يراعي الإسلام في تشريعاته وتوجيهاته النفس الإنسانية وما يحرك دوافعها فحيث تجد هذه النفس تبحث عن المنفعة بكل سبيل تجد أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:” احرص على ما ينفعك” صحيح أن مفهوم “ما ينفعك” يختلف حسب دين الإنسان وقيمه وأخلاقه ولكن الإسلام يخاطب هذا الدافع الإنساني ويهذبه وفي هذا الإطار يحث الإسلام على عمل الخير، لكن عمل الخير ثقيل على بعض النفوس، وجزء منه انتقاص من المال وبذل  للجهود وقت أن يتكاسل الناس، أو يبذلون جهودهم لمنفعتهم الشخصية،  جزء من عمل الخير ما يقدمه الإنسان من نفسه وروحه ووقته ما الذي يدفعه إلى عمل الخير والنفوس شحيحة، وإذا أعطت عشرة تنتظر أن تعود لها عشرات أو مئات، فمن المستفيد الأول من فعل الخير؟

يوجه الخطاب الإلهي في القرآن الكريم النفس الإنسانية إلى فعل الخير لافتا بصرها وبصيرتها إلى حقيقة تغيب حين تحضر الدنيا والرغبة في الحصول على اقصى متعة منها يقول الله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [الإسراء: 7]

{وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [البقرة: 110]

{وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل: 20]

إن الإحسان إلى الناس هو في الواقع إحسان للنفس  وما نقدمه للناس في الظاهر إنما نقدمه لأنفسنا في الحقيقة.

هذا المعنى الرائع يعيد تعريف العمل الخيري  ويوفر دافعا جديدا لهذا العمل، نحن نظن أننا نساعد الناس حين نتصدق عليهم والذي نشاهده أننا نقتطع من اموالنا أجزاء كبيرة او صغيرة لنقدمها للآخرين، ولكن التوجيه الإلهي {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ } [الإسراء: 7]  يضعنا في إطار آخر.

فنحن عندما نقدم المساعدة المالية للآخرين إنما نستثمر في هذا الجزء من الأموال ليعود إلينا أضعافا بعد أن يصل ليد من نساعده {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261]، فالذي وضعته في الأرض حبة، والذي وضعته في يد الفقير ليكن على سبيل المثال وحدة واحدة من عملة ما، الحبة تنمو لتكون سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة والله يضاعف لمن يشاء، والوحدة الواحدة من هذه العملة أو تلك التي وضعتها في يد المحتاج تعود إليك أضعافا مضاعفة، إما زيادة في المال، أو بركة في الموجود، أو رحمة من الله تجنبك نفقات كثيرة فتجد مشكلة ضخمة يمكنك علاجها بمبلغ يسير، أو يمنعها الله تعالى قبل وقوعها، فلا تتكلف شيئا أصلا، وساعتها يفهم المؤمن إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم.

وما نقوم به من رعاية للوالدين برا بهما ومعونة لهما وتلبية لاحتياجاتهما وانتظارا لما يأمران به هو في الحقيقة إحسان لأنفسنا من عدة جوانب:

منها أنه سيعود إلينا هذا الإحسان وهذه المعاملة الكريمة الراقية يوم أن نحتاج لمن يمد يده بالمساعده ولمن يوفر من وقته الذي لا يتسع لعمله وبيته ونفسه، ليجلس معنا ويستمع لما قدمناه في الماضي، وما كنا نحلم به، وما نعاني منه الآن سنجد راحة في القلب وسكينة في النفس، وساعتها تنطق ألسنتنا بحمد الله الذي جعل ابناءنا يقومون بما يجب عليهم أو ببعضه.

وحين نسمع شكوى أصدقائنا وجيراننا من عقوق أبنائهم، إننا نعطي الآن ونحن قادرون على العطاء حتى لو عجزنا عن تلبية كل ما يجب علينا انتظارا لساعة يرد إلينا هذا العطاء في الدنيا قبل الآخرة.

وحين تقع الخصومة بين اثنين ويتمكن المعتدى عليه من إيقاع العقوبة المناسبة أو غير المناسبة على المعتدي والثأر لنفسه واستعادة مكانته التي زلزلها انتقاص خصمه منه، فيتذكر دعوة الإسلام للعفو والصفح فيعفوا ويصفح ويتعالى على جراحه البدنية أو النفسية، ويظن أنه قد أحسن للمعتدي يأتيه، قوله تعالى: { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } [الشورى: 40] ليذكره أنه أحسن إلى نفسه كثيرا حين عفا وأصلح؛ لأن أجر العفو على الله، والله تعالى كريم جواد ليقارن من يعفو ويصفح بين ما يحصل عليه إذا  أنفذ غضبه وبين أجره الذي سيأخذه من الله  أي الكفتين ترجح في نظر العاقل إحسانه للمعتدي بالعفو أو إحسانه لنفسه بكون أجره على الله.

وحين يجد رجل من امرأته نشوزا وتسول له نفسه الأمارة بالسوء أن يعتدي عليها فهو الرجل والشرع قد أعطاه القوامة والمجتمع معه فكيف يرضى بهذه المذلة لكن نفسه المطمئنة تذكره بقول الله تعالى{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] فيعود إلى سلوك طريق المعروف والإحسان، ويظن بذلك أن يده العليا وأنه الأفضل، وأنه أحسن إلى المرأة وأهلها الذين تركوها أمانة في عنقه، نعم لقد أحسن إليها وإليهم لكنه أحسن إلى نفسه أكثر حين دخل في دائرة قول النبي صلى الله عليه وسلم : “خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي” [سنن الترمذي وقال :حسن صحيح]   

لو قارن هذا الرجل بين ما يناله عند المجتمع من مكانة تجعل كلمته هي العليا وعند نفسه حين يشعر أن هو سيد الموقف أو في ميزان الشرع حين كان محسنا لأهله أو عندما نال الرجة الرفيعة التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم لمن يحسنون لأهليهم أي الدرجات أعلى وأي المنازل أرفع؟

وحين نجتهد ونؤدي أعمالنا على أحسن الوجوه لتخرج على أفضل الصور قد يظن البعض أنه يحسن لمن يقدم له هذا العمل المتقن الرائع سواء كان ما نقدمه خدمة أو سلعة بل قد يمن البعض على من يتعامل معهم ويتفاخر بما يقدم وهو في الحقيقة ينسى أنه يحسن لنفسه قبل أن يحسن للناس لإنه إذا نوى بإتقانه لعمله أن يكون ممن يقول عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا عَمِلَ عَمَلاً أَحَبَّ اللَّهُ أَنْ يُتْقِنَهُ  [المعجم الكبير للطبراني]، فينال أعلى الدرجات بإتقانه لعمله وهي درجة محبة الله له ولعمله وإذا أحب الله تعالى عبدا كان سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها كما جاء في الحديث القدسي الذي تتمته ولإن سألني لأعطينه ولإن استعاذ بي لأعيذنه 

إننا نحسن لأنفسنا حين نحسن للمحتاجين وحين نحسن لأهلينا وحين نبر آبائنا وأمهاتنا لأن البذرة التي تضعها في أرض الإحسان تثمر افضل الثمار وتخرج أروع الأزهار يراها الناس فيعجبون بها ويستظلون تحتها ويتناولون ثمارها ويقلدونك فيضعون بذرة أخرى في أرض الإحسان وهكذا تتكاثر مساحات الخير في المجتمع حتى يكون المسيء والمقصر غريبا في هذا المجتمع المحب للإحسان.

إننا نحسن لأنفسنا قبل أن نحسن إلى الناس فبالحسنة يمكن أن تذوق حلاوة الإيمان ولذة القرب من الله تعالى غير ما تتركه الحسنة من آثار على القلب والوجه وفي الأرض والسماء كما قيل: إِنَّ لِلْحَسَنَةِ نُورًا فِي الْقَلْبِ، وَضِيَاءً فِي الْوَجْهِ، وَسَعَةً فِي الرِّزْقِ، وَمَحَبَّةً فِي قُلُوبِ النَّاسِ.  هذا النور الذي يغمر القلب فيعطيه قدرة على التفريق بين الحق والباطل والنافع والضار  لو قارنته بما قدمته من إحسان للآخرين، ترى من استفاد أكثر من أحسنت إليهم أم نفسك الذي امتلأت بالنور محبة الخلق التي تعود عليك من الإحسان لو ترجمت إلي دعوات بينما أنت حاضر بين الناس تمارس عمل الخير أو أنت غائب عنهم لكن ذكراك تمر على خاطرهم  فيسألون الله أن يجزيك خير الجزاء لقد عملت الخير وربما نسيته لكن  الله تعالى لا ينساه، وأصحاب القلوب الطيبة لا ينسون صاحب المعروف ويبادلون صاحبه إحسانا بإحسان.

ومن تجارب الحكماء ورؤيتهم لأثر الإحسان ما عبروا عنه بقولهم: صاحب المعروف لا يقع وإذا وقع وجد متكأ. 

إن المعروف الذي قدمته قد انتهى وانتهت أيامه لكن الله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا، فيبقى المعروف حافظا لصاحبه من الوقوع في الهاوية، وإذا حدث ووقع صانع المعروف جاء معروفه فحماه من أن يتحطم وتتأذى روحه أو بدنه.

إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم قاعدة قرآنية تدعونا إلى تقييم مواقفنا من الإحسان للآخرين والنظر بعين القرآن إلى النفس الإنسانية وما تستحقه من صاحبها لكي يحافظ عليها في الدنيا ويسعى أن تكون بأفضل المنازل في الآخرة بالإحسان في الأقوال والأعمال وعدم أذية من نحسن إليهم، فهم أصحاب فضل علينا حين يجري الله تعالى علينا رحمته ورزقه حين يوفقنا للإحسان إليهم.