المسلمون اليوم أقدر الناس على تقديم الخطاب الإيماني الذي يلبي حاجة البشرية ويخفف عنها أعباءها ويمنحها الشعور بالطمأنينة والسكينة والسعادة. ذاك لأنهم يملكون عقيدة التوحيد التي تربط كل هذا الكون بمجراته وذرّاته وعوالمه المختلفة بإله واحد.

والإيمان بوجود إله واحد للكون يلغي فكرة العشوائية والفوضوية والمصير المجهول المقلق للتفكير البشري.

لكن الخطورة كل الخطورة أن يظهر عندنا خطاب (إيماني) يثير القلق بدل الطمأنينة والكراهية بدل الرحمة، والإهمال واللامبالاة بدل الحزم والانضباط.

الإيمان يا إخوة عقيدة جازمة واضحة سهلة مفهومة للجميع، لكننا حينما نقدّمها للناس بفلسفاتنا وأمزجتنا فإننا نجني على العقيدة أولا ونجني على الناس ثانيا.

كان الرجل يأتي إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم– فيدخل الإيمان في قلبه بمقابلة واحدة، ثم ينطلق في ميدان العمل والجهاد وتحمل المسؤولية دون فلسفات ولا لف ولا دوران، فانظروا اليوم حجم ما يلقى على الناس من علوم ومؤلفات ومحاضرات في (العقيدة) ثم انظروا في ميدان السلوك والعمل.

خذوا هذا المثال وفي جزئية واحدة؛ في أحد المجالس قال لي صاحب المجلس: أتدري لماذا تزداد حوادث المرور عندنا مع أن أغلب الشباب المتهور المتسبب في هذه الحوادث هم يصلّون ويصومون؟ لأنكم أقنعتموهم أن كل ما يحصل لهم إنما هو قضاء وقدر، وأن الاحتياطات والتحذيرات والتعليمات كلها لا تقدم ولا تؤخر، قلت: لكن هذه أسباب ويجب الأخذ بالأسباب، قال: وكيف سيقتنع الشاب من داخله بأهمية الأخذ بالأسباب إذا كان مقتنعا بنفس الوقت أن هذه الأسباب لا تقدم ولا تؤخر، بل هو مقتنع أن مصيره هذا مقدّر عليه ولا يستطيع الفرار منه مهما فعل؟ المسألة التي لم يستطع كبار علماء العقيدة أن يحسموها فيما بينهم تريد من هذا الشاب المسكين أن يحسمها؟

ثم في أزمة كورونا انظروا كيف أدخلَنا الخطاب الوعظي بمتاهات وتناقضات، لا أريد أن أستعيدها هنا ولا أن أثقل رؤوسكم بها. لقد آن لنا أيها الإخوة أن ننظر في سيرته -عليه الصلاة والسلام- وما الذي كان يقدّمه للناس وهم يتعرّفون لأول مرّة على الإسلام، ماذا كان يقول لتلك القبائل العربية التي دخلت في دين الله أفواجا، وكيف وجههم نحو واجباتهم دون عقبات؟ كم كان منهم من يحفظ تفاصيل المسائل العقدية، كم كان منهم من يحفظ ما عرف فيما بعد بمشكل الحديث أو غريب الحديث، تجد الحديث لا يعرفه إلا صحابي واحد، أما جماهير الصحابة فعاشوا وماتوا ولم يسمعوا به، هذا فضلا عن أن يتناقشوا فيها أو يدعوا الناس لها، بينما انظروا إلى بعض منابرنا كيف تترك المحكمات الواضحات ثم تجتهد في البحث عن الغرائب والخفايا، لا أدري ربما لأنها تستهوي القرّاء والمستمعين، مع أنها قد تكون فتنة لهم أو لمن وراءهم، ولقد قال سيدنا ابن مسعود -رضي الله عنه- كما في رواية مسلم: ” ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة.

الناس يا إخوة يا أخوات بحاجة إلى الإيمان الصافي الواضح الذي يجمعهم ولا يفرقهم، ويثبتهم ولا يشككهم، ويدفعهم للعمل ولا يثبطهم، أما التفاصيل العقدية والكلامية والتأملات الفلسفية والخلافات المذهبية فاحصروها في غرف التعليم الخاص والحوارات المختصرة بينكم يا طلبة العلم ولا تشغلوا بها الناس -بالله عليكم-.