عند التأمل لما بثه القرآن الكريم من الآيات البينات من الهدى، وما حوته السنة النبوية من المبادئ الفضيلة والإرشادات والتعليمات، يتضح أن الإسلام دين يضمن للإنسان سعادته في الحياة الدنيا والآخرة. يهدف الإسلام إلى جعل الإنسان صالحًا مصلحًا، يصعد به إلى أعلى معالي الأمور من محاسن الأخلاق ومكارم القيم، وينأى به عن محقرات الأمور وسفسافها، ويكمن في هذا أهمية التربية في الإسلام.
أسس التربية الإسلامية
التربية الإسلامية تتضمن عقيدة صافية، عبادات خالصة، معاملات طيبة، وسلوكًا وأخلاقًا فاضلة. هذا النظام الأدبي التربوي المتكامل يحمي من الزيغ والفساد، ويشجع على الصدق في القول والعمل، ويرشد إلى كل ما فيه فضيلة وسعادة في حياة الأفراد والجماعات، ويعزز التعاون على البر والتقوى. ومن هذا المنطلق، يمكن فهم سر عزة المسلمين الأوائل وقيادتهم للعالم نحو التقدم والرقي في أمور الدين والدنيا.
كيفية تربية الأبناء في الإسلام
الإسلام لم يدخر جهدًا في رعاية الأولاد والعناية بهم من النواحي الدينية، العقلية، النفسية، والثقافية. وقد دعا الإسلام إلى تأصيل القيم الدينية والأخلاقية في الأبناء بشكل تدريجي، وبما يتناسب مع المراحل العمرية التي يمر بها الإنسان. وفيما يلي بعض الأساليب التي يمكن اتباعها:
- تعليم التوحيد: يجب تعليم الولد الصغير نطق كلمة التوحيد: “لا إله إلا الله محمد رسول الله. يقول الإمام ابن القيم: “إذا كان وقت نطقهم فليلقنوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وليكن أول ما يقرع مسامعهم معرفة الله سبحانه وتوحيده”.
- تشجيع تلاوة القرآن: يجب تعويد الولد على تلاوة القرآن الكريم وتجويده وحفظه، وقراءة حديث النبي ﷺ.
- تعليم الوضوء والصلاة: يجب تعليم الولد كيفية الوضوء الصحيح وأداء الصلوات من سن السابعة وتصحيح الأخطاء له بين الحين والآخر.
- تشجيع الصيام تدريجيًا: يمكن تعويد الولد على الصيام بشكل تدريجي، مثل الصيام نصف اليوم حتى يتمكن من صيام اليوم الكامل.
- توعية بخطورة الشرك والبدعة: يجب تعليم الولد خطورة الشرك والبدعة، وتوضيح ذلك بأمثلة واقعية.
- تعليم النظافة الشخصية: يجب تعليم الولد النظافة الشخصية مثل الاستنجاء، وغسل اليدين، وقص الأظافر، والحفاظ على طهارة ملابسه.
- تعليم الأدب والأخلاق: يجب تعليم الولد التسليم على من في البيت، والإحسان إلى الجيران، والاحترام، والتسامح، والبعد عن السخرية والنميمة والغيبة.
- تشجيع الأعمال الصالحة: يجب تعويد الولد على الصدقة السرية، وزيارة المرضى، واتباع الجنائز، وزيارة القبور، ومساعدة المحتاجين.
- غرس حب الرسول: يجب تعليم الولد حب الرسول ﷺ والاقتداء به، ومعرفة سير الصحابة وسلف الأمة.
مقولة “لا تربوا أولادكم”
مقولة “لا تربوا أولادكم كما رباكم آباؤكم، فقد خلقوا لزمان غير زمانكم”، وفي رواية “لا تكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم” ليست من مقالات أهل الإسلام، بل تُروى عن سقراط كما نقله الشهرستاني. الإسلام لا يعارض مستجدات الحياة ولا يفسح المجال لقبول كل جديد بلا تمييز، ولكنه يربي الإنسان على معايشة المستجدات دون التصادم مع ثوابت الدين وحقائقه. يمكن تغيير أساليب التربية بما يتناسب مع الزمان والمكان، ما دامت متسمة بالحقائق الدينية.
ماذا قال الله تعالى عن التربية في الإسلام؟
توجد شواهد كثيرة في القرآن الكريم تؤكد على أهمية التربية وتبرزها من وجوه متعددة وأساليب متنوعة، ومن هذه الشواهد:
أولاً: الاستشعار بخطورة التربية وضرورة القيام بها
التربية مسؤولية عظيمة ومهمة جسيمة. قال الله عز وجل: {قوا أَنفسكُم وأهليكم نَارا وقودها النَّاس وَالْحِجَارَة} [التحريم: 6]، وهذا أمر إلهي صريح في تأديب الأهل والتنبيه الشديد على الوقاية من النار. كما قال تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214].
قال ابن القيم: “كم ممن أشقى ولده وفلذة كبده في الدنيا والآخرة بإهماله وترك تأديبه وإعانته له على شهواته، ويزعم أنه يكرمه وقد أهانه، وأنه يرحمه وقد ظلمه وحرمه، ففاته انتفاعه بولده وفوت عليه حظه في الدنيا والآخرة. وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد رأيت عامته من قبل الآباء”.
ثانياً: الحرص على الدعاء بالذرية الطيبة
من أهداف التربية الدينية التي أشاد بها القرآن العظيم هو الرغبة في الذرية المباركة والنسل الصالح الذي تزداد الأمة الإسلامية بعزته ومجده. هذا هو المطمح الأكبر عند الأئمة الأبرار، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74].
سُئل الحسن البصري عن هذه الآية، فقال: “أن يري الله العبد المسلم من زوجته ومن أخيه ومن حميمه، طاعة الله. لا والله لا شيء أقر لعين المسلم من أن يرى ولداً أو ولد ولد أو أخاً أو حميماً مطيعاً لله عز وجل”.
وكان من دعوات إبراهيم عليه السلام قوله: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم: 40]. وكذلك دعا زكريا عليه السلام ربه فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران: 38].
ثالثاً: أهمية التوجيهات التربوية الأبوية للأبناء
توجيه الأبناء في جميع نواحي الحياة الدينية والأخلاقية والاجتماعية هو جزء أساسي من التربية. ومن ذلك:
- الحرص على ترسيخ العقيدة الصحيحة في نفوس الأولاد: قال تعالى عن وصايا إبراهيم ويعقوب لأبنائهما: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132].
- التربية على أداء الفرائض: قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132]. وقال تعالى عن نبيه إسماعيل عليه السلام: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 55]. وقال عز وجل في وصايا لقمان: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ} [لقمان: 17].
- التربية على أصول الآداب مثل أدب الحياء وأدب الاستئذان: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور: 58].
- التربية على أصول الأعمال الصالحة: وصايا لقمان لابنه تشكل مجموعة من أصول القيم الدينية والأخلاقية، مثل الإخلاص، التقوى، بر الوالدين، الشكر، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الصبر، التواضع، وتجنب الكبر. ومن هذه الوصايا:
- تربية الأبناء على التحذير من الشرك بالله: قال لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
- تربية الأولاد على محبة الله ومخافته ومراقبته: قال تعالى: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16].
- تربية الأولاد على القيام بحق الله وحق عباده مع الصبر: قال تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17].
- تربية الأولاد على حسن الخلق والأدب مع الناس، {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18].
- غرس مبدأ قيم خلق الاعتدال في الأقوال والأفعال {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إنّ أنكرَ الأصواتِ لصوتُ الحمير} [لقمان: 19].
وثمة مواضع أخرى في القرآن الكريم تحدثت عن منهج تربوي ناجح، بأسلوب مقنع مميز في إيصال الرسالة.
أهمية التربية الحسنة للأبناء
إن التربية الدينية الربانية للأبناء هي المحرك الحقيقي في قلوبهم للأعمال الصالحة الدؤوبة، ومناط بناء المستقبل المشرق، ومعقد تحقيق الآمال النبيلة القريبة والبعيدة، وهي الوسيلة التي تضمن للفرد والجماعة والمجتمع حياة سعيدة منشودة، يسود فيها العدل والسلام والأمن والأمان. وهي أحسن الطرق لقيام النهضة الدينية والمادية في جميع جوانبها المختلفة إلى أعلى الكمال الإنساني. وجماع القول أن الأولاد هم الأمل المنشود إذا حسنت رعايتهم وتربيتهم، وأن الأولاد البررة هم بهجة الحياة الدنيا والآخرة.
دور الأسرة في تربية الأولاد
الإسلام يحمل الأسرة مسؤولية تربية الأولاد ويعدها أمانة عظيمة. يقول النبي ﷺ: “ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة”. وأيضاً: “الرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها”.
الأسرة هي الخلية الأولى في المجتمع، وتبدأ مسؤوليتها من حسن اختيار الزوجين، بحيث يكونان صالحين وقادرين على تأسيس بيئة إسلامية سليمة. هذه البيئة هي التي تزرع في نفوس الأبناء كل القيم الجميلة وتشجعهم على قبول الحق ورفض الباطل.
ختاماً:
الأسرة هي النواة الأساسية في تربية الأبناء، وبصلاحها يصلح الجيل الناشئ ويحميه من الانحرافات. إنها مصنع الأئمة والفقهاء والحكام الصالحين، والتجار الأبرار، والوجهاء، وهي الركن الأساسي لبناء المجتمع الإسلامي المنشود.
قال الله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} [الأعراف:58].