في ظل العولمة التي يقودها الغرب – تلك العولمة التي ترفض الدين، حتى الدين المسيحي، والذي حول غالب دول أوربا وشعوبها إلى ( لا دينيين)، فالكنائس خاويات على عروشها، والمتدين المسيحي في الغرب ربما يذهب إلى الكنيسة من ( مرة إلى ثلاث مرات سنويا)، وذلك بفعل ( ثقافة العولمة) التي تريد الابتعاد عن الدين؛ حتى يسهل ( للعولمة العالمية) البقاء على ( السيادة)..
وإذا كانت الشعوب والدول الإسلامية مستهدفة، فإنه لا يخفى على لبيب أن الشعوب الغربية – أيضا- هي مستهدفة، نحو ( عالم لا ديني)..
وجزء من خطة ( العولمة اللادينية) العبث بالقيم الاجتماعية التي أقرتها الأديان السماوية، وحتى غير السماوية؛ لأن الابتعاد عن القيم الإنسانية التي لا تتناقض وروح الإسلام والأديان، هي التي تحفظ للشعوب قيمتها وحيويتها؛ مما يعني التماسك الاجتماعي في المجتمعات البشرية والإنسانية، وهذا يتنافى مع أهداف العولمة اللادينية.
وكانت – ومازالت- حرب المصطلحات، هي واحدة من أدوات تلك العولمة التي تريد للشعوب في الشرق والغرب الابتعاد عن القيم الإنسانية والدينية، ومن تلك المصطلحات التي تمثل خطورة على بنية المجتمعات من خلال الفعل الاجتماعي والثقافي هو (الجندر، أو الجندرة)، والحق أن حرب المصطلحات ليست مجرد ( اختلاف لفظي)، بل هو اختلاف في المدلول والدلالات، واختلاف في البنية المعرفية، والبنية الاجتماعية، بل والبنية الدينية والعقدية.
فـ” الجندرية” جاءت لتسوق المجتمعات البشرية إلى نوع جديد، يغير المفاهيم والمصطلحات على مستوى الأسرة والمجتمع، فيما يخص العلاقة بين الرجل والمرأة في كل المجتمعات البشرية، وتغير الثابت والمستقر عند الشعوب منذ بدء الخليقة إلى يومنا هذا، فـ”الجندرية” ليس – كما يدعى في الظاهر- مساواة بين الرجل والمرأة، بل هي نخر في جذع شجرة ” البنية الاجتماعية”، لتأتي لنا بمجتمع بشري جديد، وتولد أنماطا جديدة للأسرة، أوصلتها بعض الدراسات التي تنتمي إلى ” الجندرية” إلى اثني عشر نوعا من الأسرة، بما في ذلك ” أسر الشذوذ الجنسي“، يعني أسرة رجالية (بين رجل ورجل)، وأسرة نسائية ( بين امرأة وامرأة”..
وإن الحديث عن رؤية الدين الإسلامي – خاصة من الزاوية الشرعية- يجب أن ينبي على بيان ” المقاصد الجندرية”، وما تؤول إليه تلك الدعوات التي جاءت تحت إطار “النظرية الجندرية”، وأن الدور المطلوب الأول في الخطاب الشرعي فيها – ليس السب والشتم، أو الحمية في الرد عليها- بقدر ما نحتاجه إلى الوصول إلى مرحلة ( الوعي الفكري) العميق وليس السطحي؛ حتى نخاطب العقول البشرية كلها، لأن خطر (الجندرية) كما أنه يتنافي مع روح الإسلام وتعاليمه السامية، فإنه – في ذات الوقت- يتنافى مع الأديان السماوية الأخرى، بل والوضعية، إذ يجب فهم ( النظرية الجندرية) في ضوء أنها جاءت لتؤسس لنوع جديد من المجتمعات البشرية، وهي (المجتمعات اللادينية).
وللوصول إلى مرحلة (الوعي) بنظرية الجندرية، يجب أن نُفهم الناس حقيقة تلك الدعوى، وأهم الأفكار التي جاءت بها، لأنه – كما تقرر عند المناطقة- أن ” الحكم على الشيء فرع عن تصوره”، فإن بانت الصورة واضحة للناس والمجتمعات البشرية كلها – فضلا عن المجتمعات المسلمة- فإنه ساعتها فقد انتصرنا في ( معركة الوعي) دون اللجوء إلى الفكر المتطرف، أو الفعل المتطرف؛ لأن معرفة الناس للحقيقة الغائبة هو الدور المنشود، الذي سيقود الناس للاحتكام إلى الفطرة الإنسانية التي خلق الله الناس عليها من جانب، ولمراعاة الحدود الشرعية من جانب آخر.
أهم أفكار ( النظرية الجندرية)
تقوم ركيزة ( النظرية الجندرية) على عدة أسس، أهمها:
أولا– النوع الاجتماعي لا الجنس البشري
فأول ركيزة في (النظرية الجندرية) هو عدم النظر إلى الرجل والمرأة من الناحية البيولوجية التي خلق الله النوعين عليها (ذكرا وأنثى)، وتلك الرؤية قائمة على أن النظر إلى الرجل والمرأة باعتبارهما (ذكرا وأنثى) وما يتبع ذلك من (فروق طبيعية) هي فروع مصطنعة؛ من تأثير العوامل الدينية والثقافية والاجتماعية وغيرها، فهي من صنع البشر، أي يمكن تغييرها؛ لأنها خطأ حسب الرؤية الجندرية، ولذلك يستخدمون (النوع الاجتماعي) ولا يلتفون إلى (الجنس)
فكلمة (Sex) ؛ أي: الجنس، تشير إلى التقسيم البيولوجي بين الذكر والأنثى، بينما يشير النوع (Gender) إلى التقسيمات الموازية وغير المتكافئة (اجتماعيًّا إلى الذكورة والأنوثة).
ونشير هنا إلى أن الإسلام أقر بالفروق بين الذكر والأنثى من حيث الخلقة والطبيعة، وأنه يترتب على هذا اختلاف في الأدوار المجتمعية، وهي – في الإسلام- قسمة عقلية، تتوافق مع الفطرة الإنسانية السليمة، فهناك (أدوار) خاصة بالرجل لا تستطيع المرأة القيام بها، لأنها تتنافى مع طبيعتها، وهناك (أدوار) خاصة بالمرأة، لا يستطيع الرجل القيام بها، وهناك (أدوار مشتركة) يمكن للمرأة أن تقوم بها كما يقوم بها الرجل، وهذه الأدوار المشتركة تدخل في حيز (الاختيار) لا الإجبار.
وقد أبان القرآن عن تلك الفروق الأصيلة في أصل الخلقة، كما في قوله تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران: 36]، بل إن المرأة العربية ( خولة بنت ثعلبة)– بفطرتها- أدركت تلك الفروق، حين حكم النبي – ﷺ- بطلاقها، على ما هو معهود قبل نزول آيات الإيلاء، فقالت للنبي – ﷺ-:” يا رسول الله، إن لي منه أولادا، إن تركتهم له ضاعوا، وإن أخذتهم منه جاعوا”، فأبانت عن فوارق الوظائف الاجتماعية بين الرجل والمرأة، وهذه الفروق والاختلافات لا تعني التناحر بين الذكر والأنثى، بقدر ما تدلل على أنه لا استغناء لكل من الرجل والمرأة عن الآخر، فكلاهما بحاجة إلى الطرف الآخر، وأن تلك الفروق تقود إلى الحاجة إلى التكامل، وهذا التكامل هو أحد أعمدة البناء الاجتماعي بين كل بني البشر، ليس فقط بين الذكر والأنثى، وقد قال الله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32]، فكل يخدم بعضه، وكل بحاجة إلى الآخرين.
وأما هدف ( الجندرية) فهي إلغاء تلك الفروق؛ لتغرق الرجل والمرأة، وتخرجهما عن (أصل الخلقة والفطرة {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]..
يعني أنه لما عجز البشر عن إزالة الفروق البيولوجية بين الذكر والأنثى، انتقلت (الجندرية) إلى إزالة الفوارق النوعية بين الرجل والمرأة، من خلال تغيير منظومة القيم داخل المجتمع التي تكفل هذا التغيير، بل والزج بالدين – خاصة في المجتمعات المتدنية- أنها السبب في تلك الفروق وعدم المساواة – كما يدعون- مما يجعل الناس تهرب من الدين وتلفظه، وهذا مما يحقق مقصود ( الجندرية) باعتبارها أحد أهم عوامل ( العولمة اللادينية)، التي هي وسيلة لشيء أكبر عالميا.
ثانيا– الوظيفة الاجتماعية
ومن أهم ركائز ( النظرية الجندرية) الوظيفة الاجتماعية للرجل والمرأة، وهي من وجهة نظر (النظرية الجندرية) أنه يجب إلغاء ما يسمى ( وصاية الرجل على المرأة)، وأن تلك (الهيمنة الذكورية) يجب القضاء عليها، وذلك عن طريق تمكين المرأة ومنحها القوة الاجتماعية بكافة أشكالها في المجتمع.
بمعنى أصرح، وهو (إلغاء الشراكة الاجتماعية) وتغيير شكل الأسرة في المجتمع، من ناحية، وتغيير الوظائف والأدوار من ناحية أخرى، وهذا يعني نفي ( مفهوم القوامة)، القائم في الإسلام على أن المرأة مسئولة من الرجل، فهم قائم على تحقيق مصالحها ورعايتها، كما قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } [النساء: 34]، إن رؤية الإسلام في ( الوظيفة الاجتماعية للمرأة) قائمة على أن لا تكلف المرأة فوق طاقتها، فالدور التربوي المنوط به عبء ثقيل في حد ذاته، فلا تكلف في نفس الوقت بالعمل والكسب، بل يكون ذلك من وظيفة الرجل، على أنه لا مانع أن تعمل إن أوفت حق ( الوظيفة الواجبة)، فلها الحق في (الوظيفة المباحة).
ثالثا– الأمومة خرافة
وهذا ما صرحت به عالمة الاجتماع (أوكلي)، والتي أدخلت مصطلح الجندرية في علم الاجتماع في سبعينيات القرن الماضي، فهي تقول: “إنَّ الأمومة خُرافة، ولا يوجد هناك غريزة للأمومة، وإنما ثقافة المجتمع هي التي تصنع هذه الغريزة؛ ولهذا نجد أنَّ الأمومة تعتبر وظيفةً اجتماعية”.
وهذا يعني أنه بالإمكان تغيير هذه الوظيفة، فالمرأة لا يشترط أن تكون أما ولو أنجبت!! وهذا شيء مخالف للدين والفطرة الإنسانية، ذلك أن الأمومة – في حقيقتها وجوهرا- ليست وظيفة اجتماعية فحسب، بل هي أيضا استجابة للفطرة الإنسانية، فالمرأة – حين تكون أما- لا تعطي فقط، أو أن تقوم بالوظيفة الاجتماعية فحسب، بل تكتسب المرأة من وراء الأمومة من المنافع النفسية والاجتماعية ما يجعل كل امرأة عاقلة تسعى أن تكون أما، فالأمومة كما هي عطاء، فهي – في ذات الوقت- أخذ، ولهذا كانت وصية النبي ﷺ لمن جاء يسأله عن البر بقوله:” من أحق الناس بحسن صحبتي؟ فقال – ﷺ- ” أمك”، فقال: ثم من؟ فقال: ” أمك. فقال: ثم من؟ فقال: ” أمك”. فقال: ثم من؟ فقال: ” أبوك”. فأي دين كرم المرأة الأم مثل الإسلام حين جعل لها الحق في حسن الصحبة والرعاية والتوقير والتقدير ثلاثة أضعاف ما للرجل على ابنه من هذه الحقوق؟!
رابعا– الصحة الإنجابية
ولا يقصد بـ(الصحة الإنجابية) في (النظرية الجندرية) رعاية الأم باعتبار أن من أهم أدوارها الإنجاب، بل معالجة الإشكالات الناجمة عن الحمل والإنجاب، والتي تمنع المرأة من الوظيفة الاجتماعية في المجتمع، بمعنى آخر: أن لا تهتم المرأة بالحمل والإنجاب، بل تهتم بتحقيق ذاتها في الوظيفة الاجتماعية، (هكذا كما يدعون)، وهذه الرؤية خطر على البشرية، فالإنجاب من مقاصد الشريعة في الزواج، وقد كان أحد الصحابة يمتنع عن الزواج، فقالت له أمنا عائشة – رضي الله عنها-:” تزوج، عسى الله أن يرزقك ولدا صالحا يدعو لك”، وقد جعلت الشريعة أن المقصد الأعظم من الزواج هو الإنجاب للحفاظ على النسل البشري، ولهذا امتن الله تعالى على الناس بالتناسل والإنجاب، ونعمة الأولاد، فقال سبحانه: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل: 72]، فالدعوة إلى ترك الإنجاب والأمومة؛ خرق لنواميس الكون، وكفر بنعمة الله، ولعل من ابتلي من الزوجات والأزواج بحرمان الولد، ليرى مثل هذا الكلام من العبث الذي يخالف الفطرة البشرية، فضلا عن كونه من الأمور التي حث الشرع عليها، كما في صحيح أبي دواد عن النبي ﷺ أنه قال:” تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم”.
ولهذا وجدنا أتباع (الجندرية) في كثير من المحافل الدولية فيما يتعلق بقضايا المرأة يدعون إلى (إباحة الإجهاض)، يعني أننا وصلنا من خلال هذه الدعوة إلى (جريمة قتل النفس البشرية)!
خامسا– الشذوذ والزنا
ومن أهم مرتكزات (النظرية الجندرية) إباحة الشذوذ الجنسي، والدعوة إلى الزنا وعدم الاستياء منه أو إخفائه، بل فعله والحديث عنه جهرا، باعتباره أحد الحقوق لكل إنسان، خاصة المرأة، كما يدعون.
ولهذا كانت الدعوة إلى تعليم الممارسة الجنسية في المدارس، بمختلف أنواعها الطبيعية والشاذة، ولهذا عدوا الأسرة اثني عشر نوعا منها (أسرة الجنس الواحد)..
ولا يشك عاقل- فضلا عن أن يكون صاحب دين- أن الدعوة إلى الشذوذ دعوة فاجرة هدامة، تريد أن تغير بنية المجتمع، وتدمر العلاقة الطبيعية بين الرجل والمرأة، ذلك أنهم يحاربون (قيمة العفة) التي تحفظ للمجتمعات تماسكها، وقد جاء الإسلام لمحاربة تلك الرذائل، وعدها من أكبر الكبائر، ونهى المسلمين عن إتيانها، فقال سبحانه: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 151]، وعد الزنى من أخطر الوسائل التي تورد المهالك، فقال سبحانه: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32]..
إن الخطر الأكبر في (نظرية الجندر) هي أنها تأتي تحت دعاوى خداعة، تجعل بعض الناس- حتى المسلمين- ينخدعون فيها، تحت دعاوى (حقوق المرأة)، و(تمكين الشباب)، و(المساواة بين الجنسين)، ولهذا، فإن الخطر الأكبر في مجتمعاتنا ليست المعارك الحربية ولا المعارك السياسية، إنها (معركة الوعي)، وإدراك الأمور على حقيقتها، فإن ظهرت الأمور على حقيقتها؛ سهل على الناس الحكم عليها، إما بوازع الدين الناصح لهم، أو بوازع الفطرة السوية التي خلق الله الناس عليها.