حقق عمل توينبي الشهير (دراسة للتاريخ) شهرة فائقة لصاحبه حملته إلى مصاف المفكرين الأوروبيين العظام، ويكفي أن نشير إلى أن أنصاره شبهوا نظرياته في هذا الكتاب بمكتشفات كوبرنيكوس وجاليليو ونيوتن العلمية، وشبهوا منهجه في الدراسة التاريخية باكتشاف نظرية الكم في الميكانيكا، ونعته بعض المتحمسين بأنه مؤرخ القرن العشرين بلا منازع إذ ليس هناك من ينافسه في معرفته الواسعة بالحضارات العالمية وفي مكانته العلمية، وحتى نقاده لم يسعهم سوى الاعتراف بفضله على علم التاريخ وأنه حطم ضيق أفق المؤرخين التقليديين بتوجيهه الانتباه إلى موضوعات كان من المعتاد تجاهلها، فماذا قدم توينبي في كتابه، وما هي نظريته في نشوء وانحدار الحضارات، وما هي رؤيته للعلاقة بين الدين والحضارة.
دراسة للتاريخ (1934-1961)
في عام 1934 شرع توينبي في إصدار عمله الموسوعي دراسة للتاريخ، وكان يظن أنه فرغ منه عام 1954 بإصداره الجزء العاشر الذي يكاد يكون سيرة ذاتية، لكنه عاد وأضاف مجلدين آخرين عام 1961، فضمن المجلد الحادي عشر بعض الخرائط والمصورات المتصلة ببحوثه، وضمن الثاني عشر تصويبات بعض آراءه في الأجزاء السالفة والرد على منتقديه، وتختلف هذه الموسوعة عن غيرها من المصنفات التاريخية من وجوه؛ منها طواف توينبي بمعظم أرجاء العالم باحثا ومنقبا عن الحضارات المختلفة الأمر الذي جعل لموسوعته وزنا خاصا وقيمة عملية لا تتوافر للمصنفات التي تستند إلى المعلومات المتضمنة في الكتب، ومنها عمل توينبي في الخارجية البريطانية الذي سمح له بالاطلاع على حقائق ومعلومات لا تتوافر لمعظم المؤرخين الآخرين، ومنها منهجه التاريخي الذي يتجه صوب دراسة الحضارات والمجتمعات.
وكان توينبي قد أوضح في المجلد العاشر أن هدفه لم يتعد في الأصل كتابة تاريخ مقارن لتدهور الحضارة الغربية الحديثة مقارنة بالحضارة اليونانية الرومانية القديمة، ولعله كان متأثرا في ذلك بالجو النفسي الذي عاشه جيله إبان الحرب العالمية الأولى التي دفعت البعض بأن الحضارة الغربية سائرة في طريق الأفول والاضمحلال، ولكنه سرعان ما ابتعد عن هذه النظرة الثنائية نحو نظرة أكثر عمقا وتعددية؛ وتتمثل في دراسة كافة الحضارات والبحث عن عوامل سقوطها ومحاولة استخلاص قانون عام لذلك والتنبؤ من خلاله بمصير الحضارات القائمة، وبهذا النهج تحول توينبي من مؤرخ إلى فيلسوف يمزج الفلسفة بالتاريخ.
انبعاث الحضارات وسقوطها
تتمثل الدراسة التاريخية الحقة لدى توينبي في دراسة الحضارات بدلا من العصور، وقد قسم هذه الحضارات إلى إحدى وعشرين حضارة لم يتبق منها إلا خمس حضارات وهي: المسيحية الغربية، المسيحية الأرثوذكسية، الإسلامية، الهندية، الشرق الأقصى، وقد انطلق في دراسته للحضارات المختلفة من ثلاثة تساؤلات، وهي: كيف ولماذا تنبعث الحضارات، وكيف ولماذا تتقدم، وكيف ولماذا تنهار؟.
– كيف ولماذا تنبعث الحضارات، يرفض توينبي الفكرة القائلة أن جنسا ما هو الذي يقود أمة إلى التحضر، ولذا يسخر من القائلين بتفوق الجنس الأبيض على غيره من الأجناس، ويعتقد أنه ليس هناك جنس أسهم وحده في صنع الحضارة وإنما الحضارة من صنع الشعوب جميعا، كما يرفض بالمثل الفكرة القائلة بأثر البيئة الجغرافية في صنع الحضارة، ويطرح بالمقابل فكرة التحدي والاستجابة ومفاداها أن ظهور الحضارة يحدث نتيجة تحدي إما للبيئة المادية أو للوسط البشري، أو لكليهما معا في ظل زعامة مبدعة، وتنهار الحضارات حينما تعجز عن الاستجابة للتحديات فتتحول بذلك الزعامات المبدعة إلى زعامات أقلية مسيطرة، يرفض أبناء المجتمع الخضوع لها ومنحها الولاء والتأييد.
– كيف ولماذا تتقدم الحضارات، يحدث الارتقاء الحضاري وقتما تصبح الاستجابة لتحد معين ناجحة نجاحا مزدوجا، ليس في ذاتها فحسب وإنما تثير كذلك استجابة حضارية إضافية، وهنا يثور التساؤل حول كيفية قياس الارتقاء الحضاري، وما مدى ارتباطه بالسيطرة على المجتمعات الخارجية؟ ويجيب توينبي أن هنالك نوعان من السيطرة، أحدهما سيطرة على البيئة البشرية، وتأخذ شكل غزو المجتمعات المجاورة، والآخر سيطرة على البيئة المادية، وتأخذ شكل التوسع في المعرفة التكنولوجية والاكتشافات العلمية المادية، وكلاهما لا يعد برأيه دليلا على الارتقاء، فالارتقاء الحقيقي هو عملية كاملة يطلق عليها “التسامي” وهي ترنو إلى التغلب على الحواجز المادية، وإطلاق القدرات العقلية من عقالها لتستجيب للتحديات التي تبدو أنها تنطلق من داخل النفس أكثر من خارجها، أي أنها روحانية أكثر منها مادية، أو ذاتية بأكثر منها موضوعية، وعلى هذا فإن الارتقاء يحدث من خلال الأفراد المبدعين الذين يلهمون مجتمعهم ويوجهونه نحو الارتقاء.
– كيف ولماذا تنهار الحضارات، يجمل توينبي مظاهر الانهيار الحضاري في ثلاث نقاط، وهي: خفوت الطاقة الابداعية، سحب الأغلبية ولائها وتأييدها للأقلية الحاكمة المسيطرة، وضياع وحدة المجتمع الداخلية. وهذه المظاهر الثلاث تعني رفضه فكرة أن الحضارات تسقط لأسباب خارجية عنها كتعرضها لغزو خارجي، ورفضه لفكرة أن المجتمعات تشبه الكائن الحي الذي يمر بأطوار الطفولة والكهولة ثم الشيخوخة والموت.
الدين والحضارة
يؤمن توينبي بأن العقائد الدينية تلعب دورا في مجريات التاريخ ويذهب إلى حد القول أن الدين يكمن وراء كل الحضارات الإنسانية القائمة، وأن الحضارات تولدت من رحم الأديان، فالحضارتان المسيحية الغربية والأرثوذكسية تولدت عن المسيحية، والحضارتان الإيرانية والعربية تولدتا عن الإسلام، وحضارات الشرق الأدنى تولدت عن البوذية، والحضارة الهندية تولدت عن الهندوسية، وعلى هذا يقترح توينبي أن يدرس التاريخ كوحدة واحدة شاملة وأن يبعد التاريخ الاقتصادي والسياسي إلى المرتبة التالية من مراتب الدراسة التاريخية، وأن يجعل التاريخ الديني في المقام الأول لأن الدين حسب تعبيره هو “الأمر الخطير الذي يهم الجنس البشري”.
ويفترض توينبي أن الأديان العالمية الكبرى وهي: المسيحية والإسلام والبوذية والهندوكية ترتبط فيما بينها ارتباطا وثيقا، وهذا الارتباط يبدو واضحا في إيمانهما بوجود إله مخلص يضحي بذاته من أجل البشر، وفي تشابه تجربتهما التاريخية، فتأثير المسيحية الديني والسياسي لم يتضح إلا بعد مضي ثلاثة قرون على رسالة المسيح مع إيمان الإمبراطور قسطنطين للمسيحية، وبالمثل البوذية لم يصبح لها نفوذ إلا بعد اعتناق الأمبراطور أشوكا لها بعد قرنين من وفاة بوذا، أما الإٍسلام فقد بدأ تأثيره يظهر في حياة الرسول، ومن جانب أخر يحمل الإسلام والهندوكية نظرة أكثر عمقا للإله.
إن الإسلام -كما يقول توينبي- قد أعاد توكيد وحدانية الله في مقابل تخلي المسيحية الواضح عن هذه الحقيقة، ويعتقد توينبي قوة الإسلام الذاتية تجسدت في ذلك المبدأ الذي حمله الرسول صلوات الله عليه وهو “إسلام النفس لله وحده” وأنه لم ينتشر بفعل “القوة المادية” وإنما بفعل خصائصه الذاتية، لكنه يدعي في المقابل أنه كان يمكن أن يصبح أسمى روحيا مما هو عليه لولا الهجرة وما استتبعها من تأسيس دولة المدينة التي تمثل بالنسبة له بداية الانحلال، وهذا الرأي يستغرب صدوره عن مؤرخ مثله حيث يبدو فيه تأثره الواضح بالعقيدة المسيحية ومحاكمته الإسلام على ضوئها، وهو لا يخفي ذلك وإنما يصرح أن عقائده هي التي تتولى توجيهه وإرشاده، ويأخذ عليه بعض الدارسين أن كتابه (دراسة للتاريخ) مليء بالتشبيهات والاقتباسات من العهدين القديم والجديد، وأن التعاليم الدينية لها وزنها الخاص لديه.
وعلى الرغم من ذلك فإن توينبي يعد إجمالا من المؤرخين الغربين المنصفين، وهو يصدر في آرائه من إيمان عميق بوحدة الإنسانية وتجربتها الحضارية، وبالأواصر التي تربط الأديان العالمية، وهو يقول أنه كان يستهدف من وراء كتابه تعريف الأمم بعضها ببعض، وإطلاع كل منها على التجربة السياسية والحضارية للأخرى، وهذه المعرفة من شأنها أن تقلل من كراهية الأمم بعضها لبعض وتفتح آفاق التفاهم الإنساني.