الجاد والهادف.

ورغم الاختلافات الظاهرية بين هذين النموذجين السابقين للتربية الجنسية، إلا أنهما -في واقع الأمر ومآله- يشكلان مظهرا واحدا من مظاهر التقليد اللاواعي الذي اتخذ صورتين مختلفتين شكلا، إلا أنهما متحدتان جوهرا، ما بين تقليد الوافد الأجنبي المحترب مكانيا عند الآخر ومنظومته الثقافية والفكرية، وما بين تقليد الآباء المحترب تاريخيا عند تقاليد الأجداد ونهج الأسلاف.

على أن من المنطلقات السلبية التي ركن إليها كل احتراب من الاحترابين السابقين، هو فرط الثقة في النموذج المحتذى به؛ من خلال النظر إلى أن الاحتراب المكاني انطلق من خلفية فكرية تمجيدية للغرب، مع ما استلزم من فرط الثقة بتصوراته القيمية والتربوية. وأما الاحتراب الزماني، فلقد تأسس على تصورات منبنية على فرط الثقة بنماذج من الأجداد ونهج الأسلاف، وإحلالهم محل الوحي رتبةً وقداسة.

 فكان من مخرجات هذا التقليد اللاواعي واحترابه المكاني أو الزماني، في بعده الذي يتخذ من التربية الجنسية موضوعا له، تخبط البشرية -كلها بما فيها بعض الأوطان العربية والإسلامية -في مشاكل متنوعة؛ كالفوضى الجنسية، وانتشار الزنا واللواط، والأطفال المتخلى عنهم، وذيوع السحاق ووطء الحيوانات، والحمل غير الشرعي، وشيوع الاغتصاب وزنى المحارم سواء الأصول والفروع على حد سواء، ناهيك عن الأمراض المتنقلة جنسيا كالسيدا، والزهري، والسيلان… .

على أن القاسم المشترك بين هذين الاحترابين المكاني والزماني لمعالجة القضية الجنسية، هو سعيه إلى تربية الأجيال الصاعدة، تربيةً جنسية تبتعد عن الشريعة الإسلامية مقاصدَ وضوابط.

مقاصد التربية الجنسية في الإسلام: ومنها:

• التعريف بالظاهرة الجنسية وخطورتها: لم يترك الإسلام المنتسبين إليه دون توعيتهم بأهمية الظاهرة الجنسية وبخطورتها، في أزمنة كانت البشرية تعاني من التكتم الشديد على التربية الجنسية.

ومن الأمثلة التمثيلية، ما قصه الله تعالى عن قصة يوسف عليه السلام، من افتتان امرأة العزيز (أي: زليخا) بجمال ابن يعقوب، ومراودتها له، يقول الله سبحانه: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف، 23].

حفظ الأعراض والسلامة من الأمراض: لقد قامت الشريعة الإسلامية على مقاصد متنوعة، يأتي حفظ الأعراض وسلامة الأبدان من الأوبئة والأمراض من أبرزها. يقول الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء، 23]؛ فقد «قال العلماء: قوله تعالى (ولا تقربوا الزنى) أبلغ من أن يقول: ولا تزنوا، فإن معناه لا تدنوا من الزنى»[2].

على أن هذا الموقف الصارم للإسلام من العلاقات الحنسية المحرمة إنما جاء لمقاصد متنوعة؛ بالنظر إلى أن «الزنا اشتمل على أنواع من المفاسد: أولها: اختلاط الأنساب واشتباهها فلا يعرف الإنسان أن الولد الذي أتت به الزانية أهو منه أو من غيره، فلا يقوم بتربيته ولا يستمر في تعهده، وذلك يوجب ضياع الأولاد، وذلك يوجب انقطاع النسل وخراب العالم […]»[3].

سلامة المجتمع وبقاء العمران؛ وذلك أن تربية الإنسان على التربية الجنسية السليمة يؤثر إيجابيا على الاندماج الاجتماعي، بما يسمح توعية الشباب بأن الوسيلة الوحيدة المقبولة شرعا لإشباع الحاجيات الجنسية، هو الزواج الشرعي. وهو طريق منهجي يفضي إلى شيوع ظاهرة الزواج في المجتمع، وإنشاء أسر مستقرة، وبناء علاقات زوجية شرعية مفضية إلى روابط مصاهرات وتعارف بين الأسر والعائلات، فضلا عن الابتعاد عن كثير من الجرائم الخطيرة وخاصة جرائم الشرف، والتي تكون اللذة سببها الأساسي.

 وبيان ذلك يظهر من خلال «أنه إذا لم يوجد سبب شرعي لأجله يكون هذا الرجل أولى بهذه المرأة من غيره لم يبق في حصول ذلك الاختصاص إلا التواثب والتقاتل، وذلك يفضي إلى فتح باب الهرج والمرج والمقاتلة، وكم سمعنا وقوع القتل الذريع بسبب إقدام المرأة الواحدة على الزنا .[…]

أنه إذا انفتح باب الزنا فحينئذ لا يبقى لرجل اختصاص بامرأة، وكل رجل يمكنه التواثب على كل امرأة شاءت وأرادت وحينئذ لا يبقى بين نوع الإنسان وبين سائر البهائم فرق في هذا الباب. […]

أنه ليس المقصود من المرأة مجرد قضاء الشهوة بل أن تصير شريكة للرجل في ترتيب المنزل وإعداد مهماته من المطعوم والمشروب والملبوس، وأن تكون ربة البيت وحافظة للباب وأن تكون قائمة بأمور الأولاد والعبيد، وهذه المهمات لا تتم إلا إذا كانت مقصورة الهمة على هذا الرجل الواحد منقطعة الطمع عن سائر الرجال، وذلك لا يحصل إلا بتحريم الزنا وسد هذا الباب بالكلية»[4].

الضوابط الشرعية المنظمة للتربية الجنسية: ومنها:

الوسطية منهج إسلامي رشيد: ولذلك، سعى الإسلام إلى الجمع بين طرفي هذه الثنائية (التوعية بالقضايا الجنسية، في مقابل المحافظة على الحياء المحمود) جمعا لا تضاد فيه، من حيث توعية المسلمين بأهمية البعد التربوي للقضية الجنسية من جهة، وكذا البعد عن مسار التميع ونشر الفاحشة بين المسلمين.

ومن ذلك، ما قصه الله تعالى في كتابه من مواضيع جنسية هامة؛ كالحيض، وبيان تحريم العلاقات الجنسية أثناء فترته، مع تعليل هذا الحكم الشرعي ببيان أضراره. وهو حكم بالنهي دائر مع علته وجودا وعدما، مع التأكيد على أن خصوصية العلاقات الجنسية بين الزوجين، ببيان وضعيات الجماع المشروعة، مع التأكيد على أن ذلك من جملة القربات والطاعات الشرعية.

 ولذلك، يقول الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} الآيتان [البقرة، 222 – 223].

الحياء المحمود منهج شرعي للتربية الجنسية: إن مما اختص به الإسلام إثارته لقضايا جنسية في غاية الدقة والحساسية، لكن بمنهج ينفي عنه التميع السافر الفاضح، كما يسلب منه مظاهر التكتم المقيت.

ولذلك، فلا غرابة أن يتناول القرآن الكريم قضايا من التربية الجنسية ذات حساسة كبرى، ما سبقت الإشارة إليه، كالحيض وتحريم الوطء فيه، وإباحته بعده، ووصف حال دعوة زليخا ليوسف عليه السلام للفاحشة…

على أن هذا الحياء المحمود مؤسس على مشروعية مناقشة وتدارس القضايا الجنسية، لكن بأسلوب لا يكشف العورات، ولا تثير الغرائز، ولا يهيج اللذات، عن طريق التوسل بالكناية، كما في الأمثلة السابقة، وغيرها في القرآن والسنة كثير.


[1] وانظر: البخاري، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم (ت 256 هـ)، صحيح البخاري، تح محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، ط 1، 1422 هـ، كتاب الأدب ، باب الحياء، (رقم الحديث 6117)، ج 8، ص 29؛

مسلم، مسلم بن الحجاج بن مسلم (ت 261 هـ)، صحيح مسلم، تح محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، كتاب الإيمان، باب شعب الإيمان، (رقم الحديث 37)، ج 1، ص 64.

[2] القرطبي، محمد بن أحمد بن أبي بكر (ت 671 هـ)، الجامع لأحكام القرآن، تح أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية، القاهرة، ط 2، 1384 هـ – 1964م، ج 10، ص 253.

[3] الرازي، محمد بن عمر بن الحسين (ت 606 هـ)، مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 3، 1420 هـ، ج 20 ص 332.

[4] المصدر السابق نفسه.