ها هنا من الأدوية التي تشفي من الأمراض ما لم يهتدِ إليها عقولُ أكابر الأطباء، ولم تصِلْ إليها علومُهُم وتجاربهم وأقيستهم من الأدوية القلبية والروحانية وقوة القلب واعتماده على الله والتوكل عليه، والالتجاء إليه، والانطراح والانكسار بين يديه، والتذلُّل له، والصدقة، والدعاء، والتوبة والاستغفار، والإحسان إلى الخلق وإغاثة الملهوف والتفريج عن المكروب؛ فإن هذه الأدوية قد جربتها الأمم على اختلاف أديانها ومللها فوجدوا لها من التأثير في الشفاء ما لا يصل إليه علم أعلم الأطباء ولا تجربته ولا قياسه؛ وقد جَرَّبنا نحنُ وغيرنا من هذا أموراً كثيرة ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحسية![1]

وخاصة لقد تواترت الأخبار في بطون التاريخ؛ بطرائف وتجارب مدهشة عن الصدقة وتأثيرها العجيب في دفع النقم والبلاء، وجلب شفاء القلوب والأبدان والعافية، وكل من أكثر من الصدقة بنية الوقاية من كورونا أو إزالة الضراء وذهاب الهموم والغموم وإنه يجد ذلك يقينا بينا.

يقول ابن القيم رحمه الله:” فإن للصدقة تأثيرا عجيبا في دفع أنواع البلاء ولو كانت من فاجر أو من ظالم بل من كافر فإن الله تعالى يدفع بها عنه أنواعا من البلاء وهذا أمر معلوم عند الناس خاصتهم وعامتهم وأهل الأرض كلهم مقرون به لأنهم جربوه”[2]

وهذا العلاج الروحي يحتاج إليه كل مريض وصحيح، لأنه أبلغ في النفع من العلاج الحسي، يستشفى به المريض ويقى الصحيح من المكروه، ولكن الجمع بين العلاجين –الروحي والحسي- أقوى في العلاج للمريض.

الصدقة تدفع عن الناس الخوف والبلايا

الصدقة سلاح فعال يتسلح به في معترك الحياة والمواطن العظام، تحمى الناس من المصائب، والشدائد، وترفع عنهم البلايا والآفات، وتعيد العافية والصحة بعون الله تعالى، ولقد فزع الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لخسوف الشمس، فأرشدهم عليه الصلاة والسلام إلى الدعاء والصدقة فقال:” فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا”[3]

وقال ابن دقيق العيد معلقا على الحديث: “وفي الحديث دليل على استحباب الصدقة عند المخاوف لاستدفاع البلاء المحذور”[4]

وقال شيخ الإسلام: الدعاء سبب يدفع البلاء، فإذا كان أقوى منه دفعه، وإذا كان سبب البلاء أقوى لم يدفعه لكن يخففه ويضعفه، ولهذا أمر عند الكسوف والآيات بالصلاة والدعاء والاستغفار والصدقة[5].

قال أنس بن مالك رضي الله عنه:”باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطّى الصدقة”[6]

من التجارب: ما قاله منصور بن عمار:” لما قدمت مصر كانوا في قحط، فلما صلَّوا الجمعة ضجُّوا بالبكاء والدُّعاء فحضَرتني نية فصرت إلى الصحن، وقلتُ: يا قوم تقرِّبوا إلى الله بالصدقة فما تُقرب بمثلها، ثم رميت بكسائي وقلت: هذا جهدي فتصدَّقوا، حتى جعلت المرأةُ تُلقي خرصها حتى فاض الكساءُ، ثم هطلت السَّماء وخرجوا في الطين، فدفعت إلى الليث وابن لهيعة فنظروا إلى كثرة المال فوكلوا به الثقات، ورحت أنا إلى الإسكندرية، فبينا أنا أطُوفُ على حصنها إذا رجل يرمقني قلت: مَالك؟ قال: أنت المتكلمُ يومَ الجمعة؟ قلت: نعم قال صرتَ فتنةً قالوا: إنك الخضر دعا فأجيب قلت: بل أنا العبد الخاطئ فقدمت مصر فاقطعني الليث خمسة عشر فدانًا (وفي رواية أخرى قال: وأخرج لي جارية تعدل قيمتها ثلاثمائة دينار وألف دينار وقال: لا تُعلم ابني فتهون عليه.[7] وثمة قصص كثيرة في هذا الباب كما تراها في كتاب البداية والنهاية وغيره من كتب التاريخ.

الصدقة شفاء ودواء للأمراض الحالة

من طبيعة الصدقة أنها تداوى جميع الأمراض وتعالجها وتذهبها، كما دلت على ذلك التجارب القديمة والحديثة، ولكن يحصل ذلك  بحسب استعداد النـفس، ومدى قوة إيمانها وتصديقها .
وحديث «داووا مرضاكم بالصدقة» ضعيف المبنى وصحيح المعنى، ولذا قال ابن مفلح بعد أن أعل هذا الحديث: وجماعة من أصحابنا وغيرهم يفعلون هذا، وهو حسن، ومعناه صحيح.[8]

يقول المناوي:” وقد جرب ذلك الموفقون- يعنى التداوي بالصدقة- فوجدوا الأدوية الروحانية تفعل ما لا تفعله الأدوية الحسية، ولا ينكر ذلك إلا من كثف حجابه”[9]

من تجارب من قد عافاهم الله بسبب صدقة: أبو بكر الخبّازي، حيث يقول: مرضت مرضا خطرا، فرآني جارٌ لي صالح، فقال: استعمل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «داووا مرضاكم بالصدقة»، وكان الوقت ضيفا، فاشتريت بطيخا كثيرا، واجتمع جماعة من الفقراء والصبيان، فأكلوا، ورفعوا أيديهم إلى الله عز وجل، ودعوا لي بالشفاء، فوالله ما أصبحتُ إلا وأنا في كل عافية من الله تبارك وتعالى.[10]

وروى البيهقي بسنده عن ابن المبارك؛ أن رجلا سأله: يا أبا عبد الرحمن! قرحةٌ خرجت في ركبتي منذ سبع سنين، وقد عالجتُ بأنواع العلاج، وسألتُ الأطباء فلم أنتفع به! فقال: اذهب فانظر موضعاً يحتاج الناس إلى الماء فاحفر هناك بئراً، فإني أرجو أن تنبع هناك عينٌ ويُمسك عنك الدم، ففعل الرجل، فبرأ.[11]

ثم قال البيهقي عقب هذا الأثر: وفي هذا المعنى حكاية قرحة شيخنا الحاكم أبي عبد الله رحمه الله، فإنه قرح وجهه، وعالجه بأنواع المعالجة؛ فلم يذهب، وبقي فيه قريباً من سنة، فسأل الأستاذ الإمام أبو عثمان الصابوني أن يدعو له في مجلسه يوم الجمعة، فدعا له، وأكثر الناس التأمين، فلما كان من الجمعة الأخرى ألقت امرأة رقعة في المجلس؛ بأنها عادت إلى بيتها، واجتهدت في الدعاء للحاكم أبي عبد الله تلك الليلة، فرأت في منامها رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه يقول لها: قولوا لأبي عبد الله يوسع الماء على المسلمين، فجئت بالرقعة إلى الحاكم أبي عبد الله، فأمر بسقاية الماء فيها، وطرح الجمد – أي الثلج- في الماء، وأخذ الناس في الماء، فما مرت عليه أسبوع حتى ظهر الشفاء، وزالت تلك القروح، وعاد وجهه إلى أحسن ما كان، وعاش بعد ذلك سنين.[12]


[1]– الطب النبوي لابن القيم ص:10

[2] – الوابل الصيب من الكلم الطيب. ص:31

[3] – متفق عليه

[4] – إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام 1/353

[5] – مجموع الفتاوى 8/196

[6] – رواه البيهقي (7831)

[7] – سير أعلام النبلاء 9/96-97

[8] – الفروع (2/ 144)

[9] – فيض القدير شرح الجامع الصغير 3/515

[10] – معجم السفر (827)

[11] – الشعب. رقم(3109)

[12] – المصدر السابق.