كلما تأملت في أحوال الناس وجدت بعدهم عن تعاليم الدين يباعد بينهم وبين مقتضيات التصرف السليم الذي ينتجه التفكير الصحيح والوصول إلى كل هدف عن طريق أسبابه وهذه قصص ثلاث تمثل إغراقا في الوهم وبعدا عن الأسباب السليمة. أولها: رجل اشترى سيارة جديدة ووضع تحت كل إطار من إطاراتها بيضة ثم داسها جيئة وذهابا وآخر اشترى سيارة جديدة وذبح دجاجة وأسال دمها على كل إطار من إطارات السيارة وثالث: مقاول بدأ يحفر أساسات بيت جديد وأصيب بعض العمال بإصابة عمل – قد تحدث في كل موقع من مواقع العمل – فذهب مباشرة وأحضر خروفا ليذبحه ويسيل دمه في موضع الحفر.

هذه القصص الثلاث وغيرها تكشف لنا عن طبيعة إنسانية تتخذ وسائل خاطئة لأهداف صحيحة لن يقول عاقل أي كان مستواه العقلي أن دهس البيضة يحفظ السيارة من عيون الحاسدين ومن أخطاء البشر التي تتلف المركبة وتقتل بني آدم ولن يقول عاقل ان دماء الدجاجة يمكن ان تكون تأمينا شاملا على هذه السيارة التي دفع فيها مبلغا كبيرا من المال ولن يقول عاقل أن دماء الخروف ستحمي العمال من الإصابات التي تنتج عن أخطاء بشرية وعدم اتباع قواعد السلامة المهنية.

بين طرفي نقيض: كل عاقل مؤمن أو كافر مهتد او ضال يعرف أن هناك وسائل للوصول إلى الأهداف وأن الوسائل إذا كانت خاطئة ستؤدي حتما إلى نتائج سلبية وقد وقف الناس موقفين من قضية الأسباب:

أحدهما ذلك الذي يمثله جحا حين ذهب إلى السوق وسئل ماذا تشتري قال بقرة فقيل له قل إن شاء الله أشتري بقرة قال لماذا أقول إن شاء الله المال في جيبي والبقر يملأ السوق؟ سُرق المال من جيبه وعاد خائب الرجاء. وسئل أين البقرة قال سرق المال إن شاء الله كنا نسمع ذلك ونضحك حتى رأيناه راي العين في سلوك أناس وأقوالهم وأعمالهم. إن الشعور بالاستغناء بالأسباب ينسي المسبب سبحانه وتعالى.

وطرف آخر يظن أنه متوكل على الله وهو جاهل بالتوكل في أحد الحروب التي نشات بين المسلمين وغيرهم في بداية عصر الثورة الصناعية ركب المقاتلون السفن وجئ بمن يقرأ صحيح البخاري في السفينة فقال أحد الظرفاء (يا سادة إن السفن تسير بالبخار لا بالبخاري).

الأسباب في القرآن والسيرة: رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا الأخذ بكل الأسباب التي توصل إلى الغاية المرجوة في كل عمل من أعماله ففي الهجرة يضع الخطة ويموه على من خرج باحثا عنه ويستخدم أمهر الأدلة الذين يعرفون الطرق ويحرص على تواصل خطوط إمداده بالغذاء والمعلومات وهو مع كل ذلك لا ينسى أن الله تعالى معه يؤيده وينصره {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]

القرآن الكريم يعلمنا دقة الكون وترتب بعضه على بعض فيقول الله تعالى {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [يس: 40]

الأسباب لمن أحسن استخدامها: هذه الأسباب التي يقوم عليها نظام العالم من أدركها وأحسن استخدامها تمكن من الاستفادة من خيرات الكون مهما كان دينه وإننا لنرى أمما لا تدين بدين واجتهدت في معرفة الأسباب وإحسان استخدامها و تمكنت من مفاتيح الانتاج والاقتصاد.

الأسباب والمسبب سبحانه وتعالى: لكن هذه الأسباب مع أهميتها ودقتها ينبغي أن نعلم أنها في البدأ والختام مخلوقة لله تعالى قد يخرقها الله تعالى لأحد أنبيائه أو أوليائه ففي حال الأنبياء خرق هذه الأسباب يسمى معجزة وفي حال الأولياء يسمى كرامة و إذا كان الأنبياء قد ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم فإن باب الولاية مفتوح لمن يوالي الله تعالى بالطاعة فيواليه الله عز وجل بالكرامة ولنا أن نتساءل هل خرق الأسباب للأنبياء والأولياء معناه أن نظام الأسباب قد انهدم وأن الخرق هو الأساس بالطبع لا فالله تعالى يخرق الأسباب لنبيه للدلالة على أنه مرسل من الله تعالى ولتثبيت إيمان المؤمنين ومعونة من الله تعالى للمؤمنين في موقف استنفذوا فيه قدرتهم وبذلوا ما في وسعهم.

الأسباب المعنوية: وإذا كانت هناك أسباب مادية يستخدمها المسلم والكافر للوصول إلى غايته فإن هناك أسباب معنوية توصل إلى الغايات منها الدعاء الذي يستجمع فيه المسلم يقينه في الله تعالى وأن الكون مخلوق له وأن الله تبارك اسمه فعال لما يريد ومنها الإحسان إلى الضعفاء قال  النبي صلى الله عليه وسلم النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ابْغُونِي ضُعَفَاءَكُمْ ، فَإِنَّمَا تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ. هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.[ سنن الترمذي]

ومنها الاستغفار والذي يعيني فيما يعني رصد الأخطاء والابتعاد عنها وتصحيحها والطلب من الله تعالى ان يتجاوز عنها.

ومنها معاونة الناس فالله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.

ومنها صلة الرحم قال صلى الله عليه وسلم  مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ رِزْقُهُ ، أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ.[ صحيح البخاري]

ومنها الذكر عن عَلِيٌّ أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَمُ شَكَتْ مَا تَلْقَى مِنْ أَثَرِ الرَّحَا فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَبْىٌ فَانْطَلَقَتْ فَلَمْ تَجِدْهُ فَوَجَدَتْ عَائِشَةَ فَأَخْبَرَتْهَا فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ بِمَجِيءِ فَاطِمَةَ فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْنَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا فَذَهَبْتُ لأَقُومَ فَقَالَ عَلَى مَكَانِكُمَا فَقَعَدَ بَيْنَنَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِي وَقَالَ أَلاَ أُعَلِّمُكُمَا خَيْرًا مِمَّا سَأَلْتُمَانِي إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا تُكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ وَتُسَبِّحَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ وَتَحْمَدَا ثَلاَثَةً وَثَلاَثِينَ فَهْوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ.[ صحيح البخاري]

ومن الأسباب التي تغيب عن الكثيرين منا  الحرص على العمل كفريق يكمل بعضه بعضا في الفكر والتخطيط والتنفيذ بحيث تتلاقى الجهود وتعظم الثمرة ونتلافى الأخطاء.

معالم في اتخاذ الأسباب

1- لابد للغايات الشريفة من وسائل شريفة فلا يمكن الوصول إلى غاية شريفة بوسيلة حقيرة ولا يمكن في سبيل الوصول إلى غاية شرعية أن نصل إليها بما لا يحل.

2- لا يمكن في سبيل الحفاظ على الأوطان أن تذهب حياة المواطنين سدى ولا يمكن للإنسان أن يصل إلى هدفه على أشلاء الآخرين وآلامهم ودموعهم.

3- ويبقى إذا استنفذ الإنسان وسائله المتاحة ثم لم يصل إلى هدفه أن يراجع وسائله فلعل الوسيلة الناجعة لم يتوصل إليها بعد ولعله لم يستخدم الوسيلة الناجعة الاستخدام الأمثل ولعل الله تعالى حجب عنه من الشر ما لم يدركه فليست كل الأماني تسبب سعادة الإنسان فكم من أمنية سعى إليها الإنسان ولمّا تحققت تمنى أن تكون قد غيبت عنه.

4- أحيانا يكون السبب منا لكننا نلقي باللوم ونعلق أخطاءنا على شماعة الآخرين، صورة الإسلام في الغرب صورة مشوهة هل هي بسببنا نحن كما قيل الإسلام محجوب بأهله، هل هي بسبب فهم الغرب لتعاليم الإسلام فهما يتوافق مع تجربتهم مع الدين المسيحي، أو فهما شوهه بعض التفاسير والأحكام التي تبنت خطا يتنافى مع سماحة الشريعة ويسر الملة

5- القرآن الكريم  يرشدنا إلى بيان أهمية مراجعة أنفسنا {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } [الشورى: 30]

6- العاقل هو الذي لا ييأس إن لم تبلغه وسيلته إلى هدفه بل يطرق أبوابا أخرى ويحتسب  سعيه هذا وتجاربه عند الله ليؤجر عليها.

الوسائل الشريفة والأغراض الدنيئة: استخدام الوسائل الشريفة لأغراض دنيئة ففي بعض البلدان تستخدم المسبحة للتباهي ولمغازلة النساء ودعوتهن للفسق وبعض من لم يقدر الله حق  قدر يستخدم الخطاب الديني لتغييب الوعي وعزل الناس عن واقعهم ويستخرج من النصوص الشرعية ما يحيد بالناس عن سواء السبيل ويبتعد بهم عن روح التشريع.

الوسائل الحديثةبين المضرة والنفع: استخدام الوسائل التي أنتجتها الحضارة الحديثة والتي يمكن استخدامها كوسائل للدعوة إلى الله أو لتزيين الباطل والتحريض على الفجور يمكن استخدامها لبيان محاسن الإسلام وصلاحيته وإصلاحه لكل زمان ومكان ويمكن استخدامها لبيان محاسن النساء والدعوة إلى الرذيلة وتهوين أمرها على الناس.

وقد تفتق ذهن أحد المهتمين بالعلم عن فكرة يستخدم فيها الواتس آب لتسجيل مقطع من كتاب كبير من كتب العلم لا يتسع الوقت لقراءته وتتثاقل النفوس عندما ترى حجمه هداه الله تعالى إلى أن يسجل مقطعا صوتيا من هذا الكتاب كل يوم ويسجل زميل له مقطعا آخر ويتبادلان التسجيل والسماع هذا نموذج من بين عشرات النماذج لاستخدام هذه الوسائل استخداما صحيحا ولا زالت هذه الوسائل قابلة لاستخدام أمثل وأقوم يحق الحق ويبطل الباطل.