نسلط الضوء في هذا المقال على ضوء الجدل الغربي المرتبط بالديالكتيك والسفسطائية للنظر في مفهوم الجدل القرآني في ضوء الواقع والفكر وانعكاس كل منهما على الآخر في الفهم القرآني.

فعلى الصعيد النظري كانت الغاية من الجدل القرآني الوصول للحقيقة اليقينية الثابتة، وأولى هذه الحقائق اثبات وجود الله سبحانه وتعالى وصولاً لأثبات التوحيد، لذلك مارس الجدل القرآني البراهين والأدلة وطرق الاستدلال الصحيح التي ساقها للمخالفين في الرأي، فالبعد النظري للجدل القرآني هو اثبات الحقائق اليقينية لا تداول الجدل للوصول الى جدل آخر للوصول الى الكمال كما ترى الديالكتيك، أو لغايات الاستعراض اللغوي والأساليب في اثبات الاحتجاج فقط كما ترى السفسطائية، لذلك استخدم القرآن الكريم من خلال الجدل سياق الأدلة والبراهين لأنها لا تقبل الظن قال تعالى: {….قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة :111]

وقال تعالى: { وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ۖ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم:28 ]

فالقران الكريم بمنهجه العلمي استخدم الجدل للوصول للحقائق من خلال البرهان والدليل الحسي والعقلي ولا يقبل الجدل القائم على الدور والتسلسل اللامتناهي نظريا وواقعياً، فالغاية في الجدل القرآني هي الوصول لليقين، لذلك سلك القرآن كل ما يتصوره العقل من الطرق والبراهين والوسائل والبيانات لإثبات الحق .

كذلك فالجدل القرآني انما هو لإقامة الحجة عند ظهور المعارضة والشبهة لكي يلزم المجادل ويُفهم المعاند، فهو منهج عَارض يُستخدم حين الحاجة وليس دائم ومستمر كما تراه الديالكتيك.

كذلك ارتبط الجدل القرآني بالدليل المستلزم سلامة الفطرة خلافاً للسفسطائية والديالكتيك التي أهملت هذا الجانب تماما: فإن هذا الارتباط ليس بالطريقة السببية الفلسفية التي يُبني على العلية أو الضرورة العقلية، فضلا عن كون المعرفة نفسها ليس طريق تحصيلها الدليل العقلي وحده، وهذا لا يعني إبطال عمل العقل، وإنما يعني ضرورة دخول الفطرة السليمة وتوجه الإنسان نحو طلب الحق مع صدق النية، حتى يجد المعرفة في نفسه بالأدلة والبراهين، هذا بالإضافة إلى الاستعداد للتوجه إلى الخير واستيعاب منطق الفطرة، واستبصار أجهزة الاستقبال الفطرية بالطاعات والبعد عن المعاصي، والدعاء لله تعالى أن يخلق العلم في النفس بعد النظر والتأمل، فقد ينصب الدليل ولا تحصل المعرفة، قال تعالى : {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا ۚ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ ۖ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:109].

أما على الصعيد الواقعي الذي تقول به الديالكتيك والجدل والصراع الدائم في الكون، فإن القران الكريم يظهر الاختلاف في الكون وتعدد الأوجه فيه من اختلاف الليل والنهار والألوان وغير ذلك على انه الانسجام التام للحقيقة المطلقة الموصلة للتوحيد قال تعالى : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [البقرة : 164] فهذا الخلق السابح هو تحت منظومة الانسجام ولا مجال للصراع والجدل المطلق وهذا التوازن دليل على ذلك .

ومن جانب آخر استطاع الجدل القرآني توجيه العقل في الجانب الغيبي (الميتافيزيقي ) ، وبين أن جميع المناهج قاصره عن أدراك هذا الجانب وتوظيفه في الجانب الجدلي وأن الوحي هو المصدر الوحيد في ذلك وهذا ما وصلت إليه الفلسفة الغربية الحديثة ، يقول  “أمانويل كانت” الفيلسوف الألماني في مقدمة كتابة ” نقد العقل المحض” وليس في وسع العقل أن يقدم إجابات شافيه في مسائل الميتافيزيقيا ، وخلق العالم والروح لأن قدرته كلها دون ذلك . وهذا يؤكد شمولية الجدل القرآني في مجال المعرفة في (عالم الغيب وعالم الشهادة): فمجال عالم الشهادة هو الإيمان بالمحسوس فجاء الجدل القرآني يتطرق الى هذا الجانب ويشبعه من الناحية الاستدلالية، وكذلك جاء الجدل القرآني وغذى المجال الغيبي هو الإيمان بالا محسوس، الذي افتقرت إلية المناهج الغربية القديمة والمعاصرة.

أما على صعيد المقارنة مع السفسطائية، فإن الجدل القرآني قائم على العقل ومنطق الحجة والبلاغة والبيان في آن واحد وهو استدلال يقوم على مقدمات وعرض ونتائج، بل أن القرآن تجاوز حتى منهج المنطق الأرسطي اللاحق للسفسطائيين القائم على الدليل العقلي في منهجيته الجدلية، فلم تكن طرق تحصيل اليقين في القرآن محصورة في الاشكال المنطقية اليونانية التي عرضها ارسطو فقط، فالمنطق الارسطي يزن الاستدلال ولا ينُشئ الدليل فهو يقيس مادة الدليل ومنهجية قياس الدليل فقط.  وفي الحقيقة ان اليقين في مادة الدليل لا في شكلها. وبذلك يكون القرآن الكريم قد خالف السفسطائيين في هذا المنهج، وتفوق على المنطق الارسطي كذلك في تعدد صور الاستدلال، وكذلك في انشاء المادة العلمية التي تتناسب مع الدليل .

فيؤكد القرآن على الاستدلال اليقيني، وجعله معيار في الحكم على القضايا ويرفض الوحي الاستدلال الظني، الذي لا يقف على قدم ولا يقدم أدلة ، قال تعالى: { وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ۚ إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } [يونس:36].

والعلم اليقيني هو: العلم الحاصل عن نظر واستدلال، أو هو زوال الشك أيضًا، وحين يجزم المدرك بأن ما أدركه مطابق للواقع قطعًا، يكون كذلك في حقيقة أمره بالدليل القاطع فإن جزمه هذا هو ما يسمى باسم «اليقين» خلافا للسفسطائية.

أما الظن والشك الذي مارسته السفسطائية فهو يطلق على كل درجات ما دون اليقيني حتى أدني درجات الوهم، ويأتي من دون مرتبة الشك مرتبة الظن المرجوح، وهو الظن الوهمي المقابل للظن الراجح، ولذلك يسمي وهمًا، وهو على درجات تقابل درجات الظن الراجح، فبمقدار رجحان الاحتمال المقابل له تكون نسبة ضعفه، فإذا كان الاحتمال المقابل له قريبا من يقين الإثبات كان هو قريبا من يقين النفي، وليس دون مرتبة الظن المرجوح ألا مرتبة الباطل بيقين وعندئذ يدخل في عموم اليقين، وتقفل الدائرة، وحين يصل الظن المرجوح إلى مرتبة الباطل بيقين يصطدم بسقف الطيش، كما يصطدم نقيضه بأرضية الحق بيقين .

أما الشك فهو التردد بين النقيضين بلا ترجيح لأحدهما على الآخر عند الشك، وقيل: هو ما استوى طرفاه وهو الوقوف بين الشيئين لا يميل القلب إلى أحدهما على الآخر .

كذلك نلاحظ أن القرآن الكريم لم يسلك مسلك السفسطائيين فخفف من النزاعات الجدلية التي قد تكون سبباً في ضياع الحق. فكانت استدلالاته مشتملة على التوجيه والدعوة باللين والرفق، ولهذا أمر الله تعالى موسى وهارون عليهما السلام أن يدعون فرعون باللين والتلطف فالغاية هي الوصول للحقيقة والرغبة في استجابة الخصم لذلك وليس مجرد الجدل كما ترى السفسطائية قال تعالى{ واذهبا إلى فرعون … }

وانما كانت الغاية من الجدل وإقامة الحجة والبرهان عند ظهور المعارضات والشبه لكي يلزم المجادل ويفحم المعاند والمكابر.

ومن أعظم المسائل التي يعتمدها القرآن الكريم في الجدل خلافا للسفسطائية والديالكتيك الاعتماد على ما فطرت عليه الانفس من الايمان بما تشاهد وتحس دون للتعمق والإمعان، وهذا الجدل المنسجم مع الفطرة يوصلك الى أثر بالغ وقوة في الحجة. لأن أدلة القران وبراهينه الجدلية بنيت على ما فطرت عليه النفوس وما تشهد بصحته العقول دون اخلال بضوابط الاستدلال، وروعة البيان، وسلامة المنطق، فهو في تناول الخاصة والعامة، فيأتي من الحقيقة البرهانية بما يرضي العقول ومن المتعة الوجدانية ما يهز القلوب ويحرك المشاعر .

وكذلك لا يمكن أن نتجاهل من خلال هذه المقارنة البعد الأخلاقي والقيمي الذي مارسه القرآن والفكر الإسلامي للجدل ومنهج ممارسته مع الاخر خلافاً للسفسطائية والديالكتيك، التي مارست ارغام الخصم على قبول الرأي دون الاهتمام في المنهج الأخلاقي، فمنهج الجدل القرآني مبني على آداب عظيمه تظهر قوة هذا المنهج واهتمامه بالبعد الأخلاقي، كترك المداخلة والانتظار والامهال الى ان يأتي الخصم على اخر كلامه، وينتظم آخر معانيه، والاقبال على خصمه، والاصغاء اليه دون غيره، وأن لا يخرج عن مسألة الى أخرى حتى يستوفي الكلام في الأولى، واستعمال الحس الجميل، دون التشنيع والتقبيح، وحفظ المقول، ولا يغير كلامه بما يحيل المعنى، ولا يلغو، لأن ذلك يعمي عن البصيرة، ويكسر حدة الخاطر. قال تعالى في وصفه للمناهج التي تخالف الآداب في الجدل { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغو فيه لعلكم تغلبون } فالقرآن الكريم تجاوز المناهج الآنفة الذكر الى ممارسة القيم والآداب في المجادلة والحوار، وهذا يعطي عمقاً، حضارياً لممارسة الحوار والجدل بين الانسان وأخيه الانسان بالرغم من الاختلاف في التصورات  .