(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) يمكن خط الحياة الطيبة في شكل معادلة ربانية لا يشكك في نتاجها وهي:
عمل صالح + إيمان = حياة طيبة
فهناك شرطان لتلك الحياة أولهما: العمل الصالح هو كل عمل نافع للناس وهو ترجمة حقيقة لغاية هذه الأمة “النافعة للناس” (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [ آل عمران: 110] فهذه الأمة خيرها للناس كل الناس، ولكن هذا العمل الصالح ينبغي أن ينبني على الإيمان بالله وهو التسليم الكامل لله ورد كل الأمور وكل الأعمال وكل الخير الذي يقدمه الإنسان له جل وعلا..إذ لا حول للإنسان ولا قوة إلا بالله…ووجه آخر أنه يمكن أن يكون هناك عمل صالح بلا إيمان وهذا يأخذ جزاءه في الدنيا ولا يعقب في الآخرة..ولكن الإيمان يضيف بعدا آخرا في الجزاء وهو بعد الآخرة.
ومما قيل في معنى الحياة الطيبة: أنها الرزق الحلال [في الدنيا] وأنها السعادة..وحلاوة الطاعة والاستغناء عن الخلق والافتقار إلى الحق وقال الإمام جعفر الصادق: (هي المعرفة بالله وصدق المقام بين يدي الله).
والحقيقة الواقعة أن مفهوم “الحياة الطيبة” والذي شرطه العمل الصالح والإيمان: إنما هو مفهوم يمتد من داخل الإنسان وباطنه إلى خارجه وظاهره ثم إلى حياته الأخرى .. فوعد الله ليس وعدًا جزئيًا أو منقوصًا لمن حقق الشرط وقام عليه بالحق..وإن الحياة الطيبة هي غاية كل مؤمن لأنها غاية القرآن ذاته .. وهي مقابلة لحياة الشقاء في الدنيا. والشقاء مفهوم شامل أيضًا يبدأ من داخل الإنسان ويمتد إلى خارجه وإلى الحياة الآخرة…
والحياة الطيبة أيضًا هي حياة الاطمئنان الوجداني واليقين العقلي والسوية النفسية لأنها قائمة على الإيمان: أي التسليم، وهي أيضًا حياة الحركة الصالحة والفعل الصالح والفكرة النافعة والقول الخير..لأنها قائمة على العمل الصالح للناس.
إن حياة المؤمن هي بطبيعتها حياة طيبة تقوم على: الرضا والتسليم والتعلق بالله وحده.. وهذا كفيل بتحقق تلك الحياة في نفس المؤمن وفي ضميره وفي واقعه وفي دنياه وفي آخرته.
إن حياة المؤمن هي بطبيعتها حياة مطمئنة لأنها تخضع لنواميس مختلفة عن النواميس الوضعية المتأرجحة والمتذبذبة التي ترضي الإنسان يومًا وتغضبه أيامًا..هي نواميس القضاء والقدر فيستبعد الحزن والشقاء على ما فات وينضبط قلبه بالفرح بما هو آت (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور) [ الحديد: 23].
إن المسلم يحيا في ظلال “الحياة الطيبة” بهذا الانضباط الوجداني والعقلي في ميزان الأمور وحساب مكاسبها وخسائرها ولكن بميزان الحق لا ميزان الخلق..
في أحوال القلوب
هكذا يوضح القرآن قلوب الناس “قلوبهم شتى” [ الحشر:14] أي متفرقة وأنواع مختلفة ومتقلبة في موقفها من الإيمان..ولكنه يحدد نوعين من القلوب فيما يتعلق بموضوع الإيمان: فهناك القلب السليم ونقيضه القلب المريض. والقلب السليم من قوله (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء:89] وهو القلب الحي: الذي ما زال يشعر عند ارتكابه الذنوب أنه على خطر عظيم..فيعود سريعًا إلى حظيرة التوبة والاستغفار والإلحاح في الدعاء بأن يغفر الله ذنبه ويتوب عليه ويسأله ألا يعود إليه، وهذا نفع القلب الذي استُثني من فعل “ينفع” ..والنفع: هو الإفادة وهو صنع الخير وأي إفادة أكبر من تنبيه القلب لصاحبه حال الخطر والمعصية..فإن ذلك حتمًا يحقق له السلامة المرجوة في الدنيا والآخرة .
والقلب السليم نقيض -كما ذكرنا- للقلب المريض.. والمريض لا ينفع بل ربما يضر..حيث ينقل الأمراض إلى غيره من الأعضاء وإلى غيره من البشر…ومرض القلب هو إصراره على الذنب والمعصية بصورة يتجاوز بها الحدود والقيود والقيم حتى يصل إلى العمى (إِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور) [الحج:64]…فالقلب المريض يطمس على الأعضاء وظيفتها الإيمانية فيصمها عن سماع الهدى وسماع النصح.. فلم يعد هو ولا غيره من الأعضاء يرون المعصية معصية ولا الذنب ذنبًا من كثرة الران.. (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [ المطففيين:14] والقلب إذا غطاه الران جعل صاحبه متجرئ على الله ليس حافظًا له ..مستمرئ للكذب عليه وعلى الناس ..وهذا الاستمراء للكذب يقوده إلى الفجور من أجل إرضاء شهواته ونزواته التي تملكت قلبه وهيمنت عليه ورأى فيها حياته… وبئس الحياة!!! القلب المريض يجعل صاحبه في حالة موات إيماني بينما يرى هو حياته في ارتكاب المعاصي والكبائر فهذه فقط هي التي تشعره بوجوده الزائف والمريض…وهذا القلب المريض مات ..مات عن أن يرى في الطاعة منجاةً له في الدنيا والآخرة ..مات عن أن يرى في المعصية هلاكًا له في الدنيا والآخرة..مات عن أن يرى في الخير خير وفي الشر شر..
(قلوٌب مطمئنٌة) و (قلوٌب مُّنكِرَةٌ)
وهذا نوع آخر من مقابلات القلوب في القرآن (قلوٌب مطمئنٌة) (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [ الرعد: 28] قلوب مطمئنة بالذكر والذكر هو القرآن ووظيفة القلب مع القرآن هي التدبر، فتدبر القلب سابق على تدبر العقل (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد:24] ..
والذكر يورث الورع والتقوى في النفس فيتعفف بها أن تكون نفس أمارة بالسوء، بل هي بين النفس المطمئنة التي تناسب حالة الذكر أو بين النفس اللوامة التي تناسب القلب الحي القلب السليم الذي يحرص دائمًا على الطهارة الداخلية كحرصه أو أشد على سلامة مظهره وملبسه من الاتساخ، واتساخ القلب بالذنوب، والقلب المذنب هو القلب المنكر –لحظة الذنب- للغيب وللحساب، وقد يكتسب المسلم بعض صفات الكافر حال ذنبه فينكر قلبه الحساب على الذنب، فيستهين به، وربما يصر عليه ويستكبر فيصير قلبه منكرًا ويصير من الذين (قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ) لم تعد تنفعها وعظ ولا دعوة إلى هداية..
وهذه القلوب المنكرة التي تجنبت (الذكر) وتنكرت للهداية والوعظ والنصح والإرشاد تؤهل صاحبها لحياة الشقاء في الدنيا (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) [طه:124] وفي الآخرة حال الإصرار واستمرار الإنكار..وهذا على نقيض أصحاب القلوب المطمئنة التي استجابت للذكر ونفعها في الدنيا والآخرة فهي تعيش باطمئنان في الوجدان والنفس والقلب وفي الحواس والسلوك والتفكير في الدنيا فعرفوا ربهم وعرفوا قدره وعظمته فأطاعوه وخافوا المعصية والذنب فتركوها ورعا وتقوى.