علم الجغرافيا من أبرز العلوم التي اعتنى بها العرب، إذ تضم المكتبة التراثية مئات المصنفات في المدن والبلدان والأقاليم تضم أعدادا لا تحصى من الخرائط والأشكال التي وضعها الجغرافيون العرب الأوائل، وهي لا تعبر عن جهودهم الكاملة في مجال رسم الخرائط لأن بعضها تعرض للضياع مع مؤلفاتها فيما فقدته الحضارة الإسلامية من تراث فكري وبعضها الآخر للتحريف على يد نُساخ الكتب ممن افتقدوا مهارة رسم الخرائط والدقة في النقل، ورغم هذا يمكن القول إن رسم الخرائط بلغ لدى العرب حد الإتقان حتى صار علما، وأنهم طوروا هذا العلم وارتقوا به وتجاوزوا جهود الإغريق، وكانت لهم مدارسهم الخاصة في ذلك، وقبل أن نفصل في ذلك نتوقف أمام الأسباب التي ساعدت على ازدهار الخرائط العربية.

عوامل تطور علم الخرائط

يتحدث المؤرخون عن بضعة عوامل أسهمت في تطور علم الخرائط لدى العرب، ومن بينها:

أولا: الإفادة من التراث الجغرافي للأمم السابقة، سواء في ذلك ما قُرئ بلغته الأصلية أو مترجما إلى العربية، ومن أمثلة ذلك ما ذكره ابن النديم من أن كتاب بطليموس (صفة الأرض) نقله الكندي نقلا رديئا ثم نقله ثابت بن قرة الحراني نقلا جيدا، ويبدو هذا لدى المسعودي الذي اطلع على الخرائط اليونانية وأثبت ذلك في مواضع متفرقة من كتبه.

ثانيا: الإفادة من منجزات علم الهيئة، بلغ علم الهيئة لدى العرب درجة من الدقة والإتقان لم يصل إليها في الهند أو فارس أو غيرهما، وقد اعتمد الجغرافيون المسلمون على الجداول الفلكية وكتب الأزياج التي تحدد حركة الكواكب في رسم الخرائط، وأوضح الأمثلة على أثر هذه الكتب نجده لدى البيروني الذي يتحدث في الباب العاشر من كتابه (القانون المسعودي) عن أسماء البلاد التي في الأقاليم موضحا، أمام كل اسم درجة الطول والعرض.

ثالثا: تطور علم الملاحة لدى العرب، أفاد الجغرافيون من التطور الذي حققه علم الملاحة واستطاعوا أن يدمجوا بين المعارف البحرية والجغرافية فظهرت لديهم “الجغرافيا البحرية”، وهو الأمر الذي أوضحه المقدسي في كتابه (مروج الذهب) من أن بين يدي البحارة دفاتر يتدارسونها ويعولون عليها، وأنه اطلع عليها وقابلها على الخرائط التي كانت معه، وتعويل العرب على كتب الملاحة في رسم الخرائط يبرهن على أصالة التجربة العملية لديهم، كما مكنهم من نقد التراث اليوناني وتقويمه وتجاوزه  كما يفترض الدكتور عبد المتعال الشامي.

رابعا: كثرة الرحلات بين ربوع العالم الإسلامي وخارجه، وهي عامل آخر من عوامل تطور علم الجغرافيا، إذ أضافت إلى معارف الجغرافيين معلومات إضافية عن البلدان والمدن وخصائص الشعوب المختلفة، حيث قدم هؤلاء الرحالة وصفا لكثير من الطرق غير المألوفة في المناطق النائية في أقصى الشرق أو الغرب، وقد سهل ذلك من إمكانية رسم خرائط لهذه الطرق، وأوضح أمثلة ذلك نجدها لدى ابن جبير وابن بطوطة[1].

خامسا، القول بكروية الأرض، يرجح الأستاذ فلاح شاكر أسود أن مبدأ كروية الأرض كان له أبلغ الأثر في دقة الخرائط العربية، ذلك أن جل الجغرافيين صرحوا في مصنفاتهم أن الأرض على شكل كرة مستديرة وأنها ليست مسطحة كما توهم الأوروبيين.

الاتجاهات العامة في رسم الخرائط

لم يكن رسم الخرائط عملا عشوائيا بل التزم الجغرافيون المسلمون ببضع قواعد كان لها أثرها الإيجابي على دقة الرسم، ومنها: المعرفة التامة بخطوط الطول ودوائر العرض، والاطلاع على المصادر الجغرافية السابقة وتمحيصها ونقدها والتثبت من دقة ما ورد فيها، والاعتماد على الرؤية والتجربة العملية ممثلة في الرحلة إلى كثير من المناطق، وأخيرا سؤال البحارة والتجار الذين رحلوا إلى بلاد بعيدة، وعلى هذا تفاوتت دراساتهم بسبب دقة الالتزام بهذا المنهج فنجد في المقدمة ابن حوقل والمقدسي والإدريسي الذين تفوقت جهودهم في مجال الخرائط على جهود غيرهم.

يميز الأستاذ ألدو مييلي في كتابه (العلم عند العرب) بين ثلاثة اتجاهات في رسم الخرائط:

الاتجاه الأول، وتجسده الكتابات الجغرافية في القرن الثالث الهجري وعلى الأخص لدى الخوارزمي، ويغلب عليها التأثر بخرائط بطليموس اليونانية.

الاتجاه الثاني، وظهر منذ القرن الرابع الهجري وامتد حتى منصف السادس، وجاء على خلاف الاتجاه الأول حيث تخلصت الخرائط من الطابع اليوناني واستقلت في التصور العام والتنفيذ، وهي خرائط “أطلس الإسلام” للبلخي والاصطخري وابن حوقل والمقدسي.

الاتجاه الثالث، ويمثله الإدريسي في القرن السادس ومعه بلغت الخرائط العربية حد الدقة والإتقان، وذلك بسبب العناية بالجغرافية الرياضية، حيث يتسع الرسم ليشمل العالم المعروف.

ويفترض الدكتور عبد المتعال الشامي أن تقسيم ألدومييلي تقسيم تاريخي، وأن المسألة ليست مرحلة تاريخية تسلم أخرى وإنما هي اتجاهات لكل منها أسلوب في الرسم، وهو يميز بين اتجاهين واضحين:

الاتجاه القديم، الذي يمزج بين النقل عن التراث العالمي مع الإضافة والتطوير، وكان منطقيا أن يسود في القرون الأولى حين درس الجغرافيون العرب الأرض على أساس الأقاليم السبعة، أي النطاقات الممتدة من الغرب إلى الشرق لتشكل الربع المعمور.

والاتجاه الجديد، وهو اتجاه يكشف عن أصالة الجغرافية الإسلامية حيث تم الانتقال من طريقة الأقاليم السبعة إلى طريقة الوحدات العرقية أو السياسية المتجانسة، حيث تمت دراستها كوحدة جغرافية متكاملة، وجعلوا لكل وحدة خريطة أو شكل تصويري يعبر عنها.

نماذج من الخرائط العربية

خلف الجغرافيون العرب مئات الخرائط، تختلف كما أسلفنا في أسلوب رسمها ومن أشهرها:

أولا: الخريطة المأمونية: وهي أول خريطة رسمها العرب للعالم، وسميت كذلك لأنها رسمت من أجل الخليفة المأمون في مطالع القرن الثالث الهجري، وتجمع المصادر على أنه اجتمع على رسمها سبعون من الجغرافيين وكان بينهم الخوارزمي (ت: 232 ه) الذي كان ينتمي إلى دائرة فلكي المأمون وكان على صلة وثيقة بدار الحكمة المشهورة. 

ثانيا: خرائط الزهري (ت:545ه) وهو امتداد لمدرسة الخوارزمي في رسم الخرائط حيث يشير في مفتتح كتابه (الجغرافية) إلى أنه نُسخ من جغرافية الفزاري التي نسخت من جغرافية أمير المؤمنين المأمون، ويبدو أنه يستخدم لفظ جغرافية بمعنى خريطة أو على الأقل يضم لفظ خريطة مع أشياء أخرى، وقد رسم الزهري في كتابه ما أسماه (خريطة الدنيا)، وأجمل منهجه في الرسم بالقول ” وقد رسمنا في الجغرافية كل أعجوبة في موضعها، وكل نهر في موضعه، وكل جبل في مكانه، وكل بحر في موضعه، كما بلغ إلينا من كلام الحكماء المتقدمين والحكماء الماضيين، واختصرنا ما شُك فيه، وما رسمنا في كتابنا هذا إلا ما صح وثبت، وجعلنا هذا الكتاب مختصرا في ذكر الجغرافية ناطقا بما رُسم فيها، وذهبناها لينظر الناس فيها فيعلموا شرقها وغربها وجنوبها وشمالها”، ولم يكتف الزهري بذكر الأقاليم في خارطته وإنما رسم الطيور والمعادن كذلك فجاءت أشمل من الخريطة المأمونية ومتجاوزة لها.

ثالثا، خرائط الإدريسي (ت: 564ه)، وهو أعظم جغرافيي الإسلام، ويمثل أطلسه ذروة التصنيف الإسلامي في علم الخرائط ويحوي كتابه (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) على كثير من الخرائط جمعت منذ سنوات في أطلس منفرد، وتعتبر خارطة العالم التي رسمها واحدة والتي استخرجها المستشرق ميلر من أفضل الخرائط حتى يومنا هذا، إذ يظهر فيها خط الاستواء، وضبطت فيها أطوال البلدان وعرضها بالدقة نفسها التي نراها اليوم[2].

اتبع الإدريسي في رسم خريطة العالم منهجا لم يسبقه إليه أحد، فقد قسم كل إقليم من الأقاليم السبعة إلى عشرة أقسام متساوية من الغرب إلى الشرق، ووضع لكل قسم من السبعين خريطة خاصة زيادة على الخريطة الجامعة، وهذه الخرائط السبعين محفوظة في النسخ المتوفرة من كتاب نزهة المشتاق، ومنها استخرج ميلر خريطة الإدريسي ونشرها بالحروف اللاتينية، وقد ظلت خريطة الإدريسي قرونا غير قليلة مرجعا للجغرافيين الغربيين ويؤكد هذا قول جوتيه :” إنه لم يكن لأوروبا مصور جغرافي للعالم إلا ما رسمه الإدريسي، وهو خلاصة علوم العرب في هذا الفن، ولم يقع في الأغلاط التي وقع فيها بطليموس”، ويشاطره الرأي المستشرق الإيطالي ألدو مييلي الذي صرح أن عمل الإدريسي فاق بطليموس في الدقة[3].

وأخيرا يمكن القول إن فن رسم الخرائط في العصور الإسلامية أخذ في الارتقاء منذ القرن الثاني مع ترجمة التراث الجغرافي العالمي وما تلاه من رسم الخريطة المأمونية، وبلغ أوجه على يد الإدريسي في القرن السادس.


 [1] عبد العال عبد المنعم الشامي، جهود الجغرافيين المسلمين في رسم الخرائط، الكويت: سلسلة رسائل جغرافية، ع 36، 1981، ص 14-15.

 [2] صبري فارس الهيتي، إبداعات العرب في علم الفلك ورسم الخرائط، بغداد: مجلة المورد، ع3، 2000، ص 26-27.

 [3] محمد عبد الغني حسن، الشريف الإدريسي أشهر جغرافيي العرب والإسلام، القاهرة: الهيئة العامة للتأليف والنشر، 1971، ص 80.