معضلة التعامل مع التراث تبقى دوما هي العقبة الأهم في طريق أي أمة نحو انطلاقة تستند إلى جذورها الثقافية وهويتها الأصيلة. فبين داع لتجاوزه بالكلية واعتباره جزءًا من الماضي لا يجوز استدعاؤه لحاضر مختلف ومتغير، وبين مستغرق فيه شكلا بغير مضمون تحت دعاوى ظاهرية هي في الحقيقة عصبية ومذهبية. يقف الفريقان عائقا أمام نهضة الأمة وتخطيها عقبات حاضرها نحو مستقبل أكثر رفاهية..

إسلام أون لاين” استطلعت آراء اكاديميين وخبراء في الطريقة المثلى للتعامل مع التراث وعلاقة ذلك بنجاح الأمة او فشلها، فكان ما يشبه الاتفاق على ضرورة التسلح بسلاح الوسطية في التعامل مع هذا التراث..

وبشيء من التفصيل أكد الخبراء على ضرورة أن يكون التعامل في إطار احترام للجهد البشري المبذول، مع ضرورة وضعه في سياقه الصحيح زمانا ومكانا، وإمكانية القياس عليه تبعا للقواعد المعروفة، مع ضرورة أن يمارس تلك العملية متخصصون مؤهلون قادرون على ذلك حتى لا ينتج غيرهم أفكارا مشوهة تزيد من البون بين الأمة وتراثها..

تقدم أي أمة مرهون بتعاملها مع تراثها وأي إفراط أو تفريط يجعل من هذا التراث عائقا أمام تقدم الأمة

روح التحدي

وفي البداية طالب الدكتور مجاهد الجندي _ رئيس قسم التاريخ الاسلامي والملقب بمؤرخ الأزهر _ طالب بأن تكون معالم الطريق واضحة وأن تكون خُطوات الأمة ثابتة واثقة وأن يسودها روح التحدي للتخلف، والتمرد على الواقع المرير الذي جعلها في ذيل الأمم، مشددا على أن هذا لن يكون إلا من خلال حسن التعامل مع التراث واستلهام ما فيه من ذخائر، تمثل دفعة إلي الإمام للحاق بالآخرين، وخاصة أن تراثنا زاخر بنماذج أكثر من رائعة من الإبداع والابتكار والاختراع في مختلف ميادين العلوم الإنسانية والتطبيقية.

وأوضح الجندي أن النهوض بالتراث والتفاعل مع العصر وتحقيق التقدم بمفهومه الشامل وخاصة من الناحية العلمية ليس مستحيلا، أو قاصرا على فعله العرب والمسلمون الأوائل فقط، وإنما لدينا نماذج معاصرة يمكن أن تعطينا الأمل في إمكانية التخلص من غبار التخلف العلمي، مثلما فعلت اليابان وألمانيا بعد أن دمرتهما الحرب العالمية الثانية، ومع هذا استطاعتا بالإرادة والتخطيط أن يكون اقتصادهما من أقوى الاقتصاديات في العالم، مؤكدا أن هذا التقدم لم يحدث نتيجة قطيعة معرفية مع تراثهما بل نتيجة الاحتفاظ بهذا التراث واستلهامه والقدرة الكبيرة على الافادة منه وجعله منصة انطلاق.

الدول التي تقدمت بعد انهيارها كانت متواصلة مع تراثها لا منقطعة عنه… واليابان وألمانيا خير دليل

ويتابع مؤكدا: لست مبالغا انه إذا توافرت الإرادة بمفهومها الشامل لدي الحكام والشعوب لتمكنت الأمة من استعادة عزتها المفقودة في عقود قليلة، شريطة التعلق بتراثنا والبناء عليه واستخراج ما فيه من ذخائر.. خاصة الروح الوثابة داخل حلقات تاريخنا الإسلامي التي تثبت قدرتنا كعرب ومسلمين على استعادة وجودنا في بؤرة القيادة الحضارية.

خطوات عملية

وبصورة عملية يطرح الدكتور أيمن سيد فؤاد أستاذ المخطوطات ورئيس جمعية المؤرخين العرب، مجموعة من الخطوات العملية التي يمكن من خلالها جعل التراث وسيلة للنهوض بالأمة، وأولها : ضرورة دراسة التاريخ الحضاري العالمي وخاصة فترات الأزمات العصيبة التي مرت بالأمم، وثانيها : تحول هذه الدراسات الجادة لتجارب الآخرين إلى روح وإرادة عامة في الأمة، وثالثها : أن يقدم الأكاديميون حلولا عملية قابلة للتطبيق لمشكلات الأمة وكيفية النهوض بها من خلال احتفاظها بتراثها واستلهام ما فيه من قيم وذخائر روحية وعلمية وأدبية وغيرها، والبناء عليها.. وكذلك التواصل مع الثقافات العالمية المعاصرة..

العمل الجاد على إزالة معوقات البحث العلمي، والاستفادة من تجارب الآخرين في قهر التخلف اهم وسائل النهضة بالتراث

ويتابع أستاذ المخطوطات قائلا: ولعل أهم تلك الخطوات هو العمل الجاد على إزالة معوقات البحث العلمي، واتخاذ وسائل التقدم الاقتصادي مع الاستفادة من تجارب الآخرين في قهر التخلف، مؤكدا أن لدينا نماذج أخري مثل الصين وكوريا وماليزيا وغيرها، مما يؤكد أن النهضة ليست مستحيلة إذا ما تم اتخاذ أسبابها العملية ورغبت في ذلك الشعوب والحكام، وتوافرت لديهم الإرادة الحقيقية وليس الكلامية.

وحذر فؤاد من الفهم المغلوط لدي بعض التغريبيين من أن تراثنا سبب تخلفنا ولا بد من التخلص منه، وإلقائه في مزبلة التاريخ، وتقليد الغرب تقليدا أعمى حتى نصل إلى ما وصل إليه من تقدم علمي، مشددا على أن تلك الرؤية تنم عن عداء دفين لكل ما له علاقة بالإسلام وتراثه، بل التنازل عن مقومات العروبة ولغتها والدعوة إلى ارتداء عباءة الآخر بشكل آلي، دون احترام للخصوصية بمعناها الشامل والذي يميز أمة عن أمة، بل وإنسان عن إنسان، فهؤلاء يريدون منا أن نكون ” إمعة ” وليس ” أمة ” لها دين وتاريخ وحضارة وتراث وهوية.

لكن فؤاد عاد واستدرك مؤكدا أن هناك بوادر صحوة نحو إحياء التراث لابد من تشجيعها وتصحيح تعاملها مع قضية التراث؛ لأن عدم الاتفاق على قواعد محددة سيؤدي الى مزيد من الانقسام والتشرذم الذي عانت منه الأمة كثيرا لأنها فصلت حاضرها عن ماضيها..

الإيمان بالمصدر

أما الدكتور صبري عبد الدايم العميد السابق لكلية اللغة العربية فيشير إلى أن الانطلاق بالتراث إلى النهضة يتطلب أن نؤمن بأن المصدر الأساس للتراث الإسلامي والعربي هو القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، وما فجراه من إبداعات علمية وفكرية وثقافية، انطلقت من جعل طلب العلم فريضة وإتقان العمل عبادة، والعمل الجماعي قيمة ايجابية، حتى أنه جعل يد الله مع الجماعة ، وحرم كل ما يتنافر مع الفطرة السوية مثل السرقة والكذب والخيانة وضياع العدل وانتشار الظلم والتمييز والعنصرية بين البشر، وغيرها من السلبيات التي حولت واقع المسلمين من التقدم الذي كان عليه أجدادنا إلي تخلف وتشرذم وتفرق وضيق أفق نعاني منه جميعا، ولهذا فإن التراث يعتبر من أهم الوسائل الفعالة في ترسيخ الهوية بمفهومها الشامل وخاصة الهوية الثقافية.

تراث الأمة بين معضلتين كبيرتين أولهما إفراط الظاهريين، وثانيهما تفريط الحداثيين، والاثنان على خطأ

وتابع عميد كلية اللغة العربية: الأمة بين معضلتين كبيرتين في التعامل مع التراث أولهما : إفراط الظاهريين الذين يقدسون كل التراث ويرفضون إعمال العقل في التعامل معه بل ويريدون حبس الأمة فيه، وثانيهما: تفريط الحداثيين الذين يرفضون تراثنا جملة وتفصيلا ، وكل من الفريقين على خطأ يجعل من التراث مشكلة بسوء فهمه له وطريقة التعامل معه والنظر اليه.

وفي خطوة قال إنها تأسيسية قال عبد الدايم: في قضية التراث لا بد من التفرقة بين نوعين: الأول: نصوص سماوية ممثلة في القرآن الكريم أو وحي إلهي بالمفهوم العام للوحي الذي يشتمل على السنة النبوية الصحيحة، وهذا النوع لا يصح بأي حال التلاعب به زيادة أو نقصا أو تبديلا أو إخضاعه لعملية النقد البشري، أما النوع الآخر فيتمثل في الاجتهادات البشرية في فهم هذه النصوص وتطبيقها على الواقع، وهذا موروث تاريخي يمكن الانتفاع به، بل الانطلاق منه إلى تحقيق نهضة الأمة إذا أحسنا البناء عليه.

وأنهى عبد الدايم كلامه مؤكدا على أن طريقة التفكير الظاهرية العاجزة عن فهم التراث جعلت منه وسيلة لجمود وتخلف الأمة، وعجزها عن حل مشكلات العصر أو استيعاب مستجداته، وضيقوا الإسلام وجعلوه جامدا عاجزا عن معالجة أية مشكلات أو استيعاب أية مستجدات، وبالتالي فقد صلاحيته لكل زمان ومكان، وهذا ما اعطي الحداثيين والعلمانيين بل واللادينين فرصة ذهبية للنظر إلى التراث الإسلامي كله – بما فيه القرآن والسنة – على أنه يمكن الاستغناء عنه لعدم مناسبته مع عصرنا وبالتالي أداروا ظهورهم لكل هذا الموروث.