لأن المستقبل يأتي قبل أوانه بفعل تسارع إيقاع التغير ، فإن رصد وقياس حركة ومكونات الظواهر وبمنهجية كلانية (Holistic) أضحى أحد مسلمات التخطيط لمن يريد الاتساق مع الحياة المعاصرة والتخلص من النظرة الدهرية .
ولكي أطمئن إلى دور الدراسات المستقبلية في تجنيب المجتمعات أكبر قدر ممكن من الصدمات المفاجئة، تتبعت عشرات الدراسات الخاصة بقياس مدى ” دقة” التنبؤات في مختلف المجالات وكيف ساهم ذلك في تجنيب المجتمعات والدول والشركات الكثير من هذه الصدمات التي تصل الى حد الصاعقة، وتبين لي أن التحسن في نتائج الدراسات المستقبلية يتزايد إلى أن بلغ في أخر دراسة استقصائية 82.2% ( دراسة Leon Strous and Vinton Cerf-Internet of Things (2018)، وقبلها قام Philip Tetlock بسلسلة دراسات بدءا من 2006 (Expert Political Judgment) ، وكل نتائجه التي قام فيها مع فريق بحثه بمتابعة 150 ألف تنبؤ وردت في دراسات 743 باحثا، وغطت التنبؤات 199 حدثا (أو ظاهرة) تؤكد ما أشرت له اضافة لنتائج وصلوا لها على النحو التالي:
1- أن معرفة تقنيات الدراسات المستقبلية ومناهجها كانت العامل الحاسم في دقة النتائج، فالباحثون الاكثر معرفة وتطبيقا لهذه التقنيات وصلوا لتنبؤات أكثر دقة واكثر عددا من الباحثين الذين لم يتعاملوا مع هذه التقنيات.
2- كلما كان عدد المتغيرات الخاضعة للقياس والدراسة أكثر كانت النتائج أفضل ، وعليه كان الأقل صدقا في التنبؤات هم أسرى النظرة الأحادية ( العقائديين او الآيديولوجيين او الرغائبيين او الحدسيين…الخ)، وهذه النتيجة جعلت منهجية دلفي ” Delphi) هي الأكثر رواجا بين أصحاب الدراسات الجادة رغم إنها تقنية مرهقة، كما أن مصفوفة التأثير المتبادل (cross impact matrix) وتقنية تحليل التدرج السببي (causal layered analysis) كانتا في المرتبتين الثانية والثالثة.
3- الانفصال عن تاريخ الظاهرة وإيقاعها وتسارعها والتفكير من خلال اللحظة الراهنة كان العامل الأكثر دورا في شطط التنبؤات . استنادا لما سبق لا بد ” لمدارسنا أولا” وجامعاتنا أن تولي الدراسات المستقبلية أهمية كبيرة، ولا بد من إدراك ان رؤية الواقع العربي منفصلا عن تشابكه مع العالم ستؤدي إلى مزيد من الكوارث، ويكفي التمعن في الظواهر التالية التي بدأت اغلب الدول المتطورة تضعها في حسابها لتعمل على التكيف معها قبل وصولها لدرجة الأزمة:
أولا:سوء توزيع الدخل بين المجتمعات وداخلها سيتواصل ويتزايد مع كل ما يترتب على ذلك من تأثير على الطبقة الوسطى التي تمثل نقطة توازن المجتمعات، لكن الملفت للنظر هنا، أن الطبقة الوسطى تتآكل في الغرب (الولايات المتحدة واوروبا) وأغلب دول العالم بينما تتحسن في الصين والهند .
ثانيا: القوة الاقتصادية والسياسية تنزح من الغرب الى آسيا: ويكفي أن ننظر في رقم واحد وهو إجمالي الناتج المحلي مقاسا بالقوة الشرائية ( PPP) وليس القيمة الاسمية، ففي عام 2010 كان الناتج الامريكي هو 13.4 تريليون دولار بينما الصين كانت 5.2 تريليون ، وفي عام 2020 صار الانتاج الامريكي 15.9 تريليون والصيني 15.2 تريليون وباستخدام الاسقاط سيصل الناتج الامريكي في 2030 الى 18.7 تريليون بينما سيصل الصيني الى 31.9 تريليون .
ثالثا: إيقاع التغير التكنولوجي سيتواصل وسيهز المنظومات القيمية والمعرفية للمجتمعات بشكل حاد، فطبقا لدراسة كورزويل (2001-Ray Kurzweil:The Law of Accelerating Returns) فإن التغير يسير بواقع يجعل السنة الواحدة تحمل ما يعادل 200 سنة من تغيرات في القرن الماضي (أي أن السنة تعادل قرنين من الزمن).
رابعا: تزايد الترابط الاقتصادي والتقني بين المجتمعات يرافقه تزايد التفكك السياسي والاجتماعي، ويكفي أن نلاحظ أن عدد الحروب ” بين الدول” سنويا منذ 1946 الى الآن لم يصل إلى عشرة حروب في السنة في مناطق مختلفة ، كما أن الاتجاه العام للحروب بين الدول يتناقص بشكل واضح في كل المناطق، لكن بالمقابل ارتفع عدد الحروب الداخلية أو الأهلية من معدل 20 حربا عام 1948 الى 54 حربا عام 2018، ويعود أهم سبب لتزايد الحروب الاهلية إلى عجز المجتمعات والدول عن التكيف مع الإيقاع السريع للتغيرات الخارجية والداخلية ، فالعجز عن مواجهة تعقيدات البيئة الدولية تدفع إلى الردة الداخلية.
خامسا: تناقص مساحة وظيفة الدولة لصالح كيانات ما دون الدولة وما فوقها، ولعل تزايد الميل باتجاه خصخصة الوظائف التقليدية للدولة هي السمة المركزية في هذا الجانب، فلو أخذنا الصين كصاحبة اكبر قطاع عام (الدولة الاشتراكية) فإن 60% من ناتجها المحلي ياتي من القطاع الخاص، و 70% من الاختراعات فيها تاتي من القطاع الخاص، و 80% من الموظفين في مختلف القطاعات (باستثناء الجيش) يعملون في القطاع الخاص، و90% من صادرات الصين تأتي من القطاع الخاص.
ومن المؤكد أن تنامي الخصخصة ليس منفصلا في تاثيره وتداعياته عن التراجع التدريجي للاحزاب لصالح بقية تنظيمات المجتمع المدني، كما ان شركات الامن الخاصة قد تكون مقدمة لتحولات هائلة في الوظيفة التقليدية للدولة لاحقا، على غرار خصخصة الكهرباء والماء والمواصلات والتعليم…الخ.
لكل ما سبق..لماذا ننتظر ؟ إنني أطالب بإدخال هذا الموضوع في مناهجنا التعليمية، واعادة هيكلة دكاكين مراكز الدراسات الاستراتيجية في الدول العربية، وعلى كل وزارة أن يكون فيها وحدة متخصصة في هذا الجانب …لقد تعبت معي ربما…